حول كتاب “الواقعية التسجيلية فى السينما الروائية العربية”

عندما التقى الناقد السينمائى المصرى صلاح هاشم ذات يوم بالمخرج الهولندى الكبير جوريس إيفانز، سأله رائد السينما التسجيلية عن عدد سكان مصر وقتها، قال هاشم: “60 مليون نسمة”، صمت المخرج الكبير ثم قال: “إن معنى ذلك يا عزيزى أن هناك 60 مليون فيلم مصرى لم تصنع بعد، وبحاجة الى من يصورها فورا ويخرجها للشاشة”، وأضاف السينمائى الحكيم العجوز :” ليس مهما أن يكون النهر عميقا أو طويلا، ولكن المهم أن نعرف إذا كانت السمكات فى النهر سعيدة”.

ربما يكون هذا الحوار هو مفتاح كتاب صلاح هاشم الجديد الذى يحمل عنوان “الواقعية التسجيلية فى السينما الروائية العربية”، والذى يكشف عن نوعية السينما التى يفضلها، ومعياره فى تحديد جودة الأفلام، واهتمامه على نحو خاص بالسينما الواقعية، سينما تتحرى الصدق فى التعبير عن المشكلات والهموم الإنسانية، دون أن تتخلى عن شرط الإمتاع والتميز التقنى، حيث يرى الفيلم السينمائى العظيم محاولة للكتابة بالضوء، ثم إن الفن إمتاع بلا ملل أو ثرثرة أو مجرد صنعة شكلية بدون مضمون.

من هذه الزاوية الواسعة اختار صلاح هاشم أن يجمع مقالاته التى ترصد صورة الواقع فى السينما العربية الروائية، متحريا أن يبرز استفادة تلك الأفلام من إنجازات السينما التسجيلية، لمواجهة مشكلات الواقع، وأزمات عصرنا، وراصدا فى بعض الحالات انمحاء الفواصل بين السينما الروائية والتسجيلية، يجمع هذه المقالات أيضا أنها أنها ثمرة جولات الناقد بين مهرجانات السينما داخل وخارج العالم العربى.

تنبنى نظرة صلاح هاشم إذن على ارتباط الشكل السينمائى بمضمون واقعى صادق ومؤثر، هناك ملايين القصص والحكايات تنتظر صاحب العين والرؤية الذى يقدمها، هذا معنى ومغزى حكمة إيفانز، وهذا ما يدعو هاشم أن يقول إنه لا يستهدف تقسيم الأفلام وفقا لأنواعها وأنماطها، ولكن يعنيه بالدرجة الأولى تحديد مدى تعبير الأعمال المتنوعة عن الهم الإنسانى، ومدى نجاحها فى أن تجعلنا أقرب كثيرا من إنسانيتنا.

قد تختلف أو تتفق مع تقييمات مؤلف الكتاب حول هذا الفيلم أو ذاك، الحقيقة أن هذه النظرات المختلفة لنفس الأعمال، هى التى تعطى للنقد قيمته وأهميته، كل ناقد يقدم نظرة معيارا ما للحكم، ولكنها كلها تتكامل فى إطار الملف الكامل للفيلم، المهم هو منهج الرؤية.

وقد لاحظت أن صلاح هاشم يكاد يكرر الحديث عن معياره فى الحكم فى كل مقال تقريبا، المنهج هو أهم ما يمتلكه الناقد، وهو المنظار الذى يحكم به على الأفلام، هكذا سينطلق المؤلف من مهرجان الى آخر، ومن تجربة “عين شمس” الى فيلم “كليفتى”، ومن إسهامات يوسف شاهين فى السينما المصرية الى تجربة الممثل الفذ أحمد زكى، ومن فيلم “بابا عزيز” الى الفيلم المصرى “خلطة فوزية”، ومن “سكر بنات” الى “عمارة يعقوبيان” و”تحت القصف” وفيلم “وجدة” السعودي، بل إن هناك دراسة مقارنة بين عالمى يوسف شاهين وإيليا سليمان، ودائما هناك محوران للتقييم: مدى قدرة الفيلم على ترجمة هموم الواقع، ومدى اقتراب تلك الترجمة من فن السينما، باعتباره صورة بالأساس وليس ثرثرة، وباعتباره محاولة لإيجاد معادل بصرى للواقع وليس نقله كما هو، إنه منهج لا يهتم فقط بما تقوله الأفلام، ولكن أيضا بالطريقة الخاصة التى تقولها به.

سأعطيك نموذجا، عن فيلم “عين شمس” مثلا، يكتب صلاح هاشم :” الموضوع فى الفيلم ليس مصر وحكاية الطفلة عين شمس المريضة، أو الرجل الغنى الذى يعيش فى قصر، ويشتغل عنده سائق التاكسى مع مجموعة من الخدم وهو يواجه مشكلة ديونه المتراكمة بالملايين، بل الموضوع هو النظرة أى الطريقة أو الزاوية التى ينظر بها الراوى، ويمثل طبعا مخرج الفيلم أو جزءا منه، الى الحياة بشكل عام وكيف يفهمها ويفلسفها، كما إنسان يشاهد الأخبار فى التليفزيون، وينتقل بواسطة الريموت كونترول من مشهد إطعام الحمام فى غية حمام فى حى عين شمس الشعبى، الى مشهد للأم التى تحمل طفلتها المريضة بداء سرطان الدم فى مستشفى عراقى، الى مشهد المظاهرات التى اجتاحت وسط البلد فى فترة ما، بعدما أصبح العالم بالفعل قرية صغيرة، وصار ما يجرى من كوارث طبيعية وغير طبيعية، ومحاكم ومظالم ومظاهرات يمسنا جميعا ويؤثر فينا جميعا، وتتحقق معه أخوة الإنسانية بشكل كامل، بل ويتحقق معه شرط السينما الأول، شرطها أن تمسك بتوهج الحاضر فى مصر العامرة بالخلق، وذلك الحزن والسحر اللذان يغلفانه فى الآن واللحظة، وأن تدخل فى نار الزحام وتمتزج بالحشد الإنسانى، وتدلف الى بحر الناس الكبير من دون خوف أو تردد أو وجل، شرطها أن تعبر عن تلك الحساسية الجديدة الملتهبة اللافحة، وأن توظف السينما كأداة للتفكير والتأمل فى تناقضات مجتمعاتنا الإنسانية ….” ، ” ولايهم هنا حبكة القصة أو الرواية، بل صارت القصة أو الرواية هى الفيلم نفسه فى شموليته الكاملة، فى حساسيته الإنسانية، وفى اتساع أفقه الى ماوراء حدود السماء لمعانقة الطيور الراحلة، والسحب المحلقة للتواصل مع كل الكائنات والمخلوقات”.

برغم العبارات الشاعرية، إلا ان أول شرط فى منهج صلاح هاشم لنقد الأفلام واضح تماما، ويرتبط أساسا بوظيفة السينما (والفن عموما) الإجتماعية بل والإنسانية، وهى نظرة واسعة ومعتبرة، تكاد ترى فى السينما سلاحا خطيرا لبناء الوعى، وللشهادة على العصر والمكان والبشر، ولكن هذا الإهتمام بالمضمون والرؤية الإجتماعية والإنسانية لصناع الأفلام، ليس بديلا على الإطلاق عن الشكل، ولا عن كون السينما هى أيضا رؤية جمالية للواقع، هذان هما الشرطان اللذان يرى مؤلف الكتاب الأفلام من خلالهما:  نظرة اجتماعية وإنسانية للواقع، ونظرة جمالية تختص بأدوات التعبير البصرى والسردى بطريقة مبدعة وخلاقة، وكاننا بالضبط أمام نظارة لها عدستان، لا تتكامل الرؤية إلا باستخدامهما معا، وفى نفس الوقت.

يعجبنى حقا هذا المنهج، والنتائج التى يصل إليها حول تقييم الأفلام تتسق معه تماما، ولذلك لا تناقض بين أن يرى هاشم أن “عين شمس” جوهرة سينمائية حقيقية (بحكم رؤية الفيلم لجوهر الواقع، وصدقه فى التعبير عنه)، وبين أن يرى أيضا أن مخرج الفيلم قد بدد هذه الجوهرة من خلال الإطالة والإستطراد والحشو فى كثير من المشاهد (الحديث هنا عن المعادل السينمائى للفكرة والشكل الذى خرجت به)، ستجد أيضا هذه الرؤية المزدوجة للشكل والمضمون معا، عندما يتعرض صلاح هاشم لفيلم “الجزيرة” للمخرج شريف عرفة، المشكلة هنا فى رأيه عكسية: إبهار بصرى وتقنى، بينما لا يوجد تعبير حقيقى عن شعب الصعيد باعتبارهم كائنات مفكرة أو لها رأى، ولكنها أقرب ما تكون الى العرائس المتحركة.

ليس مطلوبا بالقطع أن تتفق مع كل ما يراه أى ناقد، ولكن ما يميز الناقد بالأساس هو المنهج، وفى كتابنا منهج واضح ومحدد، وفيه أيضا إنحيازات واضحة للإنسان ولفن السينما باعتباره قادرا على أن يعبر عن المجتمع بشكل جمالى فريد، وهناك ثالثا انحياز الى تجارب الشباب الواعدين فىما يتعلق بتحقيق أفلام قصيرة جيدة (فيلم ساعة عصارى نموذجا)، ربما كنت أتمنى أن تعاد صياغة مقالات عن تغطية أفلام بعض المهرجانات من جديد بما يتسق مع موضوع الكتاب، فالتغطية السريعة العابرة، تختلف عن القراءة التحليلية المتعمقة (ورصيد الكتاب منها كبير)، ولكنك فى النهاية أمام كتاب جدير بالقراءة والمناقشة، يمتلك مؤلفه رؤية للحياة وللفن معا، لاشك أنها حصاد رحلته الطويلة بين مصر وأوروبا.

Visited 37 times, 1 visit(s) today