جذور الاقتباس في الفيلم المصري “ولاد رزق”

الاقتباس في السينما أمر معروف ومألوف، يقوم به كبار السينمائيين في العالم، ولكن العبرة بالطبع بمقدرة السينمائي على تطويع الأفكار المقتبسة لأسلوبه الخاص، وقدرته على إقناع المشاهدين بالتجربة السينمائية التي يقدمها وبلاغتها الفنية، وليس بعيدا عن الأذهان اقباس المخرج تارانتينو لفيلم إيطالي من الستينات في فيلمه الشهير “جانغو طليقا”.

لاشك أن فيلم “ولاد رزق” الذي كتب له السيناريو صلاح الجهيني، وأخرجه رياض العريان، أحد الأفلام المتميزة فنيا في سينما 2015 المصرية، سواء في طريقته في السرد أي بالأسلوب الذي اختاره كاتب السيناريو لرواية الأحداث وتوليف “الحبكة”، أو في كفاءة الإخراج الذي وضع الشخصيات الرئيسية في الفيلم، وهي لمجموعة من الشباب من الخارجين على القانون، في محيطها الاجتماعي المتدني، في أحياء القاهرة الهامشية، مصورا أجوائها ببراعة، مضفيا عليها لمحة مصرية دقيقة تشي بالحالة الراهنة التي أصبحت عليها تلك الأحياء، من خلال ما صوره من مشاجرات في الشوارع، والربط بين الرغبة المتهورة لدى هؤلاء الشباب لتحقيق الكسب السريع، من خلال السرقة والابتزاز والتهديد، والحصول على المتع الحسية المباشرة، ثم تصوير خروج أحد أبطاله “رضا” (أحمد عز) في مشهد طريف، إلى “الحارة” أمام منزل الفتاة التي يحبها “حنان” (نسرين أمين)، والصياح أمام جميع السكان، مؤكدا لهم أن “حنان” “تخصه وحده”، محذرا أي شاب من الاقتراب من بيتها أو التقدم لخطبتها.. بالإضافة بالطبع إلى نجاح العريان في إخراج الكثير من مشاهد المطاردات والعنف التي استعان في تنفيذها بفريق دنماركي.

ولعل مما يلفت الانتباه في هذا الفيلم المختلف في نسقه ومذاقه عن غيره من أفلام العنف و”الأكشن” في السينما المصرية مع لمسة من الكوميديا، أن الحبكة أو سياق السرد narrative في الفيلم مقتبس بذكاء شديد وبنوع من التحايل الماهر، من الفيلم الأمريكي الشهير “المشتبهون العاديون” The Usual Suspects. ففيلم “ولاد رزق” يتشابه كثيرا معه، أولا في إسناد البطولة إلى خمس شخصيات، هم أولاد الأسطى رزق، صاحب ورشة اصلاح السيارات الذي توفي وترك لهم الورشة، لكنهم لا يحصلون منه على ما يكفيهم، وهو ما يدركه الشقيق الأكبر “رضا” الذي أصبح بديلا عن الأب الراحل، فيبدأ التمرد ويعقد اتفاقا مع أشقائه الأربعة، على الاشتراك معا في السطو والسرقة على أن يظلوا دائما مخلصين لبعضهم البعض، ويلتزمون بالابتعاد عن القتل والمخدرات. وبعد سلسلة من العمليات، آخرها العملية التي تؤدي الى إصابة شقيقهم الأصغر “رمضان” وفقدانه عينه، يقرر “رضا” الذي يرغب في الاستقرار بعد زواجه من “حنان” التي أصبحت حاملا منه أيضا، في اعتزال الإجرام، وسط معارضة قوية من شقيقه التالي “ربيع” (عمرو يوسف)، ومعارضة مستترة من أشقائه الآخرين الذين يقولون له إنهم لا يعرفون عملا آخر يمكنهم القيام به غير السرقة. وينتهي الأمر بعودة رضا في نهاية الفيلم إلى طريق الجريمة.

في فيلم “المشتبهون العاديون” هناك أيضا خمسة من المجرمين يتزعمهم “كيتون” (المعادل لرضا) الذي كان في السابق ضابط شرطة فاسد منحرف ارتكب عددا من الجرائم، ثم طرد من العمل واتجه الى استثمار أمواله في “البيزنس” وارتبط بعلاقة حب مع “إيدي” المحامية التي تتابع النواحي القانونية لأعماله، يريد أن يتزوجها ويستقر معها، لكنه يجد نفسه مضطرا للعودة إلى الجريمة مجددا.

ومن ناحية البناء وشكل السرد يعتمد “المشتهبون العاديون” على رواية القصة من خلال شخصية “فيربال” (كيفن سبايسي) المعاق، وهو أقل المجرمين الخمسة شأنا وذكاء، ويصبح هو الوحيد من بينهم الذي ينجو من العملية الأخيرة التي انتهت باشتعال النيران في المركب الذي هاجمته المجموعة لإفساد صفقة بيع كمية من الهيروين تبلغ 91 مليون دولار، وهم يفقدون جميعا حياتهم- باستثناء “فيربال”- خلال المعركة التي تدور على سطح المركب، حسبما يروي فيربال لضابط الشرطة بعد القبض عليه وعقد اتفاق بالبوح بكل ما يعرفه عن العصابة مقابل الإفراج عنه. إننا نشاهد الأحداث من وجهة نظره، يرويها في “فلاش باك” على مدار الفيلم، إلى أن يكتشف الضابط في النهاية أنه خدعه وكان يقص عليه رواية ملفقة.

وفي “ولاد رزق” يقص “عاطف” صديق المجموعة منذ الطفولة، على ضابط الشرطة، تفاصيل العمليات التي قامت بها العصابة من خلال مشاهد الفلاش باك لكي نكتشف في النهاية أنه كان يخدع الضابط الفاسد عمدا، ويقوده نحو وجهة معينة من أجل الإيقاع به. ولكن بينما كان “فيربال” في الفيلم الأمريكي مشاركا في كل الأحداث التي يرويها على الضابط وهو ما يساهم في جعل الضابط والمشاهدين، يبتلعون “الطُعم”، كان “عاطف” في الفيلم المصري خارج عمليات الجماعة طول الوقت كما يقر هو ويعترف، مما دفع الضابط إلى السخرية منه ذات مرة في خضم روايته لأدق تفاصيل العمليات بقوله “وهل كنت ترقد تحت الفراش تستمع إليهم”، فيقول له عاطف الذي أدى دوره بمهارة كبيرة الممثل أحمد الفيشاوي، إنه كان حاضرا أثناء تخطيطهم لكل العمليات التي قاموا بها. ولأن هذا التفسير ليس كافيا لضبط “الحبكة” وإقناع المشاهدين، يجعل السيناريو رضا يعترف قرب النهاية للضابط بوضوح، بأن “عاطف” لم يكن في الحقيقة سوى شقيقه “رجب”، وأنه قد خدعه ومثل عليه دور عاطف شقيق زوجته حنان، الذي هو في الحقيقة أقل من الجميع ذكاء وفطنة وإدراكا (على غرار فيربال في “المشتبهون العاديون”) مع الفارق بالطبع.

في الفيلم الأمريكي يشترط “كيتون” على رفاقه الأربعة لقبول قيادتهم في عملية السرقة القادمة، الابتعاد تماما عن القتل والمخدرات. وعندما يقومون بالعملية يتورطون في قتل حارسين من الحراس الشخصين للمهرب، ثم قتل المهرب نفسه بعد أن يرفض الانصياع لأوامر كيتون، ويكون من يقتله في النهاية هو “فيربال”، ثم يكتشفون أن الحقيبة التي حصلوا عليها منه، تحتوي على الهيروين بدلا من المال، فيذهبون الى الرجل الذي كلفهم بالعملية، يلقون في وجهه بأكياس المخدرات تعبيرا عن شعورهم بالغضب الشديد. وفي الفيلم المصري يجد “رضا” وأشقاؤه أنفسهم أمام مدير كازينو القمار الذي قاموا بالسطو عليه، يواجه بشجاعة المسدس المصوب إلى رأسه، يرفض أن يتركهم يهربون المال الذي سرقوه، وتكون النتيجة أن العملية التي كان يفترض أن تتم دون اراقة للدماء تنتهي الى إطلاق الرصاص وانفجار العنف، وأن يفقد الشقيق الأصغر “رمضان” عينه، وخروج المجموعة في النهاية، بدون المال!

كان الفيلم الأمريكي ينتهي بانتصار المجرم “فيربال” على الضابط، وهروبه بالمال الذي حصل عليه من عملية اقتحام المركب في ميناء لوس أنجليس بعد ان أدرك الضابط- متأخرا- أن “فيربال” هو “قيصر سوزي” نفسه ذلك المجرم الأسطوري الذي يحرك الأشياء من بعيد دون أن يعرف أحد حقيقته بالضبط، وأنه ضحك عليه وقص عليه قصصا كاذبة، وجعله يعتقد أن “كيتون” هو “قيصر سوزي”، وأنه ربما لم يمت بل مازال حيا وقد اختفى بالمال المسروق.

وفي الفيلم المصري تنتهي الحبكة بفكرة مدهشة تتيح للأشقاء الخمسة (لا يفقد أحد منهم حياته) الاستيلاء على المخدرات من ضابط المباحث الفاسد الذي سرقها، واعادتها الى المعلم “صقر” (سيد رجب) مقابل إطلاق سراح شقيقهم الأصغر”رمضان” الذي احتفظ به كرهينة الى حين إتمام العملية. وقد فشلت العملية بعد تدخل الضابط والاستيلاء على المخدرات والاحتفاظ بها في الجزء الخلفي من سيارة داخل قسم الشرطة، في أول مشهد من نوعه في تاريخ السينما المصرية، يوجه إدانة هائلة مباشرة لفساد الشرطة. وفي نهاية الفيلم تستعد المجموعة للقيام بعملية جديدة، بينما تتجه الشرطة للقبض على المعلم صقر وفي حوزته المخدرات، أي أن جماعة الأشقياء هي التي تنتصر بعد أن تمكنت من قهر المجرم الشرس المتمرس في الإجرام، وعلى الشرطي الفاسد، وتضربهما ببعضهما البعض.

في الفيلم الأمريكي إذن ينجو اللص من الشرطي، وفي الفيلم المصري، يتضح أن الأشرار الحقيقيين الأكثر عنفا وفسادا ليسوا أبناء المعلم رزق الذين يرفضون القتل والمتاجرة في المخدرات، بل تاجر المخدرات الجشع المعلم صقر، وضابط الشرطة الفاسد الذي أراد الاستيلاء على المخدرات لحسابه.

وإذا كان الاقتباس لا يؤدي عادة إلى نتائج جيدة في معظم الأفلام المصرية “الاستهلاكية”، إلا أن كاتب سيناريو فيلم “ولاد رزق” نجح في اقتباس طريقة السرد من الفيلم الأمريكي بعد تطويعه وتطعيمه بأفكاره الخاصة المستمدة من أكثر من مصدر، مع نكهة مصرية خالصة تبدت في الحوار الطبيعي التلقائي الذي ربما صدم بعض أنصار ما يسمى بـ “السينما النظيفة” لتضمنه الكثير من الألفاظ الجريئة التي تتردد عادة في الواقع نفسه، في أوساط الشباب من الخارجين على القانون.

اقتباس؟ نعم.. ولم لا؟ فالعبرة في النهاية بالمنتج النهائي، وبنجاحه في توفير متعة المشاهدة، وفتح طرق جديدة للسرد السينمائي. وهو ما نجح فيه الفيلم.

Visited 95 times, 1 visit(s) today