“جسر الجواسيس” .. فى مدح “المواطن الأمريكى”!
يمكن أن تستقبل فيلم Bridge of Spies أو “جسر الجواسيس” الذى أخرجه ستيفن سبيلبرج، واشترك فى كتابته الأخوان كوين، باعتباره عملا مشوقا عن سنوات الحرب الباردة بين أمريكا والإتحاد السوفيتى فى الخمسينيات والستينيات، وخصوصا أن القصة مستلهمة من أحداث حقيقية، وبطلها شخص حقيقى، ولكننا تعلمنا أن المخرجين الكبار مثل سبيلبرج لا يستدعون الماضى إلا من أجل أن يقولوا أشياء تتجاوز ما حدث بالفعل، أشياء تتحدث عن الحاضر، مما يعطى هذا الإستدعاء عمقا ومعنى، ربما لا نجده فيما وقع فى الماضى.
من هذه الزاوية فإن “جسر الجواسيس” هو فيلم عن الحرب الباردة وصراعاتها من حيث الحكاية ووقائعها، أما من حيث المغزى فإنه فيلم عن القيم التى صنعت أمريكا، وبسببها انتصرت واستمرت. هذه القيم يجسدها فى الفيلم شخص واحد يواجه الجميع وينتصر عليهم، وهو بطل الحكاية المحامى الملتزم جيمس دونافان الذى لعب دوره ببراعة توم هانكس، أما هذه القيم فهى الحرية، واحترام الدستور والقانون، والعمل المتقن ، والتفانى فى أداء الواجب، واحترام حقوق الإنسان ، والروح العملية التى تترجم المثل الى حقائق ونتائج وثمار ملموسة، وقبل كل شىء تلك العبارة التى قالها دونافان وهى: ” كل إنسان جدير بالأهمية”.
الشكل والمضمون
استلهام الماضى إذن وسيلة شكلية للحديث عن ضرورة الحفاظ على تلك القيم التى لولاها ما انتصرت أمريكا سواء فى الحرب العالمية الثانية، أو فى الحرب الباردة، و قد عثر صناع الفيلم على ضالتهم فى قصة محامى التأمين البارع جيمس دونافان الذى تحمس للدفاع عن جاسوس سوفيتى، ورغم استهجان الجميع وعدوانيتهم أحيانا فى رفض ما فعله، إلا أن الفيلم يقول بوضوح أنه لولا ما فعله دونافان ( حامل لواء القيم الأمريكية الحقيقية)، ما تمت صفقة تبادل هامة للجواسيس، أى أن فعل دونافان الأخلاقى كانت له نتائج براجماتية ملموسة، ويعنى كل ذلك أن التمسك بالقيم رهان على الإنتصار على أرض الواقع، وهى نتيجة رائعة ترضى أنصار الأخلاق المثالية الحميدة، وأنصارالنزعة البراجماتية معا.
يقدم الفيلم أولا الجاسوس السوفيتى رودلف آبل ( مارك رايلانس فى أداء يستأهل أرفع الجوائز)، نراه كرجل عجوز يرسم نفسه اعتمادا على انعكاس صورته فى المرآة، اللقطة الأولى بارعة، وتثير القلق والتساؤل بأن تجعل له ثلاث صور مرة واحدة: وجهه الحقيقى، وانعكاس صورته فى المرأة، والبورتريه الذى يرسمه لنفسه. بعد مراقبة الرجل فى شوارع بروكلين فى العام 1957، يتم القبض عليه. لن يعثر رجال مكتب التحقيقات الفيدرالى على تلك الوريقة الصغيرة التى رأيناها معه،ولن نعرف أبدا محتواها، كما أن صمت الرجل وهيئته المسالمة خادعتان، ولكنه سيصبح فى النهاية فى موضع الإتهام، فيصر على إنكار كل شىء، ويرفض أى تعاون معلوماتى يخرجه من المأزق.
ويقدم السيناريو ثانيا بطلنا المحامى جيمس دونافان (هانكس) فى أثناء مفاوضات شاقة، تمهيدا لمفاوضات نهاية الفيلم، ولكنه هنا يتفاوض كمحام فى مجال التأمين، ممثل الطرف الآخر يتحدث عن سيارة حطمت عدة سيارات، ويريد تعويضا عن كل سيارة تحطمت، بينما يحاجج دونافان فى ذكاء بأن الحادثة واحدة، وبالتالى لابد أن يكون التعويض، واحدا وليس متعددا بعدد السيارات المحطمة. نحن إذن منذ البداية أمام شخص ذكى ومفاوض بارع، يعرف القانون جيدا، محدد العبارة، وقادر على إدارة أصعب المواقف.
عندما يستدعى دونافان للدفاع عن آبل يبدو كما لو أنهما على موعد مع القدر، لم يقبل دونافان مهمة الدفاع عن جاسوس روسى فى الحال، ليس لأنه سيدافع عن عدو، ولكن لأن دونافان محامى تأمين ناجح، وليس متخصصا فى هذه القضايا ذات الطابع السياسى، ولكن شريكه فى مكتب المحاماة يحاجج بأن دونافان كان ضمن ممثلى الإدعاء فى محاكمات نورمبرج الشهيرة، يوافق دونافان ويلتقى مع آبل .
من أفضل مشاهد الفيلم تلك اللقاءات بين دونافان وآبل، رجلان من عالمين مختلفين، ولكنهما يقدسان الواجب، بل إن سبب إعجاب الرجلين ببعضهما أن كل واحد منهما يؤدى واجبه: دونافان سيدافع عن موكله ( عدو أمريكا كما تصوره الصحف) حتى الرمق الأخير لأن هذا واجب أى محام، وآبل لن يعطى أى معلومة، ولن يقدم أى اعتراف، بل إنه سيظل هادئا طوال والوقت، لأن هذا واجب أى جاسوس يؤدى عمله، حتى بعد القبض عليه.
الدراما تضع الشخصيتين موضع الإختبار، وسنجحان بامتياز، ولكن فيلمنا بالأساس عن البطل الأمريكى الذى يتمسك بالقيم الذى صنعت وطنه، ولذلك سيتم التركيز على تفصيلات حياته : لديه أسرة وبنت شابة وولد صغير ومنزل جميل ( تجسيد واضح لفكرة الحلم الأمريكى). زوجته تستنكر قبوله الدفاع عن جاسوس ضد بلده، ورئيس المحكمة يستدعية ليؤكد له شخصيا أن القضية منتهية، والحكم بالإدانة قادم لا محالة، وأن المحاكمة شكلية، ولكن دونافان يرى أن هذا الموقف يدمر أفكارا مثل العدالة والمساواة، وهى أفكار ضرورية حافظت على تماسك أمريكا، ولكنها أيضا أفكار لابد أن تطبق على كل البشر، لأن كل إنسان يستحق ذلك، ولأن ” كل إنسان جدير بالأهمية”، مهما كان موقعه أو موقفه أو جنسيته.
يرفض دونافان التراجع عن الدفاع عن الجاسوس، ويواجه بشجاعة محاولة تخويفه هو وأسرته بإطلاق الرصاص على منزله، ويرفض أن يستدرج العميل السوفيتى للحصول على معلومات تستفيد بها المخابرات الأمريكية، ويقول لهوفمان عميل السى آى آيه: ” أنت من أصول ألمانية، وأنا من أصول آيرلندية، والشىء الوحيد الذى يجعلنا أمريكيين هو التزامنا بنفس الدستور”. هذه العبارة هى الفيلم كله، لأنه تعنى ببساطة أن الأمريكى يستحق جنسيته بتمسكه بالقيم التى صنعت مجتمعه، وليس بالوراثة، ومن خلال هذا التمسك فحسب ستنتصر أمريكا فى معاركها الكبيرة والصغيرة.
المقدمة والنتيجة
ستتم إدانة آبل رغم نجاح دونافان فى البحث عن ثغرات، ورغم نشاطه وبحثه الذى لا يكل فى كتب القانون، وينجح دونافان أيضا فى إقناع رئيس المحكمة بالنزول بالعقوبة الى السجن بدلا من الإعدام، رغم إدانة المحلفين القاطعة، وكانت حجة دونافان براجماتية تماما: ما الذى ستستفيده أمريكا من إعدام جاسوس صامت؟ أليس من الأفيد أن يبقى مسجونا فقد تأتى الفرصة لمبادلته بجواسيس أمريكيين أو بشخصيات أمريكية هامة وقعت فى أيدى السوفييت؟
لعلكم لاحظتم أن دونافان لا يتحدث عن قيم منفصلة عن الواقع العملى، وأنه يستخدم ذكاءه فى الدفاع عن القيم، وإقناع أولئك الذين لا يعترفون إلا بالنتائج العملية، والثمار المتحققة، وفكرة الفيلم محورها قدرة دونافان فى إنزال القيم المطلقة من السماء، وإلباسها ثوب قضية الجاسوس الصعبة على الأرض، وبسبب ذلك فإن السيناريو ينشطر الى جزءين واضحين بينهما جسر اسمه دونافان نفسه: القسم الأول هو المقدمة التى تنتهى برفض المحكمة العليا استشكال دونافان فى موضوع إدانة موكله بالسجن، ونجاح المحامى رغم ذلك بالحفاظ على حياة الجاسوس بدلا من إعدامه، أما الجزء الثانى فهو نتيجة لتلك المقدمة، والثمرة العملية لهذا الموقف الأخلاقى، حيث سيقود دونفان بمهارة عملية مبادلة آبل باثنين من الأمريكيين وقعا فى أيدى الشيوعيين: طيار شاب أسقطت طائرة التجسس التى كان يقودها فوق الأراضى السوفيتية، فاعتقل وحكم عليه بالسجن، وشاب أمريكى قبضوا عليه أثناء بناء سور برلين، ادعت سلطات ألمانيا الشرقية أنه جاسوس، بينما هو عاشق لفتاة فى القسم الشرقى من برلين، وطالب علم أنجز رسالة فى الإقتصاد!
يجب علينا أن نلاحظ أن دونافان سيقوم بهذه المهمة”كمواطن أمريكى”، وبدون أى صفة رسمية، أى أن الحكومة الأمريكية بعيدة عن الصفقة، وإن كانت هى وراءها. السيناريو الذكى الذى بدأ بمحام يتم تكليفه من نقابة المحامين بالدفاع عن جاسوس سوفيتى، أصبح الآن ( بفضل التزامه بالقيم الأمريكية) وكيلا عن الوطن نفسه، بل إن تعبير “مواطن أمريكى” يكتسب هنا دلالته العظمى، وكأن دونافان الوحيد الذى يستحق هذا اللقب (راجع حواره مع هوفمان ممثل مكتب التحقيقات)، وهكذا يتحول الدفاع عن قيم صنعت الوطن، الى دفاع عن الوطن نفسه، ويتحول محامى شركات التأمين، الى محامى” تأمين” عودة مواطنى أمريكا المعتقلين خارجها الى بلدهم.
النصف الثانى من الفيلم أقل كثيرا من نصفه الأول، إذ تغلب عليه الحوارات، ولولا مشاهد بناء سور برلين لكان الوضع أسوأ، ولكن الصراع ما زال حيا، ذلك أن دونافان سيخوض حربا جديدة تحت نفس المبدأ الذى طبقه على الجاسوس السوفيتى وهو “كل إنسان جدير بالأهمية”، المخابرات لا تريد سوى مبادلة الطيار الذى يحمل أسرار طائرته العسكرية، بينما يصمم دونافان على استعادة طالب الإقتصاد فى نفس الصفقة، وينجح فى ذلك بذكائه ودهائه ودأبه، ولا ينس أن يودع صديقه الجاسوس آبل وهو يبادله بالشابين الأمريكيين على جسر جلينكه ، الذى يستحق أن يحمل اسم جسر الجواسيس.
لا ينس الفيلم اكتشاف “الأسرة”، وهى إحدى أيقونات هوليود الكبرى، الدور العظيم الذى لعبه دونافان، ورغم أن الفيلم ينتهى بالمحامى وهو يراقب استعدادات الأطفال للإختباء من قنبلة نووية قادمة، إلا أن عناوين النهاية تقول إن دونافان قام بعد ذلك بمهمة كلف بها من جون كنيدى لإطلاق سراح أمريكيين قبض عليهم فى كوبا، إثر فشل عملية خليج الخنازير فى السيتينيات، وقد نجح دونافان ( المواطن الأمريكى الحق) فى مهمته بامتياز.
“جسر الجواسيس” عمل ذكى وعميق، يشغلك بحرب الجواسيس فيما هو يتحدث عن حرب أخرى، وعن اختبار أصعب، إنها حرب القيم التى صنعت الحلم الأمريكى، والتى حققت النصر.
ربما يكون من الأدق أن نقول أن حرب الفيلم الحقيقية هى أن يكون مشاهده الأمريكى مواطنا أمريكيا حقيقيا، وليس مواطنا مزيفا.