حكيم بلعباس: سوف أحكي لكم عما أخبرتني عنه الحياة
عين ثاقبة تنقب عن الحقيقة بكل تجلياتها، عين لا تعرف القولبة ولا تكترث للحدود أو للتعريفات الأكاديمية، وأخرى متفردة بذاتها تحلق في فضاء هذا العالم الرحب، لتنقل لنا الكثير عن كل تلك الزوايا المهمشة والمنسية. عين تصنع السينما بأدوات بسيطة، ولكن بأفكار عميقة، تنبض بكل ايقاعات الحياة والحب…
هناك على ناصية حلمه يعمل بدأب وروية. إنه المخرج الحكواتي المغربي حكيم بلعباس. خجول وهادئ لكنه نهر جارٍ، يحفر مجراه بمائه المتدفق الهادر، لا يوقفه شيء، يجود علينا بجديده المنتظر، ليضيف بطريقته الخاصة الكثير لعالم السينما.
طالما جمعتني به الكثير من المحافل السينمائية، والجلسات الخاصة، ولم يدر بخلدي يوماً أن أجري معه لقاء، لكن رغبة شديدة في استشراف عالمه قادتني إليه، فكان وسألته أولا عندما يخرج فيلماً وثائقياً خيالياً، هل يختار بوعي هذا القالب أم هي طريقة للهروب من صنع فيلم روائي؟
حكيم يقول إنه لا يدري بالضبط، فالأمر ليس هروبا ولا خيارا. ويضيف: “يبدو فقط أني أدركت في محطة ما من محطات عملي أنه من المستحيل بالنسبة لي أن أعطي صورة مفبركة عن الأحداث وعن الشخصيات. عملي هو توصيف لحقيقة ما. فعلى سبيل المثال، يتمثل أفضل تعريف لأداء الممثل في غياب الأداء نفسه، وبالتالي، فان الممثل حين يعيش اللحظة المتخيلة فإنه يتلبسها بعمق حقيقته هو ذاته. وأنا كثيراً ما أحاول التمييز بين التمثيل الحقيقي وبين المفتعل. علمني ذلك معلم المسرح الكبير صاندي مسنر، الذي عرّف «التمثيل» بانعدام التمثيل”.
سألته هل ما يقوله له علاقة بحالة زينب عندا تتكلم مع حبيبها هاتفيا في فيلم “محاولة لتعريف الحب”؟
وافقني على ذلك مضيفا إنه هو نوع من الاستيعاب، والمشهد كان أكثر صدقاً من لو ان يفرض عليها نصاً مكتوباً. هناك أيضاً المشهد الذي تتحدث فيه زينب مع والدتها. هذا المشهد لم يكن مخططاً له، حتى بل كان حكيم ييفكر في تصوير شيء آخر، ولكن بالصدفة يرن هاتف الممثلة، فتستغرق في حديث تطابق تماماً مع كان يبحث عنه. لذلك ترك الكاميرا تدور وتلتقط تلك اللحظة العفوية، وللسبب نفسه سجل الصمت خلال هذه المحادثة.
يضيف حكيم بلعباس: “لقد استغرق مني الاستعداد لفيلم «محاولة فاشلة لتعريف الحب» خمس سنوات. أقابل الناس، استكشف الأشياء، وأحضر نفسي للإبحار. وهكذ، التقيت بالعجوز وزوجها (المشهد الذي كانت تقوم بتغسيل زوجها في الفيلم) أخبرني الناس وقتها أنهما أعرق زوجين في القرية، ففكرت أنه علي القيام بشيء ما مادام فيلمي يروي قصة حب. تابعت تلك العجوز وهي تنظف زوجها بمحبة وحنان، فقررت أن احتفظ بالمشهد.
عدت أناو معه فسألته: هذا المشهد في الفيلم لا يوضح العلاقة التي تجمع العجوز بهذا الرجل هل هو زوجها، أخوها أم عشيقها…ما ينبعث من الفيلم هو الحب، والحب لا يعرف الحدود. ما يعني أنك تعتقد أن لا حدود في الحب. فهل تنتفي الحدود برأيك بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي؟
وافقني على ذلك مضيفا، أنه في الحب لا حدود بين الرجل والمرأة، ولا بين الأخ والأخت، هناك فقط المحبة، كذلك الأمر في عالم السينما، فلا حدود بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، هناك فقط الحقيقة.
ولكن كيف يصنع أفلاماً وثائقية وهو في حياته العادية قليل الكلام؟ عن هذا يقول بلعباس إنه لا يحب تضييع الوقت، بل يسعى دائماً للوصول إلى صلب الأشياء، وبسرعة. وهو يعتبر نفسه مثل الراوي، يغوص مباشرة في التاريخ. يروي ليواسي نفسه قليلاً.
لقطة من فيلم “محاولة فاشلة لتعريف الحب”
عدت أتساءل:هل هذا يعني أنه يفكر في صناعة سينما خاصة به اسمها «سينما بلعباس»؟
استبعد ذلك تماما مضيفا انه لا يملك أصلا الإمكانية لتحقيقه. وقال إنه حاول كل مرة الامتثال للقواعد السينمائية التي تعلمها في الجامعة والأفلام التي شاهدها ويعشقها، ولكن في النهاية يرتفع عنده الحدس، ويشعر بأن شيئاً يتحداه، فيقوم بتجريب شيء مختلف لا يعرف نتائجه، لذلك فانا لا يصنع أفلامه إلا على طاولة المونتاج.
هل هذا هو السبب أنه هو الذي يقوم بمونتاج أفلامه؟
“نعم. فلو كان لدي مونتير لبقي محتوى الفيلم، في أغلب الأحيان، طريح الأرض. مثلاً بالنسبة لمشهد ولادة الخروف في فيلم «محاولة فاشلة لتعريف الحب» فان أي مونتير سيقول إن هذا المشهد ليس له علاقة بالفيلم، لا من قريب ولا من بعيد، ولكن بالتأكيد هذا المشهد له علاقة خاص بكل الفيلم. الأمر نفسه بالنسبة للقاء مع المتشرد، المشهد الذي تلتقي فيه زينب بالمرأة العجوز، وكذا مشهد المطر”.
لكني أجد أنه ليس كباقي المخرجين الذين يكتبون ثم يقومون بالاستطلاع. عن ذلك يقول هو: أحياناً، أودّ لو كانت هناك يد خفية تساعدني حين أكون قد حضرت نفسي نفسياً وعاطفياً، فمثلاً مشهد المطر في فيلم «محاولة فاشلة لتعريف الحب» يحتاج إلى أجهزة ومعدات مكلفة جداً، ولكن السماء ساعدتني حينها، وأمطرت في ذلك اليوم.
أنا اعتمد على التحضير. ولدي حظ كبير في العمل مع فريق، يصاحبني منذ سنوات، ويفهم جيداً طريقة عملي. مدير تصويري فرنسي، لا نتكلم كثيراً، ولكنه يعرف بالضبط ما أريده. وحتى هو لا يعرف أبداً حين ننتهي من الفيلم النتيجة النهائية له، رغم أنه قريب من رؤيتي السينمائية. فالتركيب يتم دائماً بطريقة تدريجية.
أحاول أحياناً أن أتقيد قدر الإمكان بخطوات العمل. قراءة السيناريو. استكشاف الأماكن. التقطيع. تصوير المشاهد، مشهداً بعد آخر، يوماً بعد يوم، لكن البنية الأصلية التي اعتمدتها سرعان ما تصبح ثانوية.
ولكن ألا يستطيع بلعباس تأسيس سينما على حدة؟
يستبعد ذلك ويستدرك قائلا: وإلا تحول الأمر إلى ادعاء، وأنا لا أظن أني امتلك ما ينبغي امتلاكه لتحقيق مشروعي، أو مدرسة في السينما. أكثر ما يمكنني انجازه هو التجريب. وأصدقك القول، فإني كلما باشرت عملاً جديداً أجهل الشكل الذي سوف يتخذه. كل ذلك من قبيل الحدس، فهناك داع يدعوني، إنه عملية الإبداع لدي. وبالتالي اتبع غريزتي، خاصة وأني غير منظم لأصبح سينمائياً جيداً. أفتقد لأي هيكلة.
أما عنعلاقته بالأساطير والخرافات فيقول إنه نشأ في مدينة روحية، بوجعيد في المغرب، مزودة بتاريخ صوفي عريق متمثل في سير قديسي المدينة. قصة إنشاء المدينة نفسها قصة رائعة. كان هناك رجل بدوي، صوفي، اسمه بواديب شركي، جاء ليستقر في المنطقة التي كانت عبارة عن غابة كبيرة، فاكتشف أن المياه كانت شحيحة. وحين جاء وقت الصلاة ة لم يستطع القيام بفرض الوضوء، انتابه غضب شديد، فضرب الأرض بعصاه، وهنا تفجرت المياه، وسمي المنبع باسمه «ينبوع الشيخ».
في هذه المدينة، تعودت على التردد على الحلقات، (تلك الحلقات الشعبية التي تروى فيها الحكايات، والتي اختفت في أيامنا هذه)، والاستمتاع بملاحم عنترة، وسيف بن ذي يزن، وعلقمة وسيدنا علي. كانت هناك، خاصة، حكايات الجدات، حكايات لطالما سكنت خيالي، وأذكر كم كنت أطالب بان تُعاد على مسامعي، مرات ومرات، حكايات الجازية بنت منصور، التي عبرت السبع بحور، على ظهر سبع صقور، بحثاً عن أبيها المفقود.
هكذا ترعرعت مع الحكايا والخرافات، كما درست الميثولوجيا، وأجريت بحوثاً حول الأدب الشفهي مثل «ألف ليلة وليلة»، حكايات «الإخوة جريم»، والقصص الهندية الأميركية.
ربما كان سبب اهتمامي بالأساطير منبعه محاولاتي لرؤية الأساطير حولي. وأظن أن ذلك أجمل تعريف للسينما. إنها الاستعارة. ولذا كثيراً ما أحاول خلق أبطالي وشخصياتي انطلاقاً مما هو عادي، أو أقل من عادي