جدلية التذوق والتلقي بين القارئ والمشاهد

يفسر الدكتور صالح  الصحن كلمة تذوق من الفعل، بالرجوع أولا لقاموس المحيط، وينتقل لمعنىً التذوق في حقول الأدب والفن، وهو معنى، يعُدَّ عنصراً ضرورياً لإكمال مهمة التلقي، التي تهدف للوصول إلى ذائقة الجمهور والتأثير فيه.ويبين كيف أختلف باحثون ومفكرون، في مجال الأدب والفن، في تحديد مفهوم التذوق الفني، رغم التقارب والتوافق فيما طرحوه وتفقهوا فيه.

ويرى إن الفيلم: “لا يعتمد على الفطرة فقط، ولا يقتصر على بساطة الفهم، وإنما على جملة من عناصر المعرفة والثقافة والخبرة ، إضافة إلى مهارات واضحة في التمييز بين الأشكال والأجناس والمدارس والاتجاهات الفنية، لأن ديمومة التّذوق ترتبط في متابعة المتغيرات المستمرة  ومعرفتها، التي تحصل في حرفيات العمل الفني وتوجهاته الفكرية والجمالية “.

يمكن القول بان عنوان الكتاب “التذوق في التلفزيون والسينما”، قد لا يجعله العنوان المناسب للكتاب، الذي يتناول في متنه ويبحث في  53 من المصطلحات والمواضيع، بالرجوع إلى 129 مصدرا، مما  يجعل الشرح المُسهب  والتَفسير من الكتاب بمنزلة  قاموس  أو معجم، ليس فقط للسينما ، أنما أيضا ، وبحدود كثيرة أو قليلة،  للتلفزيون وللفن والأدب.

غير أن المسألة التي تواجه النقاد ومنظري السينما تبقى دائما في كيف يمكن جعل السينما   – حسب يوري لوتمان – وهي قد بلغت هذه الدرجة العالية من التعقيد السيميائي الدلالي، في متناول جمهور شديد التفاوت في مستواه الثقافي؟

يتوجه الصحن إلى القارئ والمشاهد والمتلقي والناقد والمثقف السينمائي وصانع الفيلم السينمائي والتلفزيوني وكاتب السيناريو والمصور،  يتوجه إلى كل هؤلاء وغيرهم، يمدهم بالمعرفة ويكشف لهم أسرار حرفهم الفنية، بغض النظر إن كانوا يعرفونها ولم يمارسونها كفاية، أو كانوا يعرفونها ومارسوها كفاية، ويبقى على كل منهم، في الحالتين، أن يعرف أكثر وبشكل أفضل، لأن جدلية الثقافة والمعرفة، جدلية النظرية والممارسة، جدلية التذوق والتلقي، كلها ذات صلة عميقة بخطاطة أو ترسيمة جاكوبسون الكلاسيكية  لأن التواصل اللساني حسب الخطاطة  يستند إلى عناصر أساسية  كالتالي:

                                             سياق

                                          رسالة / بلاغ

مرسل  ــــــــــــــــــــــــــ  (       ) ــــــــــــــــــــــــــ  متلقي/ مستقبل

                                            وسيط

                                             قناة

                                        كود / شفرة

وهو ما ينبغي تعريف هذه العناصر في فهم الفيلم ومكوناتها.

1.   من هو المرسل، المرسل هو الأس في عملية التواصل. ما هي خصوصيته الأسلوبية ودوره الإبداعي في المشهد السينمائي.

2.   ما هي طبيعة سياق الرسالة، التي تتشكل مرجعيتها من علامات، مع خصائص استعمالاتها وابتكاراتها في الصياغة السينمائية يتعلق النقل بالقناة

3.   ما هي القناة – الوسيط الفيلمي، وكيف يعبر المرسل عن موقفه الفكري والفني، بوساطتها، في صنع أفلامه.

4.   الشفرة يتعلق البث بالشفرة وقدرة المتلقي في في فك الشفرة

5.   من هو المتلقي، وما هو مستوى ثقافته ومعارفه ومدى خبرته المكتسبة، التي تتيح له فهم الفيلم.

6.  

تتألف كل رسالة – حسب رومان جاكوبسون – من علامات، لهذا يتعامل علم العلامات مع خصائص استخدامها في الرسائل، كما يتعامل مع خصوصيات الأنظمة الاشارية المتعددة والرسائل المتنوعة التي تستعمل أنواعا مختلفة من العلامات. ويرى ذلك رولان بارت: ” ان موضوع دراسة السيميائية في كل منظومة من الإشارات، مهما كان مضمونها وحدودها: تتشكل من صور وإيماءات وأصوات ملحقة، مهما كانت أغراض ومركبات هذه المضامين التي نجدها في طقوس أو في بروتوكولات أو في مشاهد تمثيلية، فإنما تشكل منظومات ذات مدلول، إن لم نقل انها تشكل “خطابات”.

ويرى المؤلف إن مسألة التفسير، مسألة سيميائية ونظرية فكرية عامة، تتخطى حدود الصورة، لترتبط دلالتها إن صح القول، دوماً، بالتفسير (… ) والتفسير مهمة الوعي والمعرفة والخبرة، التي يفترض ان تحقق المعنى المقصود وان تجنبنا الفهم المتداخل واللبس المشوّه وان لا تبعدنا عن الهدف والقصد. وقد نحصل، في مهمة التلقي، على فهم متداخل أو معنىً، يحتمل التشابه، بغياب الفروقات، التي قد تلامس الشكل أو المضمون: وهي المنطقة التي يتبارى بها المنظرون.

ويعود المؤلف لتحليل سيميائي موجز لأفلام مختلفة،، تدل على أشكال من العلامات الظاهرة وعلى أوضاع وحركات دراميتها المميزة، بل حتى على عناصر خيالية، يمكن الإشارة إليها، من خلال قدرة وفعالية الصورة، التي هي الحامل للمكونات، والمعززة بإطار معين، والمثيرة للدهشة والقبول أو الامتعاض، بحيث يرى المؤلف إننا نقف أمامها، أحياناً، بمستوي مختلف  من الإبهام أو الإيحاء، الإحالة أو الاقتران والمقاربة أو أية مشتركات أو كودات/ شفرات تساعد أو  قد لا  تساعد على فهمها.

ولنأخذ مثالا واحداً هو:

فيلم: نوسفيراتو 1978 – Nosferatuإخراج: فيرنر هيرتزوج

” تهيمن في فيلم ط نوسفيراتو ” ملامح كثيرة طاغية من المدرسة التعبيرية، التي يغلب عليها الإيحاء والإحالة: مشاهد أحلام، وتخيلات، وظلال، وغموض، وتشتت، وكوابيس وأشباح، ماكياج كثيف للوجوه، أقنعة ورموز بشرية، استخدام لأسلوب خاصاً في توظيف اللون، حيث لوّن السماء باللون الأخضر، والخفاش الطائر باللون الأصفر، أما رمال الشاطئ فبلوّن الأبيض، لقطات وحركات تبعث على الغرابة والتفرد، وهذا هو منحى وأسلوب المخرج السيميائي، الذي يعتمد الشكل واللون والحركة والتكوينات اللا مألوفة”.

تصنف “الأدبيات السينما” المختلفة عموما مجموعات ثلاثة متفاوتة جداً:

1.   مجلات وكتب للسواد الأعظم، وهي منذورة غالباً لممثلي ونجوم السينما

2.   كتابات لهواة السينما، وهي منذورة للمخرجين وللأنواع الفيلمية،

3.   كتابات جمالية ونظرية أقل انتشاراً، مخصصة لفئات نخبوية غير محددة. يمكن أيضاً أن يدخل فيها بعض هواة السينما من الذين يشكلون الجمهور الأعظم المستهلك للثقافة السينمائية، ويتحرك كتاب التذوق داخل المجموعتين الثانية والثالثة وينتقل من واحدة إلى أخرى باستمرار،  ويشكل حلقة السياق بينهما.وقلما يستثني عنصراً واحداً من عناصر الفيلم التعبيرية، بل يُبين بشكل مفصل طرق استخداماتها المُبتكَرة.

ما هي السينما؟ وما هي وسائل السينما؟ وما القربى التي تربط السينما بالفنون الأخرى؟ وبماذا تختلف السينما عن بقية الفنون؟ وكيف يمكن تؤدي معرفة عناصر بنية الفيلم المتعددة كالشكل والمضمون والحدث والشخصية والموقف لكي تخلق جمهورا يقرا ويقوّم ما يشاهد حينما يذهب إلى السينما. فالسؤال لا يقتصر على ما الفن بل يشمل أيضا متى وكيف يصبح فناً؟

كل ذلك هو ما يطمح المؤلف لدراسته. من هنا نراه يراهن، بالدرجة الأولى، على تناول موضوعات وعناصر ومصطلحات السينما بأسلوب تحليلي تعليمي، يسعى للوصول إلى الهاوي العليم بالسينما، كما يسميه النقد.

تبقى المعادلة عسيرة: كيف يمكن جدليا ان نميز بين القارئ المثقف سينمائيا ومشاهد السينما وعلى أي أساس يمكن أن يتحول القارئ لمشاهد أو المشاهد لقارئ.

وكما تختلف طبيعة القارئ تختلف طبيعة المشاهد. فهناك قارئ نموذجي وقارئ ملم بفنون اللغة وقارئ مفترض ينتج له كتاب، يوجه إدراكه ويناسب أفق توقعاته وهو في السينما المشاهد نفسه الذي لا يزال يشكل معظم المشاهدين.

إذن، سيذهب المؤلف، هنا أو هناك، إلى الكشف والتعريف بالعناصر المنفردة في أجناس وأنواع فنية وأدبية، تشكل، خاصة في السينما، بنية أركان المخطط الجاكوبسوني، ربما لأنه يعتقد كما  أعتقد جورج لوكاش بأن إدراك التأريخ والأدب وعلم النفس والعلوم العامة.. ما هي إلا خطوة أولى في عملية صنع الأفلام.

من هنا يمكن ويجب أن يلعب النقد دوره في إقامة علاقة صحية مع المشاهدين، ليساعدهم على تذوق العمل الفني وتدريب حاستهم النقدية.  رغم إن البعض يعتقد – حسب ألان كاسبيار – أن دراسة خواص الفيلم المرئية، لا تهم، بالدرجة الأولى، سوى صناع الأفلام، لكنها في الواقع خواص يُمكن، أيضاً، أن يدركها رواد السينما، كلما تسنى لهم معرفة خواص الفيلم، تيسّر لهم فهمه وحصلوا، باستمرار، على متعهم الجمالية أثناء المشاهدة.

ومن المفيد أن نذكر هنا كتاب “الذهاب إلى السينما” لأستاذ السيناريو اللامع سيد فيلد، الذي دوّن فيه مذكراته، حينما بدأ يفكر طوال السنوات الخمس والثلاثين الماضية، من حياة، قضاها في السينما، ويذكر من وجّهوه وتركوا أثراً في نفسه وفي الأفلام التي شاهدها ودرسها و“كيف أصبحت السينما ليست فقط جزءاً مكملاً لثقافتنا أو جزءاً من تراثنا، إنما باتت تشكل أسلوب حياة، يَسمُ العالم كله“. وهدفه من سيرته أن تساعد المشاهد: “تضيء له الطريق وتكّون لديه تجربة سينمائية غنية، ممتعة وعميقة“.

لا شك إن إنجاز كتاب كهذا، تطلب من مؤلفه سنوات من البحث والقراءة والترتيب، مدققا في مصطلحات ومواضيع كثيرة،  تُوظف بجدارة ومعرفة، ومنطلقا من ثقافة فنية سينمائية  واسعة ومن معارف جهابذة  كثيرين من  نقاد ومنظري السينما وعلم الجمال وتاريخ السينما وعلم سيكولوجية السينما وخبراء كتابة نصوصها وموسوعات مصطلحاتها وباحثي سيميائيتها. جاعلا من حضوره وحضورهم النقدي النظري أساساً لمتن كتابه، الذي تجعل منه كتابا من بين تلك الكتب المرجعية Compendium  وأصل الكلمة من اللاتينية “compenso” وتعني “الوزن معا أو التوازن”. أي ” التضامن “المتوازن لمجموعة من المعارف، في حقل اختصاص معين. ويمكن أن تعتمد كمرجع للدراسة والتدريس في كليات ومعاهد اختصاص مختلفة.

في حالة كتابنا لا يمكن أن نقول إنه تجميع متوازن لمجموع معارف سينمائية بقدر ما هو عملية تنصيص متوازنة، فمع ان الكتابة تأليفا ليست إلا تداخلا نصيا، لكننا نجد كل نصية في كتاب “التذوق” تداخلا نصيا، تتيح الفرصة لمؤلفه لاختيار نصوص مهمة من كل المصادر ذات العلاقة، أكانت خاصة بالمصطلح وتعريفه أو بموضوع المصطلح وتفسيره، بحيث تتحول عملية التنصيص، من نصوص متعددة، تعتمد بدورها على نصوص أخرى.

والهدف أن يجد الكتاب عند القارئ المثقف والمشاهد العليم، فرصة ذهبية تغني عن قراءة كتب عديدة، لا تتوفر في مكتبات البلدان العربية، وهو ما يجعل من الكتاب، حقا، استعاضة عنها ويشكل، في الوقت نفسه، هدفه الثقافي والتعليمي المعرفي، بفضل جهود الدكتور صالح الصحن، الناقد والمثقف السينمائي، المحترف والمخضرم.

على أمل أن يواجه تفاعل القارئ الأنا الكتاب، الذي يريد المؤلف أن يجعل منه ندوة للحوار المنتج والمفيد، بعيدا عن الأحكام المسبقة، بل نراه يَتحاور أثناء ما يعرض، ويُحاوِر أثناء ما يَستَشهد، ويُفسِّر أثناء ما يحفز من أجل معرفة أكثر.

Visited 52 times, 1 visit(s) today