جوائز مهرجان كان 2025: من الذي استحقها ومن الذي سرقها!

جعفر بناهي يحمل السعفة الذهبية جعفر بناهي يحمل السعفة الذهبية

لم تكن اختيارات مهرجان كان لدورته الـ78 اختيارات موفقة، بل جاءت أقرب إلى الاختيارات “العشوائية” في جانب منها، والخاضعة في جانب آخر لاعتبارات بعيدة كل البعد عن مقاييس الفن واعتباراته. وهو تدهور يدعو إلى الأسى والأسف.

هناك دون أدنى شك لدى كل من لهم خبرة بمهرجانات السينما العالمية الكبرة، وبمهرجان كان بوجه خاص، معرفة بنوعية ما يدرج عادة في مسابقة المهرجان من أفلام تكون مدعاة للمباهاة والفخر، لأسماء لها حضور بارز في السينما، ولا يشترط أن تكون من أفلام المخرجين الكبار (سنا وتجربة وتاريخا)، فمخرج مثل “يوغوس لانثيموس” مثلا ليس من الممكن تصنيفه كمخرج كبير قديم، لكن حضور أفلامه المبتكرة يضفي نكهة خاصة على أي مهرجان تتسابق فيه، بغض النظر عن بعض سقطاته الأخيرة. فهل يمكن مثلا مقارنة عمل فني كبير بكل معنى الكلمة مثل “كائنات بائسة” Poor Things الذي نال أسد فينيسيا الذهبي قبل عامين بفيلم ضعيف متهافت المستوى مثل “الصغيرة الأخيرة” LA PETITE DERNIÈRE للممثلة حفصية حرزي التي تريد بكل قوتها ولسبب لا أفهمه ولا استوعبه، أن تصبح مخرجة وقدمت في فيلمها الخامس هذا كمخرجة، عملا لا يرقى للمشاركة في مسابقة أي مهرجان ذي تاريخ فما بالك بمسابقة كان!

في المسابقة كان هناك 22 فيلما، منها في رأيي الشخصي وحسب خبرتي الخاصة وتقييمي وأنا أتباع المهرجان منذ 34 سنة، 7 أفلام كان من الأفضل كثيرا أن تعرض “خارج المسابقة” هي بالإضافة الى فيلم حفصية حرزي، أفلام “ألفا” لجوليا دوكورناو، و”تاريخ الصوت” لأوليفر هيرمانوس، و”إيدنجتون” لآري أستر، و”الخروج للنور” لماريو مارتوني، و”مت يا حبيبي” للين رامساي، و”العقل المدبر” Mastermind لكيلي ريتشاردت، بل وكان يمكن أيضا عرض فيلم جعفر بناهي “إنه مجرد حادث” خارج المسابقة إن أراد المهرجان الاحتفاء بمخرجه الذي يصنع أول أفلامه بعد إطلاق سراحه من السجن لفترة قصيرة.

من فيلم “إنه مجرد حادث”

إلا ان فيلم بناهي الضعيف فنيا بدرجة مثيرة للرثاء، (وهو بالمناسبة من الإنتاج الفرنسي) فقد مضى كما توقعت، ليحصل على “السعفة الذهبية” في حين أن هناك من الأفلام ما تفوق عليه مثل “قيمة عاطفية” Sentimental Valeu لجواكيم تريير، و”عميل سري” لكليبر ميدونزا، و”محققان” Prosecutors  Two لسيرجي لوزنيتسا، و”الملف 137″ لدومنيك مول، بل والفيلم الممتع كثيرا “الموجة الجديدة” لريتشارد لينكلاتر. غير أن الهدف كان بالطبع توجيه رسالة سياسية إلى إيران.. توجيه ما يتصور البعض أنها بمثابة ضربة لنظام الحكم هناك من خلال هذا الفيلم الذي يتحدث عن التعذيب في المعتقلات، من دون أن يصور أيا من تفاصيل ما يحدث بل من خلال الحديث والثرثرة التي لا تتوقف بين خمسة من الأشخاص عثروا على رجل يتشبهون في أنه كان يقوم بتعذيبهم في السجن. ماذا يفعلون به؟ هل يقتلونه؟ أم يعذبونه؟ أم يذهبون لرعاية زوجته الحامل التي أوشكت على وضع ابنه لأنهم أناس رحماء وأصحاب بنزعة إنسانية.. وكل هذا الهراء الإنشائي الفارغ الذي يتسق تماما مع أسلوب وطريقة بناهي التي ترمي عادة الى ابتزاز المشاعر. طيب وماذا عن معتقلات العالم العربي التي يغض الطرف عنها الرئيس الفرنسي مسيو ماكرون والرئيس الأمريكي مستر ترامب، بل ويتعاملون بمنتهى الأريحية والود والمكرم مع الأنظمة “الشريرة” التي تمارس التعذيب كأبشع ما يكون والتنكيل بالمعارضين وأصحاب الرأي..

ولكن كيف أمكن أن يصور جعفر بناهي فيلمه داخل إيران، ثم يخرجه ويذهب به إلى مهرجان كان ويلقي كلمات غاضبة انتقادية ساخنة، ثم يعود غالبا لكي لا يواجه أي محاسبة أو ربما يصدر كالعادة قرار بحظر عمله في السينما، لكنه يستمر في إيهامنا بأنه يصور أفلامه “سرا” كما فعل كثيرا من قبل. ولا أحد يعرف أن داخل السلطة الإيرانية هناك جناح يشجع السينما وإنتاج الأفلام ويتغاضى عما يمكن ان توجهه من نقد بل ويسعده أ يراها تنجح وتفوز بالجوائز في مهرجانات السينما الدولية حتى يبقى اسم إيران دائمتا هناك.. ولكن طبيعي أيضا أن أفلاما أخرى مثل الفيلم الأخير لمحمد رسولوف، بدت شديدة الإزعاج للسلطات بسبب اقترابها من المحزرة السياسي، بينما مضى فيلم “كعكتي المفضلة” الذي ضرب عرض الحائط بكل قواعد الرقابة الإيرانية (تصوير امرأة غير محجبة، ترافق رجلا وتصحبه الى منزلها، حيث يرقصان معا، ويتسامران يشربان الخمر، ويجلسان تحت الدوش في الحمام.. الخ) مضى من دون مشاكل كبيرة مع صناعه باستثناء سحب جوازات السفر لفترة!

من فيلم “نسور الجمهورية”

أما السيد تييري فريمو المدير الفرنسي لمهرجان كان فقد أتى بفيلم محسوب على “السينما المصرية” وهو ليس بمصري، هو فيلم “نسور الجمهورية” للمخرج المصري الأصل- السويدي الجنسية، الذي لا يوجه نقدا للنظام في مصر بقدر مع يحاول عبثا، تصوير مأزق ممثل أو نجم سينمائي شهير عندما يصبح مطلوبا منه العمل في خدومة الترويج للنظام. ولكن المعالجة أفسدت الفكرة ودمرتها وسأعود في مقال مستقل لمناقشة هذا الفيلم.

المشكلة الأخرى أن تييري فريمو ينحاز في هذه الدورة من خلال اختيارات الأفلام، للسنيما الفرنسية بغض النظر عن المستوى، فالمطلوب هو إرضاء شركات التوزيع والتسويف والإنتاج بشتى الطرق، عن طريق برمجة 116 فيلما فرنسيا من جميع الأنواع والأساليب والأطوال في برامج المهرجان، منها حسب التقرير الذي نشرته “يونيفرانس”، 65 فيلما داخل البرنامج الرسمي للمهرجان، منها 14 فيلما في المسابقة الرسمية سواء من الإنتاج الفرنسي المباشر، أو الإنتاج المشترك مع شركات من دول أخرى. كما جعل فيلم الافتتاح فيلما فرنسيا من أفلام التسلية (كوميديا موسيقية) لمخرجته أميلي بونين، وهو فيلمها الروائي الأول، كما اختار الممثلة الفرنسية جوليت بينوش لرئاسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية. وبذلك أتسم المهرجان بالصبغة الفرنسية بشكل يدعو للتوجس، حيث بدا أن فرنسا “تحتفل بنفسها”.

ولا مشكلة في هذا فالسينما الفرنسية سينما كبيرة رائدة.. لكن المشكلة أن غالبية الأفلام المختارة احتيرت لحساب توازنات معينة وليس لقيمتها الفنية العالية فالقيمة الفنية ضعيفة أو متوسطة الجودة.. لكن يمكن اعتبار هذه الدورة دورة تجريبية لأسماء جديدة شابة وخصوصا أفلام المخرجات المبتدئات.. التشجيع جيد.. ومدير المهرجان يريد أن يرضي الجميع.. والجمهور كما هي العادة يصفق بحرارة عقب عرض كل فيلم بغض النظر عن المستوى، فلا أحد يشكو قط من ضعف فيلم ما أو يصفر استهجانا.. فهذا النوع من الجمهور يحب فكرة الاحتفال بالسينما في مهرجان سينمائي.. أي فكرة أن يكون المهرجان عيدا للسينما، فكل الأفلام جميلة، فهو جمهور لا يمتلك نظرة ثاقبة للحكم على الأفلام ولا يهتم أصلا بتقييمها، فهذا أمر متروك للنقاد، لكن المشكلة تصبح أكبر وأفدح إذا كان كبار النقاد في الغرب، يوظفون كتاباتهم لخدمة مجلات ومواقع خاضعة تماما لرأس المال الذي يمول الأفلام ويريد الترويج لها، ولذا فكل المقالات عن جميع أفلام المهرجان (إيجابية) حتى لو بدا أن قليلا جدا منها، يوجه بعض الانتقادات المستترة التي لا تمس ما تنتهي إليه تلك المقالات من إشادة وتشجيع وإطناب ومديح وتطييب ومجاملة وتبني أبوي أيضا لأفلام ضعيفة قادمة من العالم الثالث والرابع!

لأن فيلم “قيمة عاطفية” لم يفز كما كان متوقعا بالسعفة الذهبية فقد منحته لجنة التحكيم “جائزة لجنة التحكيم الكبرى”. وكان أحد النقاد قد كتب أثناء المهرجان يتنبأ بأن السعفة الذهبية لن تخرج عن فيلم من توزيع شركة “نيون” ونضح القراء بأن يضعوا أعينهم على أفلام “نيون” في المهرجان بعد أن فاز بالسعفة ستة من أفلامها من أول “طفيل” الكوري إلى “مثلث الحزن” السويدي، إلى “تشريح سقوط” الفرنسي و”أنورا” الأمريكي. وقد صدق، فكلا الفيلمي، أي فيلم جعفر بناهي الإيراني وفيلم الدنماركي جواكيم تريير (قيمة عاطفية” من توزيع “نيون” أيضا. وكما لو أن مهرجان كان متعاقد مع الشركة النيويوركية!

نادية ميلليتي أفضل ممثلة عن “الصغيرة الأخيرة”

كان من أتعس المفاجآت بالطبع أن تفوز أسوأ ممثلة في أي فيلم من أفلام المهرجان وهي “نادية ميلليتي” بطلة فيلم حفصية حرزي الرديء “الصغيرة الأخيرة”، فوجهها ظل جامدا طوال الفيلم، يرتسم عليه تعبير وتحد متجهم، وبدت متخشبة حجرية بالأحرى، ولعل لها عذرا في ذلك، فهي ليست ممثلة وليست لها أي خبرة سابقة في التمثيل، بل لاعبة كرة قدم اكتشفتها المخرجة وأسندت إليها الدور. شخصيا كنت أعتقد أن جنيفر لورانس هي الأجدر بالجائزة عن دورها المرهق كثيرا في فيلم “مت ياحبيبي” Die My Love للين رامساي الذي لم يكن رغم بروز عنصر التمثيل، فيلما جيدا.

وحصل على جائزة أفضل ممثل فاجنر نورا عن دوره في الفيلم البرازيلي الجيد “عميل سري”.  وكالعادة كان يجب أن ينال البلجيكيان العجوزان المخضرمان جون بيير ولوك داردان، جائزة أفضل سيناريو عن فيلم لا يختلف كثيرا عن سائر أفلامهما المعروفة بأسلوبها الواقعي- التسجيلي، الذي يجعل الفيلم يبدو كمقال عن قضية اجتماعية، هي هنا قضية الأمهات الشابات الوحيدات.

هناك جائزة صغيرة تسمى جائزة لجنة التحكيم الخاصة اقتسمها فيلمان (ضمانا لتحقيق التوازن والإرضاء بقدر الإمكان) هما فيلم “سيرات” Sirat الاسباني لمخرجه أوليفر لاكس الذي فتن الكثيرين وكانوا يرشحونه لنيل السعفة الذهبية (ولست منهم)، وفيلم “صوت السقوط” للألمانية ماشا شيلنسكي وكان البعض قد رشحه أيضا بقوة لنيل جائزة أفضل فيلم.

خرج من سباق الجوائز في كان، بخفي حنين (في حالة اعتراف مهرجان كان بالخفين بالطبع!!) فيلم “المحققان” و”الموجة الجديدة” (وهو في رأيي أفضل أفلام مخرجه، و”الملف 137″ وهما عملن جيدان جدا. ونال الفيلم الصيني البديع
القيامة” بتنويه خاص، فلم يكن من الممكن تجاهله أصلا.. إنه عمل خلافي، أي يمكن أن تنقسم الأصوات حوله، لكنه عمل ينتهي إلى “السينما الخالصة” الشعرية.

من فيلم “كعكة الرئيس”

الكاميرا الذهبية ذهبت تشجيعا لأول فيلم عراقي يشترك في أي فرع ممن فروع مهرجان كان وهو فيلم “كعكة الرئيس” (أو “مدينة القصب”) للمخرج الشاب حسن هادي. وقد نعود إليه تفصيلا فيما بعد في مقال مخصص للأفلام العربية في كان.بالنسبة لجوائز قسم “نظرة ما” شاهدت الفيلم التونسي- الفرنسي وهو “السماء الواعدة” للمخرجة أريج السحيري وهو فيلم جيد، ويمكن مقارنته بالفيلم المصري “عائشة لا تستطيع الطيران” الذي كان يستحق جائزة الإخراج في هذا القسم إلا أن الجائزة ذهبت إلى عرب وطرزان ناصر عن “كان ياما كان في غزة” الذي وجدته عملا مفككا، مرتبكا، أقل كثيرا في مستواه من فيلم الأخوين ناصر السابق “غزة مون أمور” الذي لم يعرض في البرنامج الرسمي بل في “نصف شهر المخرجين” قبل 4 سنوات، ونال جائزة أفضل فيلم “النظرة الغامضة للطائر الفلامنجو” The Mysterious Gaze of the Flamingo للمخرج “دييغو سيسبيديس” Diego Céspedes وهو إنتاج مشترك بين تشيلي وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وبلجيكا.وذهبت جائزة لجنة التحكيم عن جدارة واستحقاق الى الفيلم الكولومبي البديع “شاعر” للمخرج سيمون ميسا سوتو.