“حظر تجول”.. الهدوء الذى لا يسبق أي عاصفة
أهم ما يميز فيلم “حظر تجول” الإيقاع الهادئ، الذى غلب على الصورة والموسيقى وأداء الممثلين، وزمن الأحداث، الذى اختاره أمير رمسيس، مؤلف الفيلم ومخرجه، بعناية، ليكون واقعاً حقيقياً ورمزياً في آن.
والحقيقة أن مثل هذا الإيقاع، إذا لم يصل إلى درجة الملل، فإنه يكون فرصة جيدة تسمح للناقد بأن يتناول المشاهد على مهل، بحيث يكون قادراً على القراءة المتأنية والتحليل المتعمق لعناصر العمل الجمالية والفكرية.
يبدأ الفيلم بلقطة مكبرة على وجه فاتن (إلهام شاهين) السجينة التي أمضت عشرين عاماً عقوبةً على ارتكابها جريمة قتل ضد زوجها. ثم تخرج من السجن في المشهد التالي لتجد ابنتها ليلي (أمينة خليل) وزوجها حسن (أحمد مجدي) في انتظارها كي يستضيفاها في بيتهما خلال فترة الحظر، تمهيداً لسفرها إلى بلدها طنطا.
يتضح من المشاهد الأولى أن ثمة نفوراً شديداً من الابنة تجاه أمها نتيجة لجريمة الأم الشنعاء التي أودت بحياة الأب منذ سنوات بعيدة، بينما يكون الزوج أكثر لطفاً مع الحماه، ويعمل طوال الوقت على تهدئة الأجواء بينهما.
القصة بسيطة لكنها غنية بالدلالة، الصورة تعكس تفاصيل يومية صغيرة، لكنها مشحونة بقدر كبير من الشاعرية. الشخصيات تمارس حياتها ببط وهدوء دون ضجيج، عدا بعض الشباب العربيد الذى كان يقيم فوق السطوح أثناء ساعات حظر التجوال، يتعاطى المخدرات ويدير “الدي جي” في حالة من الجنون والصخب.
تدور الأحداث في حي شعبي هادئ في ليل الحظر، وداخل بيوت قديمة تحمل عبق وذكريات الماضي الجميل. نلمح ذلك في هندسة المباني وأثاثات الشقق وأغاني عبد الحليم حافظ ومسرحيات فؤاد المهندس. نجح رمسيس في كسر الملل الناجم عن ضيق أماكن التصوير وزمن الأحداث، من خلال الخروج بالكاميرا إلى الشرفات والأسطح والحارات الخالية من المارة.
ينطوي الفيلم على سر كبير يعرفه الجيران والمشاهدون وفاتن، التي لا تفصح عنه أبداً للابنة بالرغم من إساءاتها المتكررة لها. وهوالسر الذى يبرر جريمة فاتن التي ارتكبتها ضد الأب منذ عشرين عاما عندما كانت الابنة في طور البراءة، ولا تتذكر من تفاصيل الحادث شيئاً.
يميل رمسيس، فيما يبدو، إلى إحياء المعنى الإيمائي للفن، الذى هجرته السينما المصرية طويلاً، خلال السنوات الماضية، رغبةً في جذب الجماهير وتحقيق الإيرادات الضخمة. فهو حريص على تقديم رؤيته السينمائية من أقصر الطرق وأبسطها، دون ضجيج أوافتعال. وليس أدل على ذلك من تفويته لأكثر من فرصة كانت تصلح كمجال خصب للاستغلال التجاري، لعل أبرزها مشهد الزوج والزوجة في لحظاتهما الحميمية، التي أتت بعد طول اشتياق، وكذا مشهد الفلاش باك الذى يلمح إلى السر وراء قتل فاتن لزوجها، بل إن هذا السر تحديداً كان يصلح لبناء سيناريوجماهيري بامتياز، لأنه يلمس منطقة شائكة، ويعكس ظاهرة شاذة استشرت فى المجتمع فى غيبة من الوازع الديني والردع الأخلاقي.
فى مضمار الأداء التمثيلي كان هناك أكثر من علامة مضيئة على طريق الأحداث الهادئة من فوق السطح، الساخنة من تحت الأعماق. فقد قدمت إلهام شاهين دوراً مركباً أدته باقتدار يليق وتاريخها الفني الطويل، حيث استطاعت أن تلعب دور الأم والجدة وخريجة السجون فى وقت واحد، كما نجحت في تجسيد الصراع النفسي بين كونها أم حنون تحاول احتواء ابنتها وحفيدتها، وبين شعورها بالمهانة إزاء نظرات ابنتها المحملة بقدر كبير من الإدانة والتحقير. وقد استحقت الفوز بجائزة أحسن ممثلة عن دورها في هذا الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثانية والأربعين لعام 2020م.
لعبت أيضاً أمينة خليل دوراً مهماً، عندما جسّدت دور الزوجة العصبية، الغيورة على زوجها، الخائفة بنحومرضى على ابنتها، المضطرة إلى احتواء أم تسببت في هدم أسرة وإذاقة ابنتها اليتم في مرحلة مبكرة من حياتها.
ولا يمكننا أن ننسى الدور الذى لعبه الممثل الفلسطيني كامل الباشا في شخصية الأستاذ يحي الجار القديم لأسرة فاتن، والأمين على السر، الذى حافظ عليه طوال العشرين عاما التي قضتهما فاتن في السجن، حتى لحظة موته التراجيدي الهادئ كحياته، الخالية إلا من الشعور بالوحدة وصوت عبد الحليم حافظ.
من الواضح أن أمير رمسيس لا يهدف الي تقديم فيلم سياسي بقدر ما يهدف الي تقديم تجربة إنسانية ذات أبعاد نفسية واجتماعية ووجودية.
وعلي ذلك، يمكن أن يُفهم الحظر بأكثر من معني. فالمعني الرئيسي يرتبط بالموضوع الشائك، المسكوت عنه، الذي يحاول رمسيس أن يقتحمه بالرغم من حساسيته المفرطة، وأن يلفت النظر إلي خطورته، ولوعن طريق التلميح. كما يمكن أن يُفهم علي مستوي الشخصيات، فكل شخصية تمارس حياتها وتحقق وجودها في سياق حظر ما مفروض عليها، بحيث يكون تحقيق الوجود مرتبطا بشكل من أشكال المراوغة.
وفي هذا السياق تحاول فاتن أن تتغلب علي الحظر الذي فرضته ابنتها على العلاقة التي بينهما بأن أقامت علاقة أخرى بديلة مع الحفيدة، وأن يتغلب حسن (الزوج) علي امتناع زوجته عن إقامة العلاقة الحميمية في ظل إقامة الأم معهما في الشقة، بأن اختار المستشفى الذي يعمل به بديلاً عن الشقة لإقامة العلاقة، كما تغلب يحيي، علي الحظر المفروض علي علاقته بالجيران ووضعه في دائرة الاتهام، ظلما، بأن آثر العزلة والوحدة، وصنع لنفسه عالماً بديلاً ينتمي الي زمن آخر بعيد، لم يكن يعرف سوى لوني الأبيض والأسود فقط، ولا مكان فيه للمراوغة.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجارة المسنّة التي لعبت دورها باقتدار (عارفة عبد الرسول)، والتي تغلبت علي الحظر المفروض عليها من قبل أولادها، بحكم السن، بأن تظاهرت بأنها تعاني من مرض ألزهايمر علي غير الحقيقة. والشباب الذين لا يجدون الفرصة لحياة آمنة وطبيعية داخل المجتمع، ويتم تهميشهم، بحيث لا يجدون أمامهم سوى الشارع، يهربون الي السطح عندما يقام ضدهم الحظر في الشارع.
وهي كلها حيل تعتمد علي البحث عن البديل، بحيث تحقق الشخصيات، ولو مؤقتا، نصف حياه ونصف وجود، وهوما تم اختزاله بصريا في مشهد معبّر، عندما ذهبت فاتن لشراء سجائر من محل البقالة أسفل العمارة، الوحيد الذي كان يمارس نشاطه أثناء ليل الحظر، وكان يغلق الباب إلي مستوي المنتصف، بحيث يكون مغلقاً ومفتوحاً في الوقت نفسه!
وبالمعني نفسه يمكن أن نفهم فيلم أمير رمسيس باعتباره نوعاً من المراوغة والبحث عن بديل للقضايا الشائكة المسكوت عنها، بحيث يلجأ إلي التلميح بديلاً عن التصريح، ولتظل قضية الفيلم الرئيسية مسكوتاً عنها بالرغم من اقتحامها الذي لا يخلومن جرأة من قبل كاميرات السينما الفاضحة بطبيعتها.
إلا إن ذلك لا يمنعنا من قراءة العمل سياسياً، عندما ندرك أن رمسيس كان حريصاً علي ألا تحتوي كادراته، عدا مشهد السجن الاستهلالي السريع، علي أي من رجال السلطة بحيث خلت الشوارع تماماً من اللجان الشرطية أو العسكرية، طوال أحداث الفيلم التي اقتربت من الساعتين، ولم تظهر سوي لجنة واحدة بدت من خارج الكادر عن طريق أضواء سيارة الشرطة فحسب، وكأن رمسيس يريد أن يقول، من وجهة نظرنا التأويلية، إن السلطة التي تمارس الحظر علي الشعوب يمكن أن تكون، هي أيضاً، موضوعاً للحظر من قبل سلطة الفن، التي يمكنها أن تقرر من الذي يدخل الكادر ومن الذي ينبغي أن يخرج منه!