حول المشاكل المزمنة لمهرجان القاهرة السينمائي
لأزمة مزمنة والدولة يجب أن ترفع يدها عن المهرجان
النهوض بالمهرجان يعتمد على تغير المناخ القائم في مصر
ينشر المقال بالاتفاق مع جريدة “العرب” الدولية التي تصدر في لندن وتطبع وتوزع في عدد من البلدان العربية والتي نشرته أولا
كانت أهم مشاكل الدورة الثامنة والثلاثين من مهرجان القاهرة السينمائي التي اختتمت مؤخرا، استبعاد فيلم “آخر أيام المدينة” لتامر السعيد من المسابقة الدولية للمهرجان رغم مستواه الفني المتميز، لأسباب غير مقنعة، وكنت من البداية ومازلت، على يقين من أن هناك أسبابا أخرى وراء ذلك الاستبعاد الذي أثار الكثير من الأصداء وتبادل الاتهامات بين إدارة المهرجان وفريق الفيلم، كما كنت أيضا من ضمن من رأوا أن اختيار فيلم “يوم للستات” كفيلم لافتتاح المهرجان كان اختيارا جانبه الصواب، كما كان اختيار الفيلم المصري الثاني “البر التاني” للمشاركة في المسابقة بديلا عن فيلم تامر السعيد، اختيارا آخر أثار- عن حق- الكثير من الدهشة إن لم يكن الاستهجان.
عن اختيار الأفلام
من ناحية أخرى لست مع الذين يتشددون في القول إن اختيار أفلام المهرجان يجب أن يقتصر فقط على “لجنة المشاهدة والاختيار” وأنه على إدارة المهرجان أن تلتزم باختيارات اللجنة دون مناقشة، بل أنا مع الرأي القائل إن الكلمة الأخيرة في تقرير ما يعرض وما لا يعرض تكون عادة للمدير الفني وهو المتبع في كل المهرجانات الكبرى في العالم، فهو المسؤول الأول والأخير عن البرنامج، وله أن يلجأ إلى المتخصصين والخبراء، داخل الدولة التي تنظم المهرجان أو خارجها، وأن يشكل لجانا متخصصة للمشاهدة والترشيح.
في هذه الحالة تظل مهمة هذه اللجان وهؤلاء الأشخاص المتخصصين تظل استشارية فقط، أي تقتصر على ترشيح ما تراه مناسبا من أفلام، وليست ملزمة، فالمدير الفني هو الذي يتحمل المسؤولية أمام الرأي العام السينمائي في العالم. وكلنا نعرف مثلا أن تيري فريمو المدير الفني لمهرجان كان، هو المسؤول الأول والأخير عن البرنامج الرسمي للمهرجان الكبير، وهو الذي يتصدر إسمه مطبوعات المهرجان الرسمية، ولكننا لا نعرف شيئا عن لجان الاختيار والمشاهدة، ولا أسماء أعضائها ومن هم، وهي لجان قد تقترح مثلا 30 فيلما ترى أنها تصلح للمشاركة في المسابقة الرسمية، غير الرأي النهائي يرجع للمدير الفني وحده الذي يمكنه أن يختار منها 20 فيلما، أو يأتي بأفلام أخرى من خارج اختيارات اللجنة المشاهدة أحيانا في اللحظة الأخيرة، كما يحدث كثيرا، بضمان إسم مخرج الفيلم، الذي يكون قد انتهى لتوه من إنجاز العمليات التقنية النهائية لفيلمه، ويأتي به إلى المهرجان ربما دون أن يكون أحد قد شاهده!
برنامج الأفلام بمهرجان القاهرة كان يتضمن الكثير من الأفلام الجيدة، كما لفت نظري توفر الترجمة العربية على عدد كبير من الأفلام وهي مسألة يحجم عنها معظم مهرجانات السينما في العالم العربي التي إما أنها تفضل الإبقاء على “فرانكفونيتها”، أو تكتفي بالانكليزية. هنا لابد من القول إن المدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي، الناقد والخبير السينمائي، يوسف شريف رزق الله، يتحمل مسؤولية اختياراته، سواء من الأفلام المصرية التي شاركت داخل وخارج المسابقة، أو الأفلام الأجنبية، وهو ما أقر به بعد أن أعلن بالفعل مسؤوليته عن اختيار الأفلام ولجنة التحكيم الدولية، كما يتحمل مسؤولية اختيار مساعديه. وليس من الممكن لأي مدير فني لمهرجان سينمائي يحترم نفسه أن يقبل إلا بصلاحيات كاملة في هذا المجال.
قد يكون تشجيع الشباب الجدد الوافدين إلى حقل العمل المهرجاني أمرا مرغوبا فلابد من تدريب أجيال جديدة على فن دارة المهرجانات، شريطة أن يكون الشاب الذي يقع عليه الاختيار من بين كثير من الراغبين في اكتساب المعرفة والخبرة، يتمتع بنوع من الثقافة السينمائية، والأهم، أن يتمتع بالنزاهة والاستقامة الأخلاقية في تحكيم المعايير الفنية في ترشيح الأفلام والشخصيات التي تشارك بالمهرجان، ولا يكون منغمسا في “بيزنس” السينما نفسه، الانتاج والتوزيع والعرض، ينتقل بين النقد السينمائي، إلى الترويج، ومن كتابة السيناريوهات، إلى الإنتاج، ومن مجال الإنتاج إلى العمل بالمهرجانات، وهو ما قد ينعكس على ترشيحاته التي ربما تكون موظفة لخدمة “مصالح” خاصة لدى شركة إنتاج بعينها، فالناقد الذي يعمل لمهرجان سينمائي يجب أن يتمتع بالمصداقية والحيادية قبل المعرفة السينمائية وإجادة “العلاقات العامة”.
تدخل الأجهزة
ولكن ما الذي يجعل مهرجان القاهرة لا يرقى إلى طموحات القائمين عليه وتوقعات النقاد والجمهور وعشاق السينما في مصر؟
الحقيقة أن السبب الأساسي يرجع الى تلك الهيمنة الطاغية من جانب أجهزة الدولة، وأولها وزارة الثقافة التي عجزت طوال أربعين عاما في فهم طبيعة ودور مهرجانات السينما وفن صناعة المهرجانات السينمائية بعيدا عن الدعاية لسياسات الدولة. هذه الأجهزة- الأمنية والأخرى المتدثرة بثياب الثقافة- تحظر الآن عرض أفلام من تركيا وإيران، لأن مصر الرسمية على خلاف سياسي مع هذين الدولتين، وهي لا تمنح تأشيرات دخول لعدد كبير ومتزايد من السينمائيين، سواء من هذين البلدين أو من بلدان أخرى عربية دون إبداء أسباب، والمهرجان يجد نفسه خاضعا لهذا التدخل السياسي الأمني دون أن يملك له دفعا، كما أن هيمنة بيروقراطية وزارة الثقافة تجعل من المهرجان “مناسبة” (أو “سبوبة” بالعامية المصرية!) لعدد كبير من الموظفين الذين يمكنهم عرقلة تمرير أي ورقة من المطلوب تمريرها إداريا لصرف مبلغ ما من المال لتغطية نشاط ما، دون أن يحصل على مكافأة من ميزانية المهرجان، رغم أن هذا الموظف وغيره كثيرون، يؤدون عملهم الأصلي الذي يحصلون منه على رواتبهم من الوزارة.
رئيسة المهرجان ماجدة واصف والمدير الفني يوسف شريف رزق الله
المشكلة الأساسية قائمة منذ تأسيس هذا المهرجان، فلا هو مؤسسة حكومية رسمية، أي جزء من وزارة الثقافة، ولا هو اعتبر مؤسسة أهلية مستقلة عن الحكومة. وقد فشلت تجربة تحويله إلى إحدى جمعيات المجتمع المدني في عهد وزير الثقافة عماد أبو غازي في أعقاب ما عرف بـ “ثورة يناير 2011″ التي كانت تبشر بتغيير الكثير من المستقر بيروقراطيا في مصر قبل أن تنتكس تحت ضغط التطورات السياسية في مصر. والحقيقة أن المناخ العام القائم حاليا في مصر، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وهو مناخ يشوبه التوتر والقلق وعدم الاستقرار، باعتراف القيادة السياسية نفسها التي ترى وتردد أن مصر تخوض” حربا شرسة ضد أعداء كثيرين يستهدفونها من كل جانب وهو ما يكرره الإعلام الرسمي ليلا ونهارا، الأمر الذي يجعل من إقامة مهرجان سينمائي دولي كبير في العاصمة المصرية أمرا مستحيلا، بل إن حدثا كهذا يبدو شاذا وغريبا في أنظار الكثيرين داخل مصر ويتم تجاهله كثيرا من جانب الجمهور العام “الشعبي”، بعد أن أصبح هذا الجمهور مهموما أكثر بكيفية التغلب على أزمته الاقتصادية الطاحنة التي تزداد قسوة يوما بعد يوم.
أجواء المهرجانات
تقام مهرجانات السينما عادة في مناخ يتمتع بالاسترخاء، حيث يشارك جمهور المهرجان وضيوفه، في الاحتفال بالسينما، والاستمتاع بالأفلام ومخرجيها ونجومها، وهي مناسبة تتحول خلالها المدينة التي تنظم المهرجان إلى عيد أو احتفال كبير بديع يشارك فيه السينمائيون والنقاد والجمهور، بل وحتى مع تصاعد التهديدات الأمنية لاستهداف بعض المهرجانات الشهيرة مثل كان وفينيسيا، لم تصل الإجراءات الأمنية إلى مثل ما وصلت إليه في مهرجان القاهرة، فالسيارات تخضع أولا للتفتيش هذا إذا سمح لها أصلا بالمرور داخل نطاق دار الأوبرا حيث تقام معظم فعاليات المهرجان، ثم يخضع الشخص الرغب في دخول حزام المهرجان لإجراءات أخرى عند مروره بالبوابة الداخلية كما تخضع حقائب اليد للمرور عبر أجهزة الكشف والفحص الالكترونية، وهو أمر مفهوم بالطبع في ظل حالة التوتر القائمة، لكن ما ليس مفهوما أن يخضع نفس الشخص مرة أخرى لنفس الإجراءات أمام كل قاعة من القاعات التي تعرض الأفلام.
تعذيب الضيوف
من الظواهر الثابتة السلبية أيضا، ليس في مهرجان القاهرة السينمائي وحده- بل في كل مهرجانات السينما التي تقام في العالم العربي، “إرغام” ضيوف المهرجان وممثلي الصحافة المحلية والدولية ونقاد السينما، على الحصول على بطاقات لحضور الأفلام مثلهم مثل جمهور المهرجان الذي يشتري البطاقات، أي ببساطة، خلط الضيوف والصحفيين بالجمهور العام في عروض المهرجان، وهو ما يتسبب في خلق مشاكل كثيرة، على رأسها عدم استطاعة الكثير من الضيوف مزاحمة الجمهور لمشاهدة أفلام معينة. والمسألة هنا لا تتعلق بالطبع، بالإمكانيات المادية، ففي أكبر المهرجانات العربية، وهو مهرجان يتمتع بميزانية تبلغ عشرين ضعف ميزانية مهرجان القاهرة، تتبع السياسة نفسها، وكأن المقصود تعذيب النقاد والضيوف.
وحتى مهرجان قرطاج السينمائي الذي أكمل خمسين عاما على مولده والذي يقال إنه يتشبه بمهرجان “كان”، لم يحدث في أي دورة من دوراته أن خٌصصت قاعة واحدة من قاعاته لضيوف المهرجان من السينمائيين والنقاد وممثلي الصحافة المحلية والدولية، وهو الجانب الذي يحظى بأولوية أولى في مهرجانات العالم الشهيرة الكبرى وعلى رأسها مهرجان “كان”، بل إن هذه المهرجانات تخصص أيضا برنامجا خاصا لهذه العروض، يشمل كل أفلام المسابقة مع أهم الأفلام التي تعرض خارج المسابقة. المشكلة إذن أننا لا نتعلم ولا نريد أن نتعلم.
ومهرجان القاهرة تحديدا يمكنه حل هذه المشكلة بكل بساطة بتخصيص قاعة العرض في “مركز الإبداع” لعروض الصحفيين والضيوف وأن يجعل الدخول بالبطاقات فقط.. وهذا هو معنى تخصيص بطاقات صحفية أو بطاقات للضيوف، وإلا فما الفائدة إذا كان الصحفي يزاحم الجمهور وتكون الأولوية دائما للجمهور لأنه سيدفع ثمن ما يشتريه من بطاقات بينما الناقد ينتظر ليتسول بطاقة لحضور عرض ما إلى أن يقال له إن “التذاكر بيعت بالكامل”!
عن غياب النجوم
أشار كثيرون إلى رداءة الصورة على شاشات قاعات العرض الموجودة بمسارح الأوبرا المصرية التي لم تنشأ أصلا كدور للعرض السينمائي، وبالتالي لم يتم تجهيزها بالأجهزة الحديثة الملائمة للعرض السينمائي والصوت، بل يتم استئجار هذه الأجهزة بمبالغ كبيرة، وميزانية المهرجان الهزيلة أصبحت حاليا لا تتجاوز كثيرا النصف مليون دولار، وهو مبلغ لا يكفي فقط لشراء هذه الأجهزة، كما يلوم الكثيرون على المهرجان غياب المشاهير من نجوم السينما، رغم ما هو معروف من أن حضور النجوم الى مهرجانات تقام في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي، يقتضي حصولهم على مبالغ مالية كبيرة، فمصر ليست سوقا كبيرة لتوزيع أفلامهم، وما يعرض من أفلام في المهرجان لا يجد طريقه بعد ذلك إلى دور العرض المصرية، ودور العرض نفسها محدودة العدد، والتشريعات السينمائية الوطنية تخصص المساحة الأكبر للسينما المحلية.. وهكذا سنظل ندور في دائرة مفرغة!
إن حل مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي، وهي مشكلة مزمنة بدأت منذ نشأته وليست وليدة الدورة الأخيرة، ليست كما يقترح أحدهم، الاستعانة بـ “خبير أجنبي” على غرار ما يحدث في فرق ومنتخبات كرة القدم، فالخبراء موجودون، ولكن ما فائدة الخبرة إذا كانت أجهزة الدولة القائمة العتيقة المترهلة، ترفضها وتستبعدها، أو تشلها شللا تاما بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة، بما تفرضه من القيود تتنافى مع فكرة المهرجان السينمائي أصلا.
الحل يبقى إذن مرهونا بتغير المناخ العام في مصر، وتغير بنية المؤسسات القائمة وتخليص المهرجان من الخضوع لوزارة الثقافة، مع تمويله من الدولة دون التدخل في شؤونه، وتشكيل فريق فني يكون مرتبطا بثقافة المهرجانات وليس بهدف تحقيق التوازنات وإرضاء بعض الشلل والتجمعات السينمائية “المافياوية” الطابع، التي تتحكم في سوق السينما السائدة.. الرديئة على أي حال!
النهوض بالمهرجان يعتمد على تغير المناخ القائم في مصر