يوميات الموسترا (8): “داااااالي”.. رؤية عبثية للفنان بنكهة بونويل
أمير العمري
لم يكن هذا فيلماً ككل الأفلام التي شاهدناها في الدورة الـ80 من مهرجان فينيسيا السينمائي (30 أغسطس- 9 سبتمبر) بل جاء في الحقيقة، مفاجأة لعشاق السينما، فالفيلم عرض خارج المسابقة، وكان يمكن جدا أن يكون في المسابقة بل وأن ينال أيضا إحدى الجوائز، بتفرده وتميزه وطرافته الشديدة، وسط غيره من الأفلام.
إنه نوع من الكوميديا الجادة- إن جاز التعبير- أي كوميديا تلعب على الخيال، والمتخيل، وتقوم على افتراضات ترتبط بالشخصية الشهيرة التي تتناولها، أي شخصية الفنان التشكيلي الكبير سلفادور دالي (1904- 1989). وأنت طيلة الوقت، تضحك لكنك تفكر، وتشحذ تفكيرك لكي تتذكر ما شاهدته من لوحات وأفلام، وتعثر على ما يربطها بالفيلم، ويربط الفيلم بها.
اللقطة الأولى التي تظهر على الشاشة وتستمر لنحو دقيقة وتنزل عليها عناوين هذا الفيلم الغريب الطريف المثير، محتوياتها عبارة عن: بيانو وسط صحراء قاحلة، في قلب البيانو ثقب كبير، أو دائرة كبيرة، يتدفق منها الماء الأزرق كما لو كان من مياه البحر الذي لا وجود له، وبدلا من صوت تدفق الماء نسمع صوت الموسيقى مع دقات البيانو السريعة.
إنها لقطة سيريالية تماما، تتسق مع عالم الفنان السريالي الشهير سلفادور دالي الذي يقدم الفيلم أكثر من “بورتريه” له، في جنونه وهوسه بالذات، وشخصيته الطاغية المهيمنة، وعلاقته بالعالم، فهو ليس عن رسوماته، بقدر ما هو عن دالي نفسه، أو دالي كما يراه الفنان والسينمائي الفرنسي الموهوب كونتين ديبيو Quentin Dupieux، في سياق كوميدي يمتلئ بالمبالغات المقصودة التي تنسجم مع أسلوب دالي نفسه، وتنبع الكوميديا من هذه المفارقات الكثيرة التي يتضمنها الفيلم، وأهمها اللعب على مشهد الحلم الشهير من فيلم “سحر البورجوازية الخفي” للمخرج السيريالي الاسباني الكبير لويس بونويل. والفيلم بأسره يعتبر بمثابة تحية إلى هذين العملاقين اللذين شكلا سيريالية القرن العشرين.
فيلم “داااااالي” Daaaaaaali “متعة للعين وللأذن، لعشاق السينما الخالصة، هذه المرة، في قالب ساخر، فيه جموح وجنون، المخرج والمؤلف ديبيو الذي عُرف بنظرته التهكمية للعالم. وهو هنا يتهكم، ويضحكنا، ويسخر ويذكرنا، ويرسم صورة متخيلة للفنان التشكيلي المرموق، قد تكون فيها ملامح كاريكاتورية كثيرة، إلا أنها تعبر أيضا عن حبه، وإعجابه بهذا الفنان الجامح.
الفيلم لا يروي قصة حياة دالي ولا يلخصها، ولا يزعم أصلا أنه سيقدم لنا “الحقيقة” عن دالي، بل إنه يفتتح فيلمه بعبارة مكتوبة على الشاشة تقول كلماتها إن ما سنشاهده هو عبارة عن “سيرة حقيقية مزيفة”، وهي عبارة ساخرة تتسق مع الأسلوب العام للفيلم، وأسلوب مخرجه، المعروف بأفلامه الكوميدية الساخرة التي تتميز أيضا بأسلوبها السيريالي. وديبيو فنان سينمائي شامل بمعنى الكلمة، فهو الذي كتب فيلمه، وصوره وقام بعمل المونتاج له، إلى جانب إخراجه بالطبع.
يسير السرد في الفيلم في سياق مراوغ، مثل دالي نفسه كما نراه، والموضوع هو كيف يمكن لصحفية شابة مبتدئة، أن تجري مقابلة مع ذلك العملاق الذي سيظهر لنا في صورة (متخيلة بالطبع) من خلال أداء عدد من الممثلين لنفس الشخصية، كما لو كان كائنا أسطوريا، عصيا على الفهم، لا يمكنها أن تحصل منه على تفسير لأي شيء، فهو يرفض كل ما يقيد حريته، ووكل ما يرى أنه لا يمنحه ما يستحقه قدر ما يستحقه من تبجيل وتعظيم. وبهذا الشكل يكون داااااالي شخصية متضخمة الذات، والمخرج يضعه هنا أيضا في مواجهة مع السينمائي الأكثر فهما لعالمه، أي لويس بونويل الذي تعاون مع دالي في فيلميه الشهيرين (الكلب الأندلسي، والعصر الذهبي)، وكان “البوستر” الشهير لفيلمه “سحر البورجوازية الخفي” عبارة عن لوحة من دالي الشهيرة أيضا، تصور مقعدا على شكل شفتي امرأة.
المشهد الأول من الفيلم يصور فتاة مرتبكة بعض الشئ هي “جوديث”، تواجه الكاميرا وتخاطبنا مباشرة قائلة إنه يومها الأول كصحفية، أرادت الحصول على سبق صحفي مع شخصية مشهورة مثل الفنان دالي، وهي الآن تنتظره خارج غرفة في فندق متواضع، ثم يظهر هو بشحمه ولحمه وشاربه المميز الشهير، يدق الأرض بعصاه، يلف جسده برداء تبرز من تحته بذلته، مع قبعة من الفراء على رأسه، كأنه طاووس يتهادى في نهاية ردهة الفندق الطويلة، يسير وهو يهتز يمينا ويسارا، تصاحبه موسيقى صاخبة تعلن عن ظهوره. تتطلع إليه “جوديث” مبهورة.. كلها أمل. ولكن كلما أوشك على أن يصل إلى حيث تقف في مقدمة الردهة، نعود مرة أخرى عبر القطع (في المونتاج) من دون أي اعتبار لما يعرف بالـ jumb cut إلى بداية اللقطة، ليقطع الفنان المسافة مرة أخرى، وهو يشكو من هذه الفنادق الرخيصة الرديئة، التي لم يسبق له أن وجد نفسه في أحدها من قبل. وبعد تكرار اللقطة 4 مرات، يصل المشهد إلى ذروته السيريالية، ليطلب دالي من جوديث ضرورة توفير ماء معدني كاف للشرب، قائلا “كلما أسير كثيرا.. أعطش كثيرا”.
يجلس دالي لكي يدلي بالمقابلة التي يفترض ألا تزيد عن 15 دقيقة، ولكنه وبعد كل هذا الجهد والترقب، يقطع حضوره وينهض غاضبا مصرا على الانصراف لأنه لا يجري حوارات صحفية لحساب الصحافة المطبوعة، وأنه بقامته، لا يمكن أن يتحدث سوى أمام كاميرا “سينماتوجرافية” فهي فقط ما يليق به وبتاريخه وفنه.. التسجيل السينمائي.
بعد شعور بالإحباط، تعثر جوديث على منتج سينمائي يتحمس لتسجيل المقابلة تمهيدا لعمل فيلم تسجيلي عن الفنان الشهير، ويوفر كاميرا لتسجيل المقابلة، وبعد إلحاح من جانب جوديث، يوافق دالي ويذهب إلى مكان المقابلة لكنه في خضم إعجابه بذاته ومغالاته في التمنع، يصطدم بالكاميرا فيقلبها لتنكسر، وتفشل المقابلة للمرة الثانية، لكن المحاولة تستمر بعد أن يطلب المنتج من جوديث أن تغريه بتوفير كاميرتين من الكاميرات الكبيرة الاحترافية التي يستخدمها كبار المخرجين في السينما، مع معدات إضاءة وماكياج وما إلى ذلك.
يوافق دالي على أن تجري المقابلة معه على شاطئ البحر بالقرب من مكان إقامته في كوستا برافا، على أن يذهب إلى مكان المقابلة (التي ستصور) بسيارته الرولز رويس. لكنه سرعان ما يجد ذريعة أخرى تجعله يتراجع ويغادر مكان التصوير وهو حانق، فهو يريد أن يخرج المقابلة بنفسه، يحدد زاوية الكاميرا والإضاءة وحجم اللقطة، وغير ذلك. وهو ما لا يصبح مقبولا من جاب طاقم التصوير.
الفيلم يصور دالي كشخص يهتم بذاته وصورته التي تظهر على الناس، أكثر مما يهتم بفنه والحديث عن فنه. ويقوم بدور دالي خمسة ممثلين في مراحل عمره المختلفة، ولكنهم يحافظون جميعا على تلك النظرة الشهيرة التي توحي بجنون العظمة في عينيه، كما أنه يتحدث دائما بلكنة فرنسية مدرسية خشنة مبالغ فيها، ويضغط على الكلمات كثيرا، وعندما يشير إلى نفسه، لا يقول أنا، بل يقول “دالي”، أي “دالي يرى أنه يجب أن يكون هناك كذا وكذا”، و”دالي لا يقبل مثل هذا الهراء..”. إنه شخصية كاريكاتورية عبثية تماما، حتى عندما يتعلق الأمر بفنه، سيأتي من يعرض عليه لوحة يقول إنه دفع فيها مبلغا كبيرا من المال، وأنه يريد فقط أن يوقعها له باعتبارها من أعماله، فيقبل ولكنه يضع توقيعه بحيث يخفي جانبا كبيرا من اللوحة نفسها، لكنه سيعود لإدانتها ووصفها بالمزورة.
علاقة دالي بالفن، وبلوحاته، لا يخصص لها الفيلم مساحة كبيرة، بل يكتفي بالإشارة الساخرة إلى أنه يستوحي من مناظر معينة يقوم هو بتركيبها أمامه، من وحي مخيلته بالطبع، فهو على سبيل المثال، يجعل رجلا ذي وجه طويل مسحوب كأنه “زلومة” فيل، يقف يلتصق به رجل آخر يضع منديلا في فمه، والخلفية أرض جرداء قاحلة، يتململ الرجلان لأنهما في حاجة إلى فسحة للراحة، بينما يجلس دالي، غير مبالٍ، يحاول إكمال اللوحة، يقطع اندماجه التليفون الذي يأتيه به الخادم ليجد على الخط “جوديث” تطلب المقابلة للمرة الثالثة.
ولكن من الذي يأتيه باللوحة المزورة؟ إنه قس يريد أولا أن يعرض اللوحة للبيع ويحصل على مبلغ كبير للكنيسة. ثم يدعو دالي وزوجته “جالا” إلى العشاء في منزله، مع رجل آخر وزوجته. ومن هنا سيدخلنا الفيلم في فيلم آخر، أو بالأحرى، في حلم من داخل حلم، وفيلم من داخل فيلم، مستوحيا عالم لويس بونويل في “سحر البورجوازية الخفي”. ونحن نتذكر أن ذلك الفيلم، كان يعتمد على الكشف عن فظائع المؤسسة المهيمنة، من خلال الكشف عما يختزنه العقل الباطن وتكشف عنه الأحلام، وهنا يروي القس حلماً وراء حلم، ينتهي في كل مرة النهاية نفسها، فيتم قتل القس بإطلاق النار عليه من طرف أحد رعاة البقر!
يغادر دالي ورفيقته حفل العشاء، لكنهما يعودان باستمرار، في سرد غير متسق، وغير مترابط، وغير خطي، بل سيريالي في بنائه ومكوناته، ومنها لقطات لتناول الطعام التي صورت ويتم عرضها بطريقة معكوسة، فدالي مثلا يلفظ الحساء بينما هو يلتقطه. ويكتشف دالي من خلال هذه الصور الخيالية التي تتعاقب في مخيلته، تعاقب الزمن، ويرى نفسه عجوزا طاعنا في السن، مقعدا على كرسي متحرك، وأنه لم يعد لديه وقت طويل يضيعه، وأن الحياة قصيرة. ويحاول الهرب من هذه الفكرة المرهقة، والتعالي عليها ورفضها.
الفيلم بأسره، بما فيه محاولة جوديث، التي سنعلم أنها كانت في الأصل صيدلانية، ثم أرادت أن تصبح صحفية، إجراء المقابلة المستحيلة مع دالي، قد يكون مجرد حلم طويل، وربما أن دالي الذي نراه هنا، مضخما (داااااالي) ليس سوى صورة متخيلة عن دالي الفنان صاحب الإنجازات الكبيرة في عالم الفن.
إننا أمام رؤية ساخرة، لكنها صادقة، مليئة بالعبث والتهكم والصور الصادمة، لكنها تلخص في النهاية، الشخصية الغريبة العبقرية، وتقول لنا إنه من المستحيل الإحاطة بها وفهمها فهماً منطقيا في ضوء ما نعرفه عنها، سواء في ضوء الدراما أو التاريخ. وما المحاكاة هنا سوى تأكيد على قدرة “السينماتوجراف” على الخداع والتلاعب بالوسيط، وبالجمهور أيضا. وهو جزء من عظمة السينما!