“حلوان.. أنا” تضخم الذات يفسد رؤية المخرج

لكل عمل فني موقف يسطره المؤلف ويجسده المخرج، ويتمثل هذا الموقف في الرؤية ووجهة النظر التي يريد الفيلم تجسيدها، ويختلف من حيث الاتجاه فهناك موقف عام اجتماعي أو سياسي، يطرح قضية ما عامة في أي مجتمع من المجتمعات، وهناك موقف ذاتي خاص كالسيرة الذاتية لشخصية من الشخصيات، أو موقف ما يخص صانع العمل ذاته يبين لنا رؤيته تجاه أمر من الأمور الخاصة به.
ومن خلال الموقف والأداة الفنية نستطيع الحكم علي العمل الفني ومدي نضج هذا العمل، فالإبداع يلزمه وجود رؤية واضحة تتعين في موقف ومضمون فني ناضج.
ويؤدي اختلال أي ركن من اركان هذه العملية إلى سقوط العمل. وقد اخترت فيلم ” حلوان ..أنا” للمخرج محمد عادل لتحليل ما سبق، لمحاولة الوقوف عند قيمة فيلم “حلوان أنا” يعرض لموقف ذاتي خاص بمخرج العمل ومؤلفه، يحاول فيه الإجابة علي سؤال “ماذا تشكل منطقة حلوان بالنسبة لي؟”.
هذه المنطقة التي تربي فيها، وهي منطقة شعبية في مدينة القاهرة، يغلب عليها الفقر والعشوائية. المخرج في هذا العمل يعرض التناقض الذي يشعر به تجاه تلك المنطقة ما بين ارتباطه بمكان نشأته وكرهه لهذا المكان من حيث ماهيته وروحه.
موقف هذا العمل يتخلص فيما ذكره المخرج ” في الفيلم “عايز أحكي حكايتي عن حلوان”، وبما أنه مضمون ذاتي محض، سلك المخرج تيمة الراوي الذي يسرد لنا ماهية هذا المكان عنده، ويدور السرد في فلك هذه الفكرة، ويجمع الراوي بين قصص مشتشة وغير مترابطة عن المنطقة عامة وبين حكايات تعرض لحياه المخرج الشخصية كتواجد والديه في هذه المنطقة وكره والدته لها وما إلى هذا.
والفيلم بأكلمه عبارة عن فضضة من قبل راو خلف صورة متحركة تسير مع هذه الفضفضة. السرد السرد هو البطل الأساسي في هذا العمل، فلا توجد شخصيات حيه تتحدث إلينا، ولا أماكن محددة بل هي صور مجمعة تدور في فلك تلك المنطقة. السرد لا يسير على خط تصاعدي تقليدي، بل يسير وفق النمط التجريبي الجديد الذي يعتمد علي فن “الكولاج” أي قصاقيص من الحكايات المشتتة، وهذا يتناسب مع فكرة البوح التي اعتمد عليها الفيلم، فالإنسان عندما يترك ذاته تستخرج ما بداخلها فإنها تسير وفق هواها تحاكي ما تريده وإن كان أشتاتا مشتتة.
تحدث الراوي عن تاريخ أسرته في حلوان منذ زواج والديه وعن أصدقائه وعن أشخاص تعيش هناك، وعن ماضي المنطقة والتحول الذي حدث لها من مكان أرستقراطي إلي بلد الميكروباصات وثقافة لغة السوق كما ذكر الراوي، وبعض القصص التاريخية والحاضرة وما إلي ذلك، فليست هناك تزامنية في الفيلم بلهو يعتمد علي الايقاع المتواتر في السرد من خلال حديث النفس المتدفق المتوالي. اللغة تعتبر اللغة من أهم العناصر التي يعتمد عليها السرد، فهي الكيان المعبر عن أي شخصية، وهناك حكمة قديمة تقول “المرء مخبوء تحت لسانه، تكلم حتي أراك” وبما أن الحدث في الفيلم يرتكز علي فعل الكلام والحديث المرسل فيجب تحليل هذا الكلام.
اللغة والكلام في الفيلم تعتمد علي الحوار والكلمات المعبرة وطريقة أداء هذا الحوار والصوت الذي ينبع من المتحدث من حيث الإلقاء التمثيلي.

عيوب الحكي

في الفيلم لم يظهر الراوي ولا يوجد حوار، فنحن أمام تحليل كلمات وحديث من طرف واحد وصوت يلقيها لنا. أولا: لغة الحديث التي عبر بها المخرج عن موقفه يعتريها الكثير من السقطات وضعف التعبير.
وسأسرد هذا الجزء من حديثه للتوضيح” راجل عجوز حكالي …… كان الشباب زي ما الراجل العجوز حكالي يقدورا يشربوا البيرة علي نواصي الشوارع لكن كانوا محترمين ومتربيين.. هوه بيقول كده الراجل العجوز” طريقة التعبير كأن الرواي يخاطب أطفالا في حاجة إلي إشارات لوصل الكلام وتكراره، ووضع لتلك الجملة التعقيبة في آخر الحديث “هوه بيقول كده الراجل العجوز” وكأن المتلقي في حاجة إلي هذا التوضيح كي يستطيع المتابع، وهو يكثر استخدام هذه الطريقة الضعيفة في التعبير علي مدار الفيلم.

محمد عادل

كذلك تتكرر كلمة حلوان علي مدار الفيلم، والتكرار عادة يفيد التنبيه علي أهمية الشيء، وهنا التكرار ليس له أهمية لأن المتلقي علم أن الراوي يتحدث عن تلك المنطقة، وكان الأولي بدلا من تكرار كلمة “حلوان” أن تتداعي الأفكار في بساطة ومرونة.
ثانيا: أداء الصوت: صوت المتلقي غير ثابت في الايقاع، بل يتغير تبعاً لما يسرد، ولكن الراوي أدخل نفسه في جو من الأداء التمثيلي في إلقاء حديثه، بالرغم أن الفيلم يدور في إطار أحداث حقيقة ذاتية إلي حد كبير، ولكن ذاتية هذه الأحداث لم تتطلب تلك الشحنة العاطفية التي أثقلها الراوي لأدائه الصوتي، فتأثيراته الصوتية تشعرنا أننا أمام قصة عاطفية يبوح بها، كذلك التنهدات والوقوف في الحديث وكأننا أمام موضوع ضخم معقد يحتاج لكل هذه الحيرة تجاه المنطقة التي يعبر عنها الراوي، وكأننا أيضا أمام سؤال فلسفي يحتاج لكل هذه الحيرة للتأمل فيه وإرهاق النفس للإجابة عنه، فتأتي هذه التنهدات!

طغيان الذات
أدخل المخرج عمله الفني في ممر ضيق للغاية حاول فيه التعبير عن معاناة والدته في العيش في تلك المنطقة الفقيرة، وقارن بين ميول والده الذي ينحدر من الريف وبين والدته ذات الأصول التركية وكانت تعيش في منطقة الدق، أي في حي راق، ولذلك فهي متأزمة من تلك المنطقة التي لا تليق بها، كذلك يحكي لنا عن أعمامه الذين تركوا والده في محتنه ولم يسألوا عليه، وبالطبع هم خرجوا من تلك المنطقة الشعبية. الراوي/ مخرج الفيلم هنا ينظر لذاتيته وما يتأثر به في حياته الخاصة، فهو لم يتحرر من أحاسيسه الطفولية التي أثرت في وجدانه.
إننا لسنا أمام عمل تأليفي تخييلي يتكون من شخصيات لها سمات درامية نتفاعل معها ونعزرها في أحاسيسها الداخلية، ولكننا أمام شخصية حقيقة تجسد فعل البوح، ولهذا ليس كل ما في ذهن الصانع يصلح نقله لنا علي شريط سينمائي، فعملية التخييل تخضع لمعايير فنية لابد أن تتقبلها ذهنية المتلقي.
علي سبيل المثال تسيطر على المخرج فكرة كره المنطقة وكره الفقر فتجسد ذلك في مشاهد للبيت شديدة البؤس مثل ” مشهد البوتاجاز الذي يحمل أواني صدئة، و الصورة التي ركزت علي الشبشب المقطوع علي سجادة المنزل فهل نظافة المنزل لها علاقة بعشوائية المنطقة، لابد أن تحترم ذهنية المتلقي، فكل مشاهد البيت تنفر المتلقي، واذا أمعنا النظر سنجد أن مشاهد الشوارع تحمل إضاءة عالية عن إضاءة المنزل الذي يعتريه جو من الظلام.
كل ذلك نتاج تأثير وسيطرة ما في داخل حياه الصانع الخاصة عليه ” عوامل التنشئة” فالمتلقي ليس بحاجة أن يعرف أن أخوات والدك تركوه ولم يسألوا عليه في محنته، ولم يتطلب العمل هذا، فكل هذا ه نتيجة طغيان الذات على الموقف الذي أراد المخرج تجسيده، فهو ينظر لأحاسيسه ولا ينظر لموقفه.
المبدع لابد أن يتحرر من تلك التأثيرات النفسية كي لا يخنق بها أعماله.
هناك مشاهد جيدة التصوير في الفيلم إلي حد ما، ولكن ما أفسد هذا العمل تشتت الرؤية لعدم نضجها من قبل المخرج محمد عادل، كذلك لا أستطيع أن أقول إن هذا الفيلم وثائقي لأن المخرج لم يثقل عمله بأي نوع من أنواع البحث الجاد عن تاريخ تلك المنطقة اللهم إلا من خلال إشارات طفيفة للغاية، جاءت معظمها عن طريق حكايات يسردها عن العامة الذين لا يعتد بهم علي الاطلاق، وأيضا لم يطلق المخرج لفكره العنان كي يسرد عن التحول والتغيير الذي وقع في تلك المنطقة من داخلها ومن داخل روح المكان، بل اكتفي فقط بفكرة التحول إلي الفقر والعشوائية لم يقترب برؤيته ولا بعدسته لأغوار المكان ووقف ليكرر الأفكار من خارجها وهذا دليل علي أنه لم يملك أدوات جيدة للبحث وللكتابة عن مضمون ناضج، لهذا جاء الفيلم تشوبه سذاجة الأداء والسرد.
وجدير بالذكر أن الفيلم نفذ ضمن ورشة عمل فرنسية تابعة للمركز الثقافي الفرنسي والجمعية الثقافية الفرنسية.

Visited 49 times, 1 visit(s) today