حول واقعية نادين خان في فيلمها الروائي الأول “هرج ومرج”
في كتابه البديع “النحت في الزمن” تحدث المخرج السوفيتي الكبير أندريه تاركوفسكي عن نوعية السينما التي يسميها البعض بالواقعية، نقتطع من حديثه الكلمات التالية: “أنت تستطيع أن تنجز مشهدا بدقة وثائقية، وأن تكسو الشخصيات بالملابس على نحو صحيح وواقعي جدا، وأن ترسم كل التفاصيل تماما كما في الحياة الحقيقية، مع ذلك فإن الصورة التي تنشأ نتيجة لذلك سوف لن تكون أبدا قريبة من الواقع، بل ستبدو متكلفة واصطناعية تماما، أي ليست أمينة للحياة، حتى لو كانت الاصطناعية هي بالضبط ما كان المبدع يحاول تفاديها.
ومن الملفت أن صفة الاصطناعية تطلق في الفن على ما ينتمي، بلا ريب، إلى إدراكنا الاعتيادي واليومي للواقع. تفسير ذلك هو أن نمط الحياة شعري أكثر مما هو ممثل أو مصور أحيانا من قبل المدافعين بعزم عن الطبيعية. الكثير مع ذلك، يبقى في أفكارنا وقلوبنا كاقتراحات غير متحققة. عوضا عن محاولة الإمساك بالفوارق الدقيقة التي لا تكاد تدرك، فإن أغلب الأفلام الواقعية البسيطة، لا تتجاهل هذه الفوارق فحسب إنما تصر على استخدام صور حادة وصارخة ومبالغ فيها، والتي في أفضل الأحوال يمكنها فقط أن تجعل الصورة تبدو بعيدة الاحتمال.
أنا، من جانبي، مؤيد تماما للسينما التي تكون قريبة قدر الإمكان من الحياة، حتى لو كنا نخفق أحيانا في إدراك كم هي جميلة حقا الحياة”. انتهي الاقتباس.
الكلمات السابقة هي أول ما جال بذهني عندما بدأت في التفكير فيما يمكن قوله عن فيلم نادين خان الأول “هرج ومرج”، لا سيما وأني استشعرت حالة عامة من التعامل مع الفيلم باعتباره عملا فانتازيا، يدور ـ في أحسن الأحوال ـ في مجتمع غريب، قامت المخرجة، ومعها كاتب السيناريو محمد ناصر، بتجريده من السياق الذي يربطه بالواقع، وعزله تماما عن كل ما يدور خارج الحي الذي تدور به الأحداث، بل وعمد ـ نادين وناصر ـ على إضافة موتيفات بصرية وسمعية تؤكد على هذا الفراق مع الواقع. فلا يوجد على حد علمي حي عشوائي بمصر له إذاعة داخلية ترصد أحداثه وتحمل رسائل المحبين من أبنائه، ولم يصل الأمر بعد بالمصريين للتقاتل من أجل الحصول على القلقاس، بالإضافة بالطبع للتوظيف البصري الذكي للمبنى المهدم بصورة تجعله أشبه بحطام معبد قديم، بكل ما تحمله الصورة الذهنية للمعابد من مهابة أسطورية تبتعد بالتأكيد عن فهم الغالبية للواقع اليومي.
الواقعية الحقيقية والزائفة
كل ما سبق يدعم الاستنتاج المبدئي حول ابتعاد الفيلم عن الواقعية، وأن ارتباطه بالواقع يقتصر على الإحالات التي تفرضها المخرجة خلال الأحداث والتي تقول إن ما نراه “قد” يرتبط بالواقع المصري و”قد” يعبر بعض الشيء عنه، ولكن عبر تناول غير ملتزم بالحقيقة بشكل كلي. ولكن تظهر هنا كلمات تاركوفسكي لترد على هذه التصورات البالية بأنها ببساطة نابعة من فهم عتيق لفكرة الواقعية السينمائية، وعتيق هنا هو الوصف الأكثر تأدبا لأن حقيقة كون كلمات المخرج السوفيتي مكتوبة قبل أكثر من ثلاثة عقود تؤكد أن الأمر أقرب لفساد الذوق منه لعتاقته.
فالبعض أدمن التعامل مع المصطلحات على علاتها، فالواقعية هي مناقشة هموم الواقع اليومي عبر ميلودرامات صارخة عن الفقر والجوع وربما الاغتصاب أو التحرش، ميلودرامات تجتمع فيها الشخصيات المسحوقة التي يرمز كل منها لأزمة من أزمات الواقع، تارة فوق سطح قطار وتارة داخله وأخرى في حافلة تضم سيدات كادحات تتعرضن للتحرش من شباب يمزقهم الكبت الجنسي! تتباين التقديرات التي تقيم هذه الأفلام لكنها تجمع على أنها واقعية تعبر عن هموم المواطن البسيط، لينحصر الاختلاف فيما إذا كان هذا التعبير “الواقعي” قد تم تقديمه بشكل جيد أو سيئ.
تعريف تاركوفسكي المكتوب قبل حتى أن تنطلق في مصر موجة الواقعية الجديدة علي يد مجموعة كان في طليعتها والد نادين المخرج محمد خان، يأتي ليرد ببساطة على كل من لا يزال يحتفظ بهذا التصور الركيك عن فكرة الواقعية السينمائية، ويوضح له أن تصوراته بالية، لا تنم إلا عن محاولة لحصر الواقع في تصورات مسبقة هي في حقيقة الأمر “متكلفة واصطناعية” لأنها كما قال المخرج العظيم “لا تتجاهل فقط الفوارق البسيطة بين الواقع وصورته المعتادة على الشاشة، بل وتصر على استخدام صور حادة وصارخة ومبالغ فيها”.
فهي واقعية زائفة، تختصر البشر في صور نمطية وأزمات تعتقد أنها أساس الواقع، بينما هي في الحقيقة أبعد ما تكون عنه. عن الواقعية التي لا تشيخ يظهر هنا السؤال جليا، فإذا لم تكن هذه هي الواقعية، فما هي الشروط التي يمكن أن تجعل الفيلم واقعيا؟ الإجابة تكمن في شرطين شديدي البساطة: أن يكون فيلما، وأن يعبر عن واقعه. يكون فيلما بأن يروي حكايات عن بشر من لحم ودم لا عن رموز صنعت خصيصا لمناقشة مشكلة، ويعبر عن الواقع عندما يدرك صناعه أن المشكلات اليومية مهما كان حجمها تظل مجرد تفاصيل في حياة البشر اليومية وليست كل الحياة، فالفقير والجائع والمكبوت جنسيا والمتعرضة للتحرش هم قبل كل شيء آدميون تمتلئ حياتهم بلحظات السعادة والتعاسة والحب والكراهية والقوة والضعف، قد يتخلون للحظات عن هذه الإنسانية، لكنها تبقى لحظات عابرة في سياق حياة أكبر بكثير من أن يتم اختصارها في حكاية “واقعية” على النمط العتيق.
ولعل هذا الفهم لفكرة الواقعية الحقيقية البعيدة عن الزيف والاصطناع، كان هو المحرك الرئيسي الذي دفع محمد خان وخيري بشارة وأبناء جيلهم قديما بتقديم أعمالهم التي أحدثت تغييرا راديكاليا لتوصف وقتها بأنها تمثل “الواقعية الجديدة”. فأعمالهم لم توصف بهذا الوصف لأنها كسرت التقاليد الراسخة للرواية الكلاسيكية ذات الثلاثة فصول المحكمة القائمة على الميلودراما، ولكن لأنها عبرت بصدق عن هموم الإنسان في لحظتها الراهنة، وأدرك صناعها أن طبيعة الوسيط السينمائي تختلف كثيرا عن المقال الصحفي الذي يمكن أن تطرح فيه هموم البشر بشكل مباشر، ليخرجوا من هذا الحيز الضيق لمساحات أرحب من التعبير عن الذات وهمومها بأسلوبهم الخاص الذي لم يشغلهم كثيرا أن يسير على القواعد القديمة أو يحطمها، بقدر حرصهم على أن يكون نابعا منهم ومن شكل السينما التي يرغبون في صناعتها.
لهذا فإن مفهوم الواقعية الجديدة في رأيي يصعب أن نحصره في شكل معين من السرد أيا كان هذا الشكل، فتندرج تحته أفلام عاطف الطيب ذات الحكايات المحكمة المغلقة، وأفلام محمد خان ذات السرد المبسط، وأفلام رأفت الميهي المائلة للخيال المتطرف، فكلها أعمال تعبر عن الواقع ولكن بطريقة صانعها وبأسلوبه الخاص. وهو بالتالي مفهوم لا يشيخ، وسيظل كل مخرج جديد يستطيع أن يطرح الواقع بطريقته الأصيلة منتميا بشكل أو بآخر لسينما الواقعية، تماما كما فعلت هالة لطفي في “الخروج للنهار”، ثم نادين خان بطريقتها في “هرج ومرج”.
عن أهمية التوصيف المحاولات السابقة لوضع فيلم “هرج ومرج” في سياقه ومنحه التوصيف السينمائي الصحيح ليست مجرد حذلقة ثقافية، ولكنها شديدة الارتباط بمحاولة التعرض للفيلم بالنقد. ليس فقط للرد على بعض المتبجحين الذي لم يخجلوا من وصف المخرجة الشابة بأنها “تتعلم السينما في مشاهديها”، ولكن أيضا لمن يرون أن قيمة الفيلم تنبع فقط من أصالته ومن أنه لا يشبه إلا نفسه، فهذا الوصف صحيح بالطبع ولكنه ليس إنجازا في حد ذاته، وإنما الإنجاز السينمائي الحقيقي هو قدرة نادين خان على العثور على صيغة إخراجية جديدة وطازجة تطرح بها هموم واقعها المعاصر من وجهة نظرها الشخصية تماما.
أما المتبجحون المذكورون فلا يمكن إلا أن نتصور ما كانوا سيقولونه عن فيلم بديع مثل “العوامة 70” لخيري بشارة لو كانوا قد شاهدوه وقت ظهوره، فبالتأكيد كانوا سيقتلون مخرجه سخرية ويؤكدون أنه فاشل في صناعة الأفلام يتعلم فيهم الإخراج، فهذا دائما هو رد فعل المتبجح الذي يفترض عندما يشاهد عملا لا يستوعبه أن المشكلة في صانعه دون أن يتخيل للحظة أنه قد لا يكون ممتلكا لأدوات تقييم التجربة.
وبالمناسبة التجديد من هذا النوع لا يشترط أن يتم بوعي من صانعه، فلست متأكدا من أن المخرجة كان تقصد وهي تصنع فيلمها أن تقدم عملا لا يشبه غيره، بل كانت ببساطة تقدم حكايتها التي تريد أن تعبر بها عن هَمّ إنساني تراه جديرا بالطرح في الفيلم. هَمّ يرتبط ارتباطا وثيقا بالفقر والحاجة والبطالة وانعدام الإنتاجية والكبت الجنسي، ولكنه لا يعبر عنها بفجاجة ولا يضعها أهدافا نصب عينيه، بل يطرح منها الشذرات التي ترد في سياق حياة أبطال الفيلم التي تحركها دوافع إنسانية كالحب والرغبة والجموح، وبالطبع السعي لإثبات الوجود الذي يعد المحرك الرئيسي لكل شخصيات الفيلم.
زكي ومنير ومنال الحكاية ببساطة هي مثلث الحب التقليدي، شابان يحبان نفس الفتاة ويتصارعان على الفوز بقلبها، بينما تتلاعب هي بهما فلا تغلق الباب في وجه أي منهما. الشابان تجمعهما ظروف واحدة مرتبطة بالواقع، فكلاهما عاطل يصعب حتى تصور الوظيفة التي يمكن أن يؤديها مستقبلا، لكن كل منهما لديه طريقة للتعامل مع واقعه. زكي (محمد فراج) يميل للاندفاع والصوت العالي واتخاذ الأحكام السريعة، وهي الطاقة التي يفرغها داخل صالة الجيم المتواضعة التي يشارك فيها صديقه الكوتش (هاني المتناوي)، بينما منير (رمزي لينر) شديد الهدوء، يجلس دائما أمام أطلال المنزل الأشبه بحطام المعبد ليتابع كل ما يدور في الحي محركا أتباعه لتنفيذ ما يأمرهم به. صراع زكي ومنير على منال (آيتن عامر) ليس مجرد تنافس عاطفي، لكنه يقوم بالأساس على رغبة كل منهما في إثبات وجوده وتحقيق انتصار يرضيه داخليا قبل أن يوصله لحبيبته.
ولعل هذا الهدف الخفي هو ما يجعل كل منهما يتعايش مع حقيقة وجود الآخر في حياة منال، صحيح أن كل منهما يعبر عن سخطه من الأمر ولكنهما في النهاية يؤجلان الصدام الحقيقي انتظارا للحظة المناسبة.
وهي بدورها تجيد التلاعب بهما للحفاظ على هذا الصراع مشتعلا، ففي بقائه إثبات لوجودها نفسها، أي أن قيام التنافس يشبع لديها نفس الرغبة التي يريد كل منهما أن يشبعها. وأبرز دليل على هذا الدافع هو أن الصراع يتم حسمه عبر مباراة للكرة، أي من خلال نشاط آخر ذي طابع تنافسي يقوم على إثبات الفائز امتلاكه لمهارات تؤكد جدارته بالانتصار، داخل الملعب وخارجه.
بين الوجود والبقاء وبينما يبحث الشباب عن إثبات الوجود، يبحث الكبار عن إثبات البقاء، فوالد منال (صبري عبد المنعم) يقارع الزمن محاولا إثبات بقائه بالدخول في علاقة جنسية بجارة هي الأخرى تحاول التمسك بالحياة والعثور على بديل لزوجها العاجز، وهو رجل فقد “المهارات التي تثبت جدارته بالبقاء”، فصار حيا ميتا يتساوي لديه كل شيء. وانخراط الوالد في هذه العلاقة يأتي بنتيحة عكسية تماما، بأن يجد نفسه وقد صار مهددا بفضيحة تقضي على البقية الباقية من سلطته ونفوذه في الحي، ليخرج من التجربة خاسرا بعدما يجد نفسه مضطرا للموافقة على اللعب بشروط فرضها عليه شاب ممن لا يزالون يبحثون عن وجودهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن العيب الأبرز في سيناريو الفيلم يكمن في عدم إبراز المهارات التي جعلت الوالد من الأساس كبيرا للمنطقة ومسيطرا عليها، بمعنى أن الشخصية التي لعبها صبري عبد المنعم ببراعة ربما تكون الأبرز في مشواره الطويل، لا يتم تقديمها بما يبرر كونه كبيرا من البداية، فالهيمنة على منطقة صاخبة كالتي نراها في الفيلم تحتاج إما للمال أو للقوة أو للحكمة، وكلها أمور يصعب أن نؤكد تمتع الرجل بها بصورة تجعله مسيطرا على الجميع، وهي ثغرة من داخل الفيلم وليس من خارجه وبالتالي يمكن مساءلة المخرجة عنها، فالمخرج يُسأل من داخل فيلمه وليس من خارجه.
عن حدث يستحق الاحتفال
فيلم “هرج ومرج” إذا هو أحدث أفلام الموجة التي يمكن أن نسميها أيضا بالواقعية الجديدة، ولكنها واقعية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، واقعية أبناء هذا العقد الذي انقلبت فيه كل الموازين، والذين بدأوا في فرض تواجدهم والتعبير عن واقعهم بطريقتهم الخاصة دون ركاكة أو اصطناع. ومواجهة رفض من اعتادوا على السائد ضريبة لابد وأن يدفعها المجددون. أما الحقيقة التي لا خلاف عليها، فهي أن مولد مخرج موهوب هو دائما حدث يستحق الاحتفال، وها نحن نشهد هذا الحدث أكثر من مرة خلال شهور قليلة، فاحتفلوا يرحمكم رب السينما.