حياة عادية بلا يأس ولا أمل في “ورد مسموم”

يعتبر فيلم “ورد مسموم” واحدا من الأفلام القليلة التي تضع المشاهد أمام تحدٍ، يشبه إلى حد كبير التحدي الذي واجه صناعه، بداية من تحويل رواية إلى عمل سينمائي، تدور أحداثه بالكامل في أماكنها الطبيعية، في تضافر لتركيبة تبدو غريبة تتمثل في الاستغناء عن الموسيقى، والاستعانة بجمل حوار قليلة جدا، لرواية علاقة مميزة وشائكة في ظاهرها، تربط فتاة شابة بأخيها الوحيد، في واحد من أحياء القاهرة الأكثر فقرا، لكن النتيجة هو أن الجمال بأشكال متعددة ظهر من بين ثنايا “القبح” الذي يحيط بشخصيات الفيلم.

“ورد مسموم”-إنتاج 2018- هو الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجه أحمد فوزي صالح، القادم من عالم السينما التسجيلية، والفيلم مقتبس عن رواية “ورود سامة لصقر” للكاتب أحمد زغلول الشيطي، وجسد هذا الفيلم تعلق “صالح” بالبشر في منطقة المدابغ بالقاهرة، فهم أنفسهم كانوا أبطال فيلمه الوثائقي “جلد حي”، وحصد الفيلم جوائز في مهرجانات عديدة، منها ثلاث جوائز بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأخيرة: أفضل فيلم عربي، جائزة صندوق الأمم المتحدة للشباب، وجائزة صلاح أبو سيف “جائزة لجنة التحكيم الخاصة”.

يبدأ الفيلم من كاميرا علوية تراقب تدفق المياه الناتجة عن مخلفات عمليات دباغة الجلود، في شارع ضيق للغاية، مشكلة مجرى مائي ابتلع الشارع تقريبا، ويسير المارة بمحاذاة المجرى المائي، ثم تهبط الكاميرا لتتبع امرأة شابة تسير بسرعة إلى حد ما في أزقة حي شعبي فقير للغاية.

لقد وضعنا الفيلم منذ البداية أمام ملامح المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث، مكان ليس جميلا ولا أنيقا ولا ينتمي إلى الطبقات العليا بل حي فقير، يتكون من حواري صغيرة وأزقة أصغر، وبشر يسيرون في المياه القذرة و بمحاذاتها، كما ركزت كاميرا الفيلم مرتين على لافتة كُتب عليها “مشروع تطوير المدابغ بالتعاون مع لجنة التجارة الإيطالية”، فأدركنا أننا هنا في حي المدابغ بالقاهرة، وأيضا ربما تثير هذه اللافتة السخرية، فهي لافتة قديمة تشير إلى مشروع تطوير للمنطقة لم نر أي ملامح له على أرض الواقع، وربما يكون مشروع وهمي لتطوير المنطقة.

وضعنا صناع الفيلم أمام البطلة في رحلتها اليومية لتوصيل وجبة الغداء إلى شقيقها الوحيد “صقر”، العامل في ورشة لدباغة الجلود.. “تحية” وهي فتاة شابة جميلة، عاملة نظافة، ترتدي خمارا يغطيها بالكامل تقريبا، ربما لا يشير هذا الزي إلى مدى تدين الشخصية بقدر ما يشير إلى توجه أسرة الفتاة المحافظ، أو ربما يكون هذا تصورها عن الزي المقبول للنساء في هذا الحي، لكنه لم يشر من قريب أو من بعيد سواء على لسان تحية أو أحد من أفراد أسرتها إلى سر ارتدائها هذا الزي بالتحديد، على الرغم من أننا نرى نسوة أخريات لا يرتدين هذا الزي ومنهن والدتها نفسها!

مع تدفق مشاهد الفيلم نلمس وجود علاقة من نوع خاص تربط بين “تحية” وشقيقها “صقر”، فمثلا نجدها تقول له بعد أن ظلت تبحث عنه لفترة طويلة “قلبي جابني عندك..”، نراها مشغولة للغاية بتحضير وجبة الغداء له يوميا، وتبحث عنه إن لم تجده لكي يتناول طعامه، وتظل تراقبه وهو يأكل، أو يرتدي ملابسه، تُحضر له حذاء جديد كهدية، بالإضافة إلى أنها تغار عليه بعد أن عرفت إنه يحب، وفي النهاية تقاوم بشراسة فكرة سفره إلى إيطاليا على واحد من “مراكب الموت”، والأهم إن حياة “تحية” تخلو من أي علاقات سوى علاقتها بشقيقها “صقر”، في ظل توتر واضح في علاقتها بوالدتهما التي أدت دورها “صفاء الطوخي”.

تمثل علاقة “تحية” و”صقر” قلب الفيلم، فالأخير يبدو متمردا وصامتا وغير مبالٍ بحب واهتمام “تحية” به، وهو لديه علاقات أخرى، بأصدقاء أو فتاة يحبها، أو زملاء عمل، كما إن لديه حلما خاصا به، حلم الخروج من منطقة المدابغ لعالم أوسع على الضفة الأخرى في إيطاليا، على العكس من “تحية” التي يبدو عالمها خاليا من الطموح والأحلام والأصدقاء والعلاقات العاطفية، عالم يحتوي “صقر” فقط.

يخلو عالم “تحية” من الرجال تقريبا، والدها توفي، ومحظور عليها صداقة أو حب أو معرفة رجل، حتى زملاء عملها في تنظيف المرحاض هن من النساء فقط، فكل المشاعر المتدفقة داخلها كأم وكأبنة كأخت وكحبيبة وجهتها ببساطة في اتجاه “صقر”، فهو الرجل الوحيد في عالمها المتقشف، ولا يمكن أن نغفل أن طاقة الحنان لدى “تحية” هي بمثابة تعويض عن صلابة الأم وجمود مشاعرها تجاه ولديها!

كما يمكن أن ينطبق عليها المثل القائل “ضل رجل ولا ضل حيطة”، فالكثير من النساء من عالم “تحية” أو حتى من عوالم أخرى يجدن أنفسهن في سعي دائما لنيل رضا رجل -أي كان موقعه من حياتهن- لنفس الشعور، بأن وجود رجل في حياة امرأة بمثابة الحائط الذي يحمي من العيون المتلصصة، ويفرض الأمان على عالم المرأة القلقة، حتى و”تحية” تقول له في مشهد قرب النهاية “تتجوزني..” كان بنبرة ساخرة توحي إنها بما تكنه له من حب واهتمام وما تقدمه من رعاية هي أكثر من أخت، ولا ينقص إلا أن يتزوجا!

تمتلك “تحية” نظرة مغايرة للرجال، على الرغم من قسوة حياتها، وعلى الرغم من العنف الذي يمارسه ضدها “صقر” حين تقاوم فكرة سفره، ففي مشهد قصير، يجمع “تحية” وزميلة لها في العمل، يجلسن في مرحاض يدخن السجائر، فتقول الزميلة: الرجالة كلهم ولاد وسخة، فترد “تحية”: لا مش كلهم، هي قد توحدت مع “صقر” لدرجة إن العنف والقسوة من جانبه، ومن قبل التمرد واللامبالاة لم تعتبرهم علامة على إنه رجل سيء الطباع، بل احتفظت له بتقدير كبير لا يجعلها تتفق مع وجهة نظر زميلتها الغاضبة من الرجال.

حاول الفيلم أن يُلقي الضوء على العنف ضد المرأة، ليس فقط في شخصية “تحية”، بل في حياة واحدة من زميلتها، تشكو في بداية الفيلم من زوجها الذي يجبرها على ممارسة الجنس على غير رغبتها، وعندما رفضت أتى لها بـ شيخ الجامع ليعظها، فقال لها: أنتي أكيد في بالك حد تاني، فاستنكرت الزوجة هذا التصور، لأن الشيخ انحاز لزوجها الذي يجبرها على ممارسة الجنس عدد مرات يفوق طاقتها، وفسر ذلك بأنها تميل لرجل آخر.. هذه الزوجة هي نفسها التي رأيناها تتحدث إلى “تحية” وعلى وجهها آثار الضرب!

على الرغم من أن علاقة “تحية” بـ “صقر” تحتل مساحة كبيرة من الفيلم، إلا إنه حاول بذكاء أن يشير إلى أن رجل الدين والدجال هما قاسم مشترك في حياة هؤلاء الناس، فالرجل يلجأ إلى شيخ الجامع لكي يعظ زوجته “العاصية” من وجهة نظره، و”تحية” تذهب إلى “كروان الساحر”-الشخصية التي أداها محمود حميدة- لكي يفعل شيئا يجعل “صقر” ينسى فكرة السفر ويبقى مع “تحية”، وفي الحالتين، هي حيل لا تجعل الشخص صاحب المشكلة يواجه مشكلته ويبحث عن أسبابها بنفسه، ويجد لها حل، بل يستعين بشخص يعتقد إنه يمتلك قوة وتأثير ليحل له مشكلته!

يمثل فيلم “ورد مسموم” تحديا للمشاهد، خاصة الذي يتعامل مع السينما كمساحة للترويج للسياحة، أو لاستعراض جمال وأناقة الممثلين، أو لمشاهدة حكاية مشوقة أو كوميدية، أو للاستمتاع بقصة نجاح أو قصة حب مشتعلة.

 فالفيلم يخلو من كل هذه الملامح، بل يخلو من الموسيقى التصويرية، ويستعين بجمل حوار قليلة للغاية، بل يحاول أن يخلق الجمال ويجد المعنى من بين القبح الذي يحيط بساكني منطقة المدابغ، تلك المنطقة التي ينتمي إليها “تحية” و”صقر”، ولذلك كان هناك نقد واسع وُجه للفيلم حتى من قِبل بعض الفنانين مثل “بيومي فؤاد” أثناء مشاركة الفيلم في مهرجان مالمو بالسويد في العام الماضي، الذي قال أثناء ندوة الفيلم: يعني مفيش حاجة حلوة في مصر، وكلها بالبشاعة دي، ليه السواد ده، أحنا طول الوقت شايفين أماكن مقززة وصعبة ومهينة”، لكنها أماكن حقيقية، يعيش فيها بشر حقيقيون، فواحدة من نقاط قوة الفيلم، قدرته على التصوير في الأماكن الطبيعية لحياة البطلين، تحولت في وجهة نظر آخرين إلى نقطة ضعف.

الجانب الآخر الذي يمثل تحديا أن الفيلم أسقط الصورة النمطية عن سكان المناطق الفقيرة والمهمشة، فلم يظهروا كـ “بلطجية” أو ممارسي شغب، بل بشرا عاديين، لديهم أحلام، وقادرون على الحب، ويعملون بجد في مهن صعبة، وبيئة أصعب، في ظل ظروف اقتصادية خانقة.

ليس هذا فقط، فالفيلم كما قال أحمد فوزي صالح كاتب الفيلم ومخرجه “في ظني هكذا تسير حياة الناس اليومية، بلا بطولات خارقة، لأن الاستمرار في هذه الحياة بطولة في حد ذاتها، وأريد تمجيد ذلك بكل بساطة، حياة عادية بلا يأس ولا أمل”.

الفيلم يحمل بين مشهدي البداية والنهاية حياة عادية، لا جديد فيها، مشاعر تعبر عن نفسها بأقل الإمكانيات لكن لا أحد يتحدث عن الأمل ولا يعبر عن شعوره باليأس، حياة تمضي بأقل قدر من الكلمات، وبالكثير من المعاناة.

“ورد مسموم” لا يمنحنا طاقة لنشعر بالأمل في مستقبل أفضل، وفي الوقت نفسه لا يضغط على مشاعر اليأس فينا، لكنه بالتأكيد جعلنا نرى معاناة بشر يعيشون بيننا ولولا الفيلم ما كنا لنتخيل حجم معاناتهم في حياتهم اليومية.

في النهاية، شغلني سؤال: هل تحية امرأة مقهورة؟ هل نتعامل معها كمشاهدين وفق هذا الرأي، فنتعاطف معها أو نلومها؟

لا أعرف، ربما نعم، وربما لا، لكن بالتأكيد هناك قوة داخلية في “تحية” تجعلها تسير على قدمين ثابتتين، في رحلتها لتعقب أثر “صقر” الحالم المتمرد!

Visited 51 times, 1 visit(s) today