“جسد غريب”: مشاكل متكررة في الكتابة السينمائية

لابد من الإقرار أولا بغياب أي علاقة بين فيلم “جسد غريب”، الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرجة التونسية رجاء العماري، وبين ما رددته المخرجة نفسها في أكثر من مناسبة كان أحدثها عند تقديمه في الدورة الأخيرة بمهرجان برلين السينمائي، من أنه فيلم يتناول مشاكل الهجرة غير القانونية أو غير المشروعة إلى فرنسا. فمن يشاهد الفيلم يدرك أن بطلته الشابة “سامية”، لا تعاني من أي مشكلة تتعلق بوجودها على الأراضي الفرنسية، بل على العكس، تتمتع بأكثر مما تحلم به مواطنة فرنسية من نفس عمرها، كما سيتضح لاحقا.

بطلة الفيلم الشابة “سامية” (ساره حناشي) نراها في أول مشهد من الفيلم تكافح أمواج البحر بحثا عن النجاة من الغرق، بينما يغرق من حولها بعض زملائها فنستنتج أنها كانت ضمن مجموعة من الشباب يسعون لدخول فرنسا عن طريق أحد “قوارب الموت”، وأن القارب انقلب بهم في البحر، وغرقوا جميعا  فيماعدا سامية، التي تنهض وتعثر على حقيبة يدها الصغيرة التي ربما يكون جواز سفرها في داخلها، ولكن دون حقيبة ملابسها بالطبع، لكننا رغم ذلك، نراها غير مبتلة الشعر والملابس فنستنتج مرة أخرى، أو نقول لأنفسنا إنها ربما تكون قد فقدت الوعي وظلت لفترة طويلة فاقدة الوعي على الشاطئ فجف شعرها وجفت ملابسها. لا بأس بالطبع أن تتحايل المخرجة باستخدام ما يعرف في السينما بـ”الاقتصاد في الزمن” فتتغاضى عن شرح الكثير من الأشياء التي لا تبدو مفهومة، ولا بأس أن تكتفي ببعض الإشارات التي يمكن أن يستنتج منها المتفرج ما يشاء، لكننا سننتقل مباشرة دون تمهيد إلى شارع باريسي حيث نرى سامية تسير ببطء وهي تتطلع حولها، مرتدية ملابس شتوية تلف حول رقبتها كوفية من الصوف، وتضع فوق رأسها طاقية، ولا نعرف من أين جاءت بهذه الأشياء وليس مهما أن نعرف كما ليس مهما أن نسأل عن أي صلات بين معظم مشاهد الفيلم وشخصياته، ففي هذا الفيلم كل شئ يخضع للتقدير والاستنتاج والتخيل.

سامية التي لم يسبق لها أن زارت باريس، تبدو وكأنها تعرفها عن ظهر قلب، خاصة وان هذه لا تبدو باريس التي نعرفها فجميع المشاهد الخارجية لا تخرج عن نطاق بعض الشوارع الصغيرة الخالية من المارة، بعيدة عن ضجيج وزحام باريس المعروفة، وبذلك تغيب أي علاقة مع المكان.

سامية تتجه بثقة نحو هدفها، والهدف هو المقهى الذي يعمل فيه “عماد” (سليم كشيوش) وهو شاب كان صديقا لشقيقها، ويبدو أنه كان أيضا مغرما بها، يستقبلها بمنتهى الود والترحاب، يقدم لها طعاما لتأكل، ثم يصطحبها إلى حيث يقيم في شقة مع اثنين من أصدقائه، يمنحها بعض ملابسه، وحقيبة يد لتبدو مثل طالبة كي لا تثير انتباه الشرطة، مع بعض النصائح الثمينة لكي تتجنب المتاعب في الخارج، بل وبعض المال لتتدبر أمرها ثم يناولها هاتفه المحمول لتتصل بوالدتها تطمئنها عليها. لكنها لا تشعر بالارتياح بعد أن سمعت أصدقاء عماد يستنكرون وجود فتاة بينهم، ونعرف من حديثهم أن سامية هي شقيقة “مراد” المسجون حاليا في تونس وسنعرف فيما بعد انه كان ضمن مجموعة ارهابية.

يعدها عماد بالعثور على عمل لها، وأنها يمكن أن تحصل على أوراق الإقامة فيما بعد، دون أن يقترب منها أو يلمسها أو يحاول استغلال وجودها بأي حال، رغم أنها ترقد في فراش مجاور له داخل حجرته. وعندما تتأخر في الخارج يلومها قائلا إنه يعتبر نفسه مسؤولا عنها. لكنها رغم كل هذا الاهتمام والود ترفض رعايته التي تعتبرها وصاية، وتنفر منه وتعامله بخشونة ونفور بالغ لا يمكن لأي متفرج أن يفهم دوافعه وأسبابه. لكن يمكن التغاضي عن عدم الوضوح هنا بالاستنتاج أنها ربما تشعر بأنه المسؤول عن الوشاية بشقيقها.

غياب الموضوع أثر سلبا على التمثيل

جنة الوافدين

تذهب سامية إلى مقهى بحثا عن عمل فيستقبلها صاحب المقهى بود ويرشدها إلى لوحة الإعلانات المعلقة داخل المقهى، ويقدم لها القهوة دون مقابل، ففرنسا هي جنة المهاجرين على ما يبدو، فسرعان ما تقابل السيدة “ليلى” (هيام عباس) وهي امرأة في منتصف العمر،  تسكن شقة في العمارة المجاورة للمقهى، وقد جاءت للمقهى لكي تضع إعلانا تطلب فيه خادمة، وكأن الإعلان موجه خصيصا لفائدة سامية. ورغم أن ليلى تشترط أن يكون لدي سامية التي تتقدم للعمل، بطاقة هوية وإقامة رسمية، إلا أنها سرعان ما تتغاضى عن شروطها وتقبل أن تعمل سامية بل وتقيم أيضا معها داخل شقتها الفسيحة، وتمنحها راتبا جيدا. وسنعرف أن زوج ليلى توفى مؤخرا، وانها تشعر بالوحدة لكنها تستمتع بالتلامس الجسدي، فتطلب من سامية أن تقوم بتدليك جسدها. ثم سنرى عماد يتتبع سامية ربما خشية عليها، لكنها تنفر منه وتوبخه دون أي سبب واضح للمتفرج الذي ربما يكون قد يعصر ذهنه بحثا عن استنتاجات أخرى تفسر له ما لا يمكن للفيلم تفسيره، وتعرض ليلى- أن تتحدث مع عماد، لكنها تدعوه إلى شقتها وتقيم معه علاقة جسدية في وجود سامية، التي تشعر بالغيرة دون مبرر (فهي نافرة من عماد أصلا) كما تشعر بالنفور من سلوك ليلى التي تبدو كما لو كانت قد خدعتها، لكن سامية لا تغادر بل تجنح للتصرف كما لو كانت سيدة المنزل، دون أن تملك التحكم في ليلى.

البعد عن الموضوع

هذه التفاصيل المضطربة المشوشة لا علاقة لها بموضوع الفيلم الأصلي والتي لا تتضح أبعادها ودوافعها ولا تبدو حتى متسقة مع تكوين الشخصيات. عماد مثلا يبدو من البداية شابا مستقيما بعيدا كل البعد عن الانتهازية، حريص على أداء الصلاة، لكنه رغم ذلك، يتحول فجأة إلى وغد بعد أن ترد له سامية المبلغ الذي كمحها إياه في البداية، فيطلب منها ثمن المكالمة التليفونية التي أجرتها من تليفونه المحمول (كذا!)، وهو يستغرق في علاقته بليلى، يشرب معها الخمر الذي كان قد حرمه على نفسه، ويستمرئ ما تمنحه له من هدايا، بينما ترفض سامية هذه العلاقة وتستنكرها، لكنها رغم ذلك، مازالت متعلقة بليلى، دون أن تتورط معها في علاقة جسدية. فهل ليلى من المثليات جنسيا؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تستشعر رجاء العماري حرجا في التصريح بذلك، على الأقل كان التصريح سيجعلنا نفهم دوافع الشخصية ونحس بها، اما التلميحات المتناقضة فهي تربك المتفرج وتتسبب في وقوع المخرجة- كاتبة السيناريو، في الكثير من الأخطاء سواء في السرد أو في بناء الشخصيات أو حتى في الانتقال بين المشاهد من خلال المونتاج.

 هناك إشارة إلى أن ليلى ليست فرنسية بل جاءت إلى فرنسا منذ سنوات بعيدة كمهاجرة، وتزوجت من الرجل الذي توفي حديثا، لكن الفيلم يخفي أصولها عمدا، وربما كان من الأفضل لو كانت فرنسية “أصلية”، وهي تبدو كما لو كانت تريد تعويض غياب زوجها المفاجئ بالاندماج في علاقات بديلة، ولكن هذه العلاقات كما يصورها الفيلم متناقضة مع التكوين الأصلي للشخصية نفسها (التي مازالت ترتدي ملابس الحداد ولا يبدو عليها التهتك)، بل وغير مقنعة ومفتعلة لكي يدخلنا الفيلم في سرداب من التناقضات منحرفا عن موضوعه الاساسي.

  ليلى معجبة بسامية لكنها معجبة أيضا بعماد، واجتماع الثلاثي معا غير منطقي وغير مقنع، والأهم أنه يبتعد بالفيلم خارج موضوعه. فها هي سامية التي يفترض أنها تعاني من مشاكل العيش في المهجر، تعيش كملكة غير متوجة، فقد أصبحت تقريبا هي سيدة المنزل، بل إنها عثرت – بمساعدة ليلى- على عمل جيد في محل لبيع العطور الباريسية وهو عمل ما لا تحلم به فتاة فرنسية عديمة الخبرة والمؤهلات، ناهيك عن توفرها على إقامة قانونية في البلاد. وفجأة، في الدقائق الأخيرة من الفيلم، نعرف أن عماد كان قبل سنوات ضمن خلية إرهابية مع مراد كما تعرف سامية من والدتها (التي لم تكن في البداية تعرف أين ذهب مراد) تخبر سامية أنه مات في السجن بعد أن قضى فيه ثماني سنوات. وسنرى لدهشتنا أن سامية التي أعربت لليلى عن كراهيتها الشديدة لشقيقها الذي كان يقوم بجلدها بالسياط (آثار الضرب بالسياط محفورة في ظهرها)، سيتقرر فجأة العودة إلى تونس حيث تصحبها ليلى!

المشاهد الزائدة ساهمت في هبوط إيقاع الفيلم

هناك مشهد ترقص خلاله سامية في مقهى عماد الذي يشعر بالغضب ويقرر صرف الزبائن، ثم مشهد آخر في شقة ليلى حيث ترقص مع سامية وعماد، وهذا النوع من المشاهد التي لا ضرورة لها في سياق الفيلم، مصنوعة صنعا لإرضاء المزاج الغربي، ولكنها لا تنقذ الفيلم من السقوط في الرتابة والتكرار والإيقاع البطئ الهابط والحبكة التي تدور حول نفسها دون تطور حقيقي، بل إن الأسلوب نفسه يبدو مضطربا، فتارة يتخذ أسوب الفيلم الواقعي، وتارة أخرى أسلوب فيلم الإثارة والترقب والغموض، أو بحث الشخصية عن توجهها الجنسي: هل هي تميل للرجال أم للنساء.

تشوش واضطراب

يعاني الفيلم من المواقف المتناقضة ومن الحوارات التي تعيق الحبكة وتضلل المتفرج وتربكه. عماد مثلا ربما يحب سامية، لكنها تنفر منه، رغم انها تشعر بالغيرة من سلوكه إزاء سامية، ولاشك أنه قد أصبح الآن مختلفا عما كان في الماضي، ويتناقض سلوكه المنضبط مع سامية في البداية مع بحثه عنها ومراقبة تحركاتها فيما بعد، فهل هو يخشاها ويخشى أن تبلغ عنه، لكننا لا نعرف بعد حقيقة ماضيه، وسامية تحب ليلى لكنها تدفع سامية بقوة وعنف عندما تحاول تقبيلها خلال مشهد الرقص بين الثلاثة، وسامية تشير من النافذة وتقول لليلى إن شقيقها مراد حضر وموجود في الشارع، تماما بنفس الطريقة ومن نفس زاوية الكاميرا والميزونسين وطريقة الممثلة في التعبير عندما قالت لليلى من قبل” أنظري ها هو “عماد” موجود في الشارع.. لكن مراد، (لم يكن هناك) بل لايزال في تونس.

أدت هيام عباس دور ليلى بكثير من الجهد واجتهدت لكي تضيف إليه أبعادا ليست موجودة في السيناريو الأصلي، ولكن دون جدوى. وبدا الممثل الجزائري متفاعلا بطريقة جيدة مع الدور ومع المحيط لولا إحجام المخرجة عن دفعه للقيام بما كان يتعين عليه القيام به، خشية الاتهام بالجموح، أما أداء الممثلة ساره حناشي في دور سامية فهي رغم حضورها في معظم مشاهد الفيلم، ورغم أن الكاميرا تتخذ وجهة نظرها طول الوقت، إلا أنها رغم اجتهادها، بدت كما لو كانت قد أصبحت أسيرة التعبير الواحد على وجهها، وافتقدت إلى التقلبات والمشار المتضاربة التي كان يمكن أن تمنح الدور حضورا إنسانيا أكبر.

من المؤسف أن مشاهدة هذا النوع من الأفلام التي تبدأ بداية قوية ثم تنتهي إلى التشتت والضياع والفشل في السيطرة على الموضوع تحت إغراء التشتت في اتجاهات بعيدة عنه، كما تبدى على سبيل المثال في استخدام موضوع الثورة التونسية كتعليق هامشي عابر بدعوى المعاصرة، تجعل المرء يتساءل: متى سيعرف غالبية المخرجين العرب كيفية رواية قصة متماسكة لها بداية ولها نهاية؟ وهل هذه هي السينما الجديدة أو الطليعية أو المتمردة على “هوليوود” أو على السينما المصرية التجارية التي ننتقدها عادة بقوة؟ فهي- على الأقل- تمتلك القدرة على التسلية، وربما تحقق أيضا بعضا من متعة المشاهدة!

Visited 95 times, 1 visit(s) today