حول تاريخ مهرجان فينيسيا السينمائي وتطوره عبر السنين
يعتبر مهرجان فينيسيا السينمائي (البندقية) أقدم حدث من نوعه في العالم، فقد تأسس عام 1932 أي منذ 83 عاما، وأطلق عليه “معرض” السينما (الموسترا) ولا تزال التسمية سارية حتى اليوم، باعتبار أن المهرجان يحتفي بالفن السينمائي ويتعامل معه على نفس المستوى الذي يتعامل به مع الفن التشكيلي وفن العمارة والنحت والموسيقى، وهي الفنون التي تجتمع تحت عباءة مؤسسة “البينالي” الشهيرة. وقد نشأ المهرجان السينمائي الكبير كجزء من نشاط بينالي الفنون الشهير الذي يقام كل عامين.
عرضت كل الأفلام التي شاركت في الدورة الأولى من المهرجان عام 1932 دون رقابة على الإطلاق (رغم سيطرة الفاشية بزعامة موسوليني)، ودون أي شروط تتعلق بطول الفيلم أو بضرورة وجود ترجمة إيطالية مصاحبة، كما سمح بعرض الأفلام ناطقة بلغاتها الأصلية.
وقد لبّى مخترع السينما الفرنسي لويس لوميير دعوة رئيس البينالي الكونت فولبي للمشاركة في الدورة الأولى من المهرجان كضيف شرف، بعد 37 سنة من اختراعه لآلة السينماتوغراف.
وكان من المشهود له أن يسمح “الموسترا” بعرض أفلام من الاتحاد السوفييتي للمرة الأولى في إيطاليا منذ وصول الشيوعيين إلى السلطة في موسكو، وبعد حملات شرسة من جانب الدعاية الفاشية في إيطاليا ضد الشيوعية.
عرضت أفلام المهرجان في رواق فندق إكسيسليور الشهير، في الهواء الطلق بجزيرة الليدو. ولم يكن قد أقيم قصر المهرجان بعد. وقد ظل فندق إكسيلسيور يعرض أفلاما للعروض الصحفية الخاصة، وتناقش فيه الأفلام حتى منتصف التسعينات.
أفلام ومخرجون
لم تشهد الدورة الأولى منافسة بين الأفلام، أو منح جوائز، فلم تكن الفكرة قد أصبحت مطروحة بعد، بل عرض الكثير من الأفلام التي أصبحت من كلاسيكيات السينما العالمية في ما بعد، من بينها “حدث ذات ليلة” لفرانك كابرا، “الفندق الكبير” (غراند هوتيل) لإدموند غولدنغ، “البطل” لكنغ فيدور، “فرانكنشتاين” لجيمس ويل، “الأرض” لألكسندر دوفجنكو، “الحرية لنا” لرينيه كلير.
وضمت قائمة المخرجين الذين حضروا المهرجان الأول في العالم راؤول وولش ونيكولاي إيك وأرنست لوبيتش وهوارد هوكس وجورج فيتزموريس وموريس تورنييه وأناتولي ليتفاك.
وكان من النجوم الذين عرضت لهم أفلام بالمهرجان غريتا غاربو وكلارك غيبل وفريدريك مارش ووالاس بيري ونورما شيرر وجيمس كاغني وجوان كراوفورد وفيتوريو دي سيكا، وجذب المهرجان 25 ألف متفرج.
وشاركت في المهرجان الأول ثلاث مخرجات بأفلام من إنجازهن، وهن الروسية أولغا بروبرانشسكايا بفيلم “الدون الهادئ”، والألمانية الشهيرة ليني ريفنشتال، والفرنسية ليونتين ساغان. كما شارك المخرج الفرنسي الكبير رينيه كلير في المهرجان، وانتقد زحف المال على الفن السينمائي، وكيف أصبح المخرج صاحب الرؤية الفنية يناضل من أجل صنع فيلمه بسبب التكاليف الكبيرة التي تتطلبها الصناعة.
وكان أول فيلم يعرض في تاريخ المهرجان الأول في العالم الفيلم الأميركي “دكتور جيكل ومستر هايد” لروبين ماموليان، وجاء العرض في الساعة السابعة والربع مساء السادس من أغسطس 1932.
حضور جمهور النخبة في ردهة فندق اكسيسلسيور في الدورة الأولى
وورد في التقرير الذي نشرته صحيفة “لا غازيتا دي فينيسيا” أن “عرض الفيلم أعقبه حفل كبير راقص في فندق إكسيلسيور، و”شهد حضورا للكثير من أهل الصفوة والأثرياء”. وبينما لم تمنح جوائز رسمية، منح الجمهور جائزة أحسن إخراج من خلال استطلاع للرأي نظمه المهرجان، وذهبت الجائزة إلى المخرج السوفييتي نيكولاي إيك عن فيلمه “الطريق إلى الحياة”، بينما حصل فيلم رينيه كلير “الحرية لنا” على جائزة أحسن فيلم.
أقيمت الدورة الثانية من المهرجان في الفترة من 1 إلى 20 أغسطس 1934، ونظمت للمرة الأولى مسابقة بين الأفلام، وشاركت في الدورة 19 دولة، وشارك 300 صحفي في تغطية أحداث المهرجان.
ومنح المهرجان جائزتين هما جائزة كأس موسوليني لأحسن فيلم أجنبي، وكأس موسوليني لأحسن فيلم إيطالي. ولكن لم تكن هناك لجنة تحكيم دولية، بل منحت الجائزتان من قبل رئيس البينالي الكونت فولبي، بعد أن استطلع آراء الخبراء والجمهور، وفقا للمعايير التي حددها “المعهد الوطني لتعليم السينما” ومقره روما.
أما الجوائز الأخرى فكانت “الميداليات الذهبية الكبرى للاتحاد الوطني الفاشستي لصناعة التسلية”، ومنح هذا الاتحاد التابع للحزب الفاشي، جائزتين إلى أحسن ممثل وأحسن ممثلة. أما جائزة أحسن فيلم أجنبي فقد حصل عليها فيلم “رجل من آران” لروبرت فلاهرتي، وهو ما يعكس اهتماما عاما في ذلك الوقت بالفيلم التسجيلي ذي النزعة الفنية.
في عام 1935 أصبح المهرجان حدثا سنويا، تحت إدارة أوتافيو كروز، وزاد عدد الأفلام والدول المشاركة، كما أطلق على جائزتي التمثيل اسم “فولبي” رئيس البينالي ومؤسس المهرجان، وظل اسمه على جوائز التمثيل حتى يومنا هذا.
وفي عام 1936 تشكلت للمرة الأولى لجنة تحكيم دولية لأفلام المسابقة، وفي العام التالي 1937 افتتح “قصر المهرجان” في أهم بقعة في جزيرة الليدو وهو القصر الذي لا يزال المقر الرسمي للمهرجان حتى اليوم، وهو من تصميم المهندس لويجي كواغلياتا. وفي عام 1952 تمت توسعة القصر بإضافة واجهة جديدة وصالة في المدخل، وقال فيلليني في ما بعد عن قصر السينما في فينيسيا “إن أي مخرج سينمائي يدخل هذا القصر يشعر وكأنه يمرّ بامتحان!”
وتمكن المهرجان قبل ست سنوات، من استعادة قاعة العرض السينمائي الكبرى داخل القصر (صالة غراندا) التي تتسع لألف ومئتي متفرج، وإعادتها إلى بهائها القديم وعلى نفس الشكل والتصميم الداخلي والألوان الأصلية التي كانت عليها في الثلاثينيات. وتوجد قاعتان صغيرتان للعرض السينمائي في الطابق تحت الأرضي بالقصر هما قاعة زورزي وقاعة باسينيتي.
وقد انقطع المهرجان عن الانعقاد في جزيرة الليدو، وهجر هذا القصر في الفترة من 1940 حتى 1948. وفي عام 1938 نُظم أول برنامج “ريتروسبكتيف” أي عروض لأفلام قديمة خصصت لأفلام السينما الفرنسية في الفترة من 1891 إلى 1933، أي أنها شملت أيضا الشرائط التجريبية الأولى البدائية قبل اختراع السينماتوغراف بأربع سنوات. وحضرت مارلين ديتريتش إلى جزيرة الليدو، متقدمة ذلك الحضور الكبير لنجوم السينما الذي عرفه المهرجان منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.
سنوات الحرب
نتيجة الحرب العالمية الثانية لم تشارك بلدان كثيرة في دورات 1940، 1941 و1942، ولم تنظم مسابقات، ولم تحتسب تلك الدورات في تاريخ المهرجان بعد ذلك، بل أسقطت من تاريخه. وقد توقف المهرجان بعد ذلك، أي من 1943 إلى ما بعد نهاية الحرب، فعاد عام 1946، وأقيم في الجزيرة الرئيسية، وكانت العروض تتم في سينما سان ماركو، بعد أن استولت قوات الحلفاء على قصر المهرجان في الليدو.
صوفيا لورين وآلان ديلون ورمي شنايدر في إحدى دورات المهرجان
وكانت دورة 1946 دورة رمزية انتقالية صغيرة بالتنسيق مع مهرجان كان الذي كان قد افتتح دورته الأولى في توقيت متقارب. وفي 1947 أقيمت العروض في ساحة قصر الدوق في فينيسيا، وأقبل على عروض المهرجان 90 ألف متفرج.
وشهد المهرجان عودة السينما السوفييتية، وحصل فيلم تشيكي على الجائزة الكبرى التي سميت جائزة فينيسيا الكبرى، وقد منحتها لجنة تحكيم بعد عودة تقليد تشكيل لجان التحكيم. وفي عام 1949 عاد المهرجان مجددا إلى قصر السينما في الليدو، وأصبحت الجائزة الرئيسية لأحسن فيلم تسمى الأسد الذهبي (أو أسد سان ماركو وهو رمز المدينة)، وهي لا تزال بنفس الاسم حتى يومنا هذا.
في الخمسينات عرف المهرجان للمرة الأولى الأفلام اليابانية، حيث اكتشف كيروساوا بفيلمه الشهير “راشومون” وكو إيشيكاوا ثم ساتياغيت راي الهندي الذي حصل على الأسد الذهبي عام 1957 عن فيلمه “أباراجيتو”، ثم ظهرت أفلام الواقعية الجديدة وعرض فيلم “بايزا” لروسيلليني، ثم “الأرض تهتز”لفيسكونتي، وجاءت الأسماء الجديدة في السينما الفرنسية إلى فينيسيا مثل جون رينوار وروبر بريسون وهنري كلوزو.
وبرزت في الستينات أسماء فيلليني وأنطونيوني وبازوليني وحصل فيسكونتي على الأسد الذهبي عام 1964 عن “ساندرا”، بعد أن كان المهرجان قد شهد جدلا شديدا بسبب تجاهل أفلام فيسكونتي المتميزة مثل “أحاسيس” 1954، ثم “روكو وإخوته” 1960.
المخرج الفرنسي الكبير رينيه كلير شارك في الدورة الأولى من المهرجان، وانتقد زحف المال على الفن السينمائي
وفي عام 1968، عام الإضرابات العمالية وثورة الشباب اليساري والفوضوي التي اجتاحت إيطاليا امتدادا للثورة الطلابية في فرنسا وألمانيا، كاد المهرجان يتوقف إلاّ أنه انعقد وعرض أفلاما لبرتولوتشي وبازوليني وليليانا كافاني، بدعم كبير من روسيلليني وبازوليني الذي هاجم بضراوة في مقال له ما دعاه “فاشية اليسار”.
ومع ذلك فالمهرجان توقف عن تنظيم مسابقات للأفلام وتوقف عن منح جوائز الأسد الذهبي في الفترة من عام 1969 إلى عام 1980، لكنه منح جوائز أخرى فرعية، ولم تقم المسابقة في الفترة من 1969 إلى 1972.
فيلليني ومارشيللو ماستروياني وصوفيا لورين في فينيسيا
وفي عام 1978 لم ينعقد المهرجان بسبب استمرار الخلافات والانقسامات السياسية العنيفة التي مزقت المجتمع الإيطالي بين اليمين واليسار، وأقام المنشقون في 1972 مهرجانا موازيا باسم أيام السينما الإيطالية في ساحة سان ماركو في نفس الوقت مع المهرجان المقام في الليدو.
أجواء المنافسة
أصبح مهرجان فينيسيا يهتم أكثر من مهرجان كان بالجوانب الفنية؛ بسينما المؤلف وبسينمات البلدان البعيدة -إذا جاز التعبير- وجاءت فترة ابتعد فيها كثيرا عن هوليوود، وكان يفضل عرض الأفلام الأميركية “المستقلة”.
وواجه المهرجان منافسة شديدة مع كان وبرلين، أساسا بسبب غياب السوق السينمائية، وربما يكمن السبب في موعد إقامة المهرجان في الخريف، وهو وقت لا يناسب شركات التوزيع الأميركية، ولكن المدير الجديد للمهرجان ألبرتو باربيرا أقام قبل 3 سنوات سوقا صغيرة محدودة للأفلام، لكنها لم تنجح في جذب كبار رجال هوليوود الذين يفضلون التوجه إلى مهرجان تورنتو (يفتتح في العاشر من سبتمبر هذا العام)، فهو قريب منهم وأقل تكلفة، بينما يعاني مهرجان فينيسيا من الارتفاع الكبير في أسعار الفنادق والمطاعم والخدمات بسبب ضيق الرقعة التي يقام عليها في الليدو.
في الثمانينات والتسعينات أعيد تنظيم المهرجان، وتم التوسع في برامجه وأقسامه، وبدأ تنظيم تظاهرة “أسبوع النقاد” في عام 1986 وهي مستمرة حتى اليوم وتحتفل هذا العام بمرور 30 سنة على تأسيسها، وخلال فترة إدارة الناقد لويجي روندي في الثمانينات للمهرجان انفتح أكثر على أفلام العالم العربي وأقيمت على سبيل المثال، احتفالية خاصة لأفلام المخرج المصري صلاح أبو سيف عام 1986. وشهد المهرجان في التسعينات اهتماما خاصا بالسينما الصينية الجديدة، وساهم في اكتشاف الكثير من الأسماء التي برزت في ما بعد مثل تشانغ ييمو الذي عرضت أفلامه الأولى في المهرجان وفازت بجوائز.
وفي 2003 بدأت إقامة تظاهرة “أيام فينيسيا”التي تركز على أعمال المخرج-المؤلف، والتي تميل للتجريب والتناول الفني الطموح بعيدا عن المقاييس التجارية، وفي الوقت نفسه، أصبح المهرجان أكثر اهتماما بجذب الأفلام الأميركية الجديدة بنجومها المشاهير.