داريوش مهرجوئي يكتب: “الختم السابع” وصدمة الكشف
كتابة: داريوش مهرجوئي
ترجمة: أمين صالح
المخرج الإيراني الكبير، داريوش مهرجوئي (مواليد 1939)، الذي دشّن مع مخرجين آخرين، من بينهم مسعود كيميائي وسهراب شهيد ثالث، حركة الموجة الجديدة الإيرانية في بداية السبعينيات، والذي حقّق عدداً من الأفلام الهامة والرائعة مثل: البقرة (1969) ساعي البريد (1973) الدائرة (1975) ليلى (1996) شجرة الكمثرى (1998)، يقدّم هنا رؤيته الخاصة حول فيلم إنجمار بيرجمان “الختم السابع”، ومدى تأثير الفيلم عليه، على المستوى الشخصي والسينمائي.
******
إن إدراكي الأول بأهمية وقيمة السينما، بوصفها تعبيراً فنياً، حدث عندما كنت في الخامسة عشرة من العمر، وشاهدت في طهران فيلم فيتوريو دي سيكا “سارقو الدراجة”. وقتذاك كان هناك، في طهران، عدّة أندية للسينما، إضافة إلى المهرجانات السينمائية، التي أتاحت لي الفرصة لأن أشاهد أفلاماً أجنبية. أذكر مشاهدتي لفيلم أكيرا كوروساوا “الساموراي السبعة” الذي مارس أيضاً تأثيراً كبيراً عليّ.
في العام 1960 ذهبت إلى أميركا لدراسة السينما في جامعة بيركلي، لكنني غيّرت مادة الدراسة من السينما إلى الفلسفة، وذلك لأنني أصبت بخيبة أمل من قسم السينما في الجامعة هناك. كنت آنذاك مستغرقاً في الكثير من القضايا والأسئلة الكبيرة: الموت، الوجود، معنى الحياة.
في ذلك الحين شاهدت فيلم إنجمار بيرجمان “الختم السابع” (1957)، وقد مارس عليّ تأثيراً هائلاً. قبل أن أشاهد هذا الفيلم اعتقدت أن السينما مجرد أحد أشكال الترفيه والتسلية السطحية، وذلك لأنها كانت عاجزة عن طرح مثل تلك الأسئلة الفلسفية الجادة. بيرجمان هو الذي جعلني آخذ السينما بجديّة.
التقائي به، وبأفلام الموجة الفرنسية الجديدة: الأربعمائة طلقة (1959) لفرانسوا تروفو، على آخر نفس (1960) لجودار.. وأفلام أخرى، هذه اللقاءات جعلتني شديد التوق والحماس على مواصلة اهتماماتي السينمائية، والسعي للخوض في هذا المجال.
أردت أن أحقّق أفلاماً لكنني أدركت أن دراسة السينما سوف لن تكون كافية، سوف لن تمنحني خلفية ثقافية وافية. وقد اخترت الفلسفة لأنها، كما قال أفلاطون، “أم كل العلوم”. وهي بالنسبة لي ستكون أساسية لأنها تشمل كل الأشياء: السياسة، الأدب، علم الاجتماع.. وغيرها.
شاهدت “الختم السابع” في 1961، في صالة سينما فنية صغيرة مع بعض الأصدقاء الإيرانيين. ولأنني كنت أعرف شيئاً عن بيرجمان، فقد كنت أترقّب الفيلم بلهفة. وكان له، كما أشرت، تأثيراً هائلاً عليّ. وكان حاسماً في اختياري السينما كوسيلة تعبير فني.
ما جذبني حقاً هو المظهر الديني للفيلم: توكيده على تلك الأسئلة ذاتها التي تتصل بالحياة والموت والوجود، والتي كانت أسئلتي في ذلك الحين.
لم أرد أن أحقّق أفلاماً لمجرد تسلية الآخرين أو كسب المال. كنت أبحث عن وسيلة للتعبير عن الذات. وقد أصبحت مهتماً بالسينما لأنها بدت لي شيئاً قادراً أن يشمل كل الفنون.
******
في شبابي كنت شخصاً متديّناً جداً. لكنني كنت آنذاك مترعاً بالشك، والذي سبّب لي مكابدة ومعاناة هائلة. كنت، نفسياً، في حالة سيئة لمدة عامين، وعلى وشك أن أفقد إيماني بالله. لذلك انتابتني كل تلك الأسئلة والشكوك.
عندما شاهدت تلك القضايا الجوهرية ذاتها منعكسة في فيلم “الختم السابع” بطريقة جميلة وقوية للغاية، حرّك الفيلم مشاعري بقوة.
هناك شكّ الفارس (الذي مثّله ماكس فون سيدوف)، العائد من الحروب، والذي يرتاب في وجود الله. هذا الفارس يشعر بالحيرة والارتباك من جراء لعبة الشطرنج التي يلعبها مع الموت.
حضور الموت هنا مرئي بطريقة حيوية وقوية وعنيفة. إن بساطة ونقاء كل هذه العناصر جعل من مشاهدة الفيلم تجربة دينية صرفة بالنسبة لي.
كانت هناك أيضاً عناصر أخرى عديدة ومتنوعة سحرتني. من جهة، الفيلم يتعامل مع العصر الوسيط ومأزق الفارس. ومن جهة أخرى، هو فيلم حديث جداً: شخصية يوناس بسلوكه التهكمي، الساخر، الشاك تجاه كل تلك الأسئلة الكبيرة. علاوة على ذلك، هناك مظهر من البراءة والشر.. المشعوذ وزوجته. هو لديه رؤيا عن ملاك. ثم يرى الملاك فينال العقاب بسبب ذلك.
ثم هناك الثيمات الفرعية مثل مأزق الممثل، محاولته لأن يسلّي جمهوره، وتقديمه الاعتراف بشأن مهنته.
إن اتحاد كل هذه العناصر، مع توظيف بيرجمان المبتكر للتصوير بالأسود والأبيض، كان بمثابة كشف، بالنسبة لي.
******
قد يكون هناك ضرب من الصدى في ما يتصل بخلفيتي الشيعية أيضاً. ذلك بسبب الهاجس ذاته: التعامل مع فكرة الله والملائكة والشيطان، ومعنى الوجود في هذا العالم.
في ذلك الوقت، إيران لم تكن جمهورية إسلامية. لكن ربما كان ثمة شيء بداخلي – عنصر ثقافي مطمور عميقاً – والذي استجاب إلى هذه اللغة المجازية. ومثلما كان اختيار بيرجمان لمسيحية القرون الوسطى عصرياً، كذلك أرى حداثةً معيّنةً في المذهب الشيعي: إنها ثورة ضد التأويل السائد للقرآن، والتي تحاول أن تتخطى التأويل التقليدي، وتسمو فوقه. هذا يسمح لاستشراف مختلف، ووجهة نظر جديدة. لهذا السبب هناك مجموعة تامة من الفلسفة الإسلامية التي تنبع من المذهب الشيعي، كما أن هناك عدداً من المفكرين ضمن هذا الاتجاه.
*******
إن الطريقة التي بها يستخدم بيرجمان السينما، كوسيلة للتعبير عن البحث الديني، ترك أثراً قوياً عليّ. البحث عن القيم الروحية، من دون أن يكون مضجراً. إنجازه على نحو بليغ هو في التعبير عن كل هذه الأفكا والمشاعر والرؤى ضمن البنية المحدودة لفيلم لا تتجاوز مدّته الساعتين.
بوجه خاص، صورة الفارس وهو يلعب الشطرنج مع الموت فجراً، سوف تلازمني على الدوام. كذلك الاعتراف الصادق الذي يدليه الفارس أمام القسيس.. الذي يتضح أنه الموت، والذي يقول له: “الآن صرت أعرف أية حركة في اللعبة سوف تقوم بها في المرّة التالية”.
هناك مرحلة في تنامي الأحداث، حين يذهب المشعوذ إلى حانة ويتعرّض للعقاب. ذلك الممثل كان رائعاً للغاية. والمشهد الذي فيه يجعلونه يرقص مثل الدب، كان مصوّراً على نحو فعال جداً. ربما ثمة تماثل لا واعٍ مع الطريقة التي يعبّر بها بيرجمان عن الإحساس بالسلطة الاستبدادية الموجهة ضد ذلك المشعوذ.. ضد “الفنان” في الواقع.
******
لقد شاهدت، في موطني، العديد من أفلام هوليوود. لكن هذا الفيلم كان بحق شيئاً مختلفاً تماماً. إن بنية الفيلم، باستخدام الأسود والأبيض، مع هيمنة الأسود، هي مؤثرة جداً. والمزيج بين الواقعية والسوريالية منجز ببراعة بالغة إلى حد أنك ترى فجأة الموت في هيئة كائن بشري، إنسان، من دون أن يكون مضحكاً أو لامعقولاً، بل قابلاً للتصديق. إنه أشبه بالحالة التي تجد نفسك فيها، عندما تكون عينك مدرّبة على اللوحة الكلاسيكية وفجأة تشاهد أعمال فان غوخ: عندئذ تشعر بصدمة الكشف.
ذلك هو ما تشبهه مشاهدة فيلم “الختم السابع”: صدمة الكشف. شيء غريب وجديد. كما لو تقول لنفسك: هذا هو الوسط ذاته، لكنه مختلف جداً.
ما يفرّق أو يميّز بين عمل فني وعمل آخر غير فني هو المدى الذي إليه يستطيع العمل أن يجعل من صورة ما، أو حالة ما، شيئاً غير مألوف، ويستطيع أن يجعل من المألوف شيئاً غريباً، بطريقة أو بأخرى. هذه هي الصور التي تحملها معك، وليست تلك التي تستهلكها في الصالة ثم تنساها.
بيرجمان كان يستخدم السينما بطريقة جديدة. لم يكن معنياً بالسرد السينمائي التقليدي. قصة “الختم السابع” هي انطلاق من “الرحلة” التقليدية. وأظن أنه، من خلال هذا التلاعب العميق بالسرد، يحقّق فتنةً كونيةً.
المصدر:
Sight and Sound