ثنائية التجربة الذاتية في “يوميات شارع جبرائيل”
ريما العمله
جميل أن يستثمر الفلسطيني كل فرصة وكل مناسبة وكل عمل يتاح له أمام الجماهير للحديث أو إبراق رسالة عن قضيتنا الفلسطينية ومعاناتنا ونضال الشعب من أجل نيل حريته.
جميل أن نفكر دائمًا كيف نروج لروايتنا الفلسطينية في ظل تفوق الآلة الإعلامية الاحتلالية في الترويج لروايتها الصهيونية المزورة بأحقيتها في أرض فلسطين عالميًا؛ بل يذهبون إلى تشويه صورة الفلسطيني الإنسان، وتشويه صورة النضال الفلسطيني ودفاعه عن حقوقه المشروعة ويضعونه في زاوية الإرهاب، أما ما يقوم به الاحتلال على أرض فلسطين من إرهاب ممنهج ضد الشعب الفلسطيني فإنه دفاع عن النفس وصون لحقوقهم اللا مشروعة باحتلال أرض ليست أرضهم.
كانت السينما دائما، من أهم المنصات الجماهيرية التي تعرض من خلالها قصص الأمم والشعوب على اختلافها، ولعل ما قام به المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في فيلمه الوثائقي الذي صوره مؤخرًا في باريس وهو فيلم “يوميات شارع جبرائيل”، يأتي في إطار الاستفادة من هذا العمل الفني لترويج روايتنا الفلسطينية، ويتضح ذلك من خلال توثيق تجربته ويومياته في الشارع والحي الذي يسكنه خلال فترة الحجر الصحي في باريس، حيث حوصر مشهراوي هناك عند إغلاق الدول حدودها ووقف رحلات الطيران بينها لمواجهة انتشار فايروس كورونا، ولم يستطع العودة إلى وطنه، ومن هنا رأى أنه أمام تجربة حياتية جديدة، استثنائية تحدث لأول مرة في التاريخ، فأراد أن يوثقها عبر تصوير فيلم سينمائي يعرض هذه التجربة من الحجر والمنع التي يعيشها العالم.
إلا أننا ندرك أن لمشهراوي مشهدية أخرى في مخيلته السينمائية في طريقة تناوله هذا الفيلم، فنجده ذهب إلى استثمار هذا التوثيق للتجربة الذاتية الباريسية في الحجر الصحي لتضمين الفيلم التجربة الذاتية الفلسطينية تحت الاحتلال وفرض حظر التجول، وعمد إلى عقد مقارنة بين التجربتين ظهرت بأوجه عدة خلال السياق الفيلمي، وتنوعت بين الصورة أحيانًا وأحيانًا أخرى كان الحوار الذي جاء على لسان الراوي، وهو مشهراوي نفسه، وجميعها حملت كثيرًا من الدلالات المركبة السياقية والإيحائية وغيرها.
ومن هذه المعالجة الإنسانية للفيلم سنذهب في خوض كلا التجربتين، الباريسية والفلسطينية، اللتين نقلهما المخرج إلى المشاهد من خلال فيلم تم تصويره كاملًا في العاصمة الفرنسية باريس، ونرى إن كان المخرج قد وفق في نقل المعاناة الفلسطينية الحقيقية من خلال فيلم يتحدث عن تجربة العالم مع جائحة كورونا، أم أنه أخفق في إيصال الإحساس بالمعاناة الحقيقية للشعب الفلسطيني من خلال هذا التناول.
يجاهد الفيلم الوثائقي دائمًا في أن يكون موضوعيًا لكي ينقل الحقيقة بطريقة إبداعية، إلا أن المشهراوي أبدع في استخدام الذاتية في فيلمه الوثائقي.
في اللحظات الأولى للفيلم نرى مشاهد عامة لمعالم حي مونمارتر الساحر في العاصمة الفرنسية باريس وشوارعه وساحاته وحدائقه وهي خالية من المارة كمدينة أفرغت من سكانها.
على هذه الخلفية من الصورة الباريسية الجميلة والتي تم إسنادها بموسيقى رومانسية وشاعرية، يبدأ مشهراوي باسترجاع ذاكرته الفلسطينية الزاخرة بهذه المشاهد الحية، معلقًا بصوته الذي يرافقنا طيلة الفيلم “كل الأماكن صارت نفس الإشي.. والخطر موجود في كل مكان.. والانسان صار متساوي في كل العالم .. فجأة.. صار الإنسان متساوي.. قال كلنا البشر بنفس القارب.. يا بننجوا كلنا.. يا بنهلك كلنا.. ما احنا الفلسطينيين إلنا أكثر من سبعين سنة في قارب لحالنا.. وكنا بنغرق لحالنا.. وكلهم كانوا بيتفرجوا علينا.. وإلا.. عشان الفايروس.. كان من نوع تاني؟”.
هنا يبدأ عقد مقارنة بين ما يعيشه العالم اليوم من حجر صحي وما يفرضه من قانون يمنع الحركة والتجول على مختلف الشعوب، وإغلاق الحدود بين الدول بشكل صارم لأول مرة في التاريخ بسبب الجائحة وما تعيشه فلسطين وحدها منذ أكثر من سبعين سنة مضت من سطوة احتلالية وفرض منع التجول المتكرر فيها على السكان، لكن منع التجول في التجربة الفلسطينية الذي سببه فايروس من نوع آخر، ويقصد به الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن بالمطلق بالشكل الباريسي المرفه، إنما بالشكل الذي يفرضه الاستعمار والحرب على الشعب والأرض التي ترزح تحت الاحتلال، وهذا ما أوضحه مشهراوي في تعليقه المصاحب في الفيلم، عندما قال: “بس منع التجول اللي هون.. بالنسبة إلنا كفلسطينيين.. هاد منع تجول خمس نجوم “.
وليجعل مشهراوي المشاهد أكثر قربًا من الصورة التي يتحدث عنها في فلسطين لجأ إلى توظيف مقاطع فيديو من الأرشيف الخاص به من أحد أفلامه الروائية الذي كان قد صوره حول منع التجول في غزة، وعرضها للجمهور من خلال مشهد للمخرج نفسه وهو يشاهد هذه المقاطع المصورة تعرضها شاشة حاسوبه المحمول في بيته.
وبرأيي كفلسطينية عاشت هذه التجربة (منع التجول) مرات عدة كانت المشاهد الفلسطينية التي عرضها مشهراوي أمامنا من خلال أرشيفه باهتة بعض الشيء، ضعيفة في نقل صورة منع التجول الحقيقية التي يعيشها الفلسطيني تحت أزيز الرصاص وهدير الدبابات وتهديد آلة الحرب العسكرية التي تتسبب بإثارة حالة من الخوف والرعب بين الفلسطينيين العزل، فلا يستطيع الفلسطيني خلال المنع الخروج لشرفة بيته أو حتى استراق النظر من نافذة المنزل؛ لأنه سيعرض حياته للاستهداف المباشر، وهذا ما عايشته عند اقتحام الاحتلال مدن الخليل ورام الله ونابلس، وفرض منع التجول عليها، وكأنه حتى منع التنفس عنها.
هذا غيض من فيض مما يعيشه الفلسطيني في منع التجول، وكل هذا لم يأتِ على ذكره أو حتى عرض مشهدا مصورا حول هذا الرعب الاحتلالي الذي غابت ملامحه الصعبة عن فيلم مشهراوي، هذه لم ترتقِ إلى نقل حقيقة المشهد الفلسطيني لمنع التجول والحصار وما يرافق ذلك من ممارسات عنصرية ووحشية بحق المواطنين العزل في غزة، إضافة إلى أنها كانت مقتضبة جدًا أو بالكاد تذكر، حيث لم تتجاوز مدتها الزمنية التي أولاها المخرج للتجربة الفلسطينية من حيث الصورة حول منع التجول (38) ثانية فقط من مدة الفيلم الزمنية التي وصلت إلى (62) دقيقة.
هذا الأمر قد ينعكس سلبًا على الصورة الحقيقية للمعاناة الفلسطينية جراء الاحتلال التي يتلقاها الجمهور، ويعمل على تبسيط عمق معاناة الفلسطيني على أرضه جراء إجراءات الاحتلال القمعية في فلسطين، وينعكس ذلك في حجم المفارقة الحقيقية بين التجربتين وبالتالي تفاعل العالم مع القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني ولو حتى بمعرفة الحقيقة الإجرامية للاحتلال في فلسطين وما يعانيه شعبنا، فالصورة هنا تبقى عنصرًا أساسيًا لتدعيم الحوار، وتشكل العمق الحقيقي لوصول ملامح المعاناة، فالفكرة نبيلة.
ولكن أجد أنه كان بحاجة لتوظيف الأرشيف بشكل أفضل ومنحه مدة زمنية أكبر من الوقت الفيلمي ليصل المشاهد إلى عمق التجربة الفلسطينية الحقيقية من المعاناة والقهر والجرائم التي يتسبب بها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أرضًا وشعبًا خاصة خلال فترات حظر التجول.
بعد ذلك نجد مشهراوي يذهب إلى عرض جزء من تجربته في باريس وحياته هناك، وتحديدًا في الحي والشارع الذي يسكنه، وهو شارع جبريئيل الذي حمل الفيلم اسمه، حيث عمد إلى تعريف المشاهد بالبناية التي يعيش فيها، وحتى دكان جاره المغربي مصطفى الذي أضحى رمزًا للزمان في الفيلم من خلال فتح الدكان وإغلاقه في أوقات محددة من النهار والليل، كما عرّفنا على جيرانه وأصدقائه هناك وتجربتهم خلال الحجر العالمي، ومن أجل ذلك ذهب إلى تسجيل العديد من المقابلات الشخصية معهم في مواقف مختلفة في الفيلم، وشاهدناه يسجل مقابلات أخرى مع المارة الذين اعتادوا أن يمروا به، متقصدًا ذلك، بل إننا نجده كرر المقابلات معهم، وتجب الإشارة هنا إلى أن جيرانه وأصدقاءه جاؤوا من ثقافات وبلدان مختلفة أيضًا، منهم من هو من المغرب، ومنهم من هو من إسبانيا، وآخرون من اليونان وجورجيا، وكلهم ينتظرون عودة الحياة إلى مسارها الطبيعي ليعودوا أدراجهم إلى بلدانهم وأوطانهم، هذا التكرار من المقابلات ما ميزه أنه كان عفويًا، طبيعيًا، دون التحضير المسبق للمقابلة، يجدهم أمامه في طريقه وهو ذاهب للتسوق أو التنزه حول بيته وفي الشارع نفسه، أو خلال زياراتهم المتبادلة أحيانًا،
وكأن لم يكن هناك كاميرا للتصوير أمامهم، هذا النوع من المقابلات والحوار العفوي العادي غير المتصنع أضفى جوًا من الدفء والألفة مع المشاهد، كذلك كان يخبرنا عن تجربتهم هناك في ظل الحجر بطريقة غير مباشرة، وهذه الإجادة تحسب لمشهراوي الذي عمق اندماج المشاهد مع أحداث التجربة التي ينقلها سواء الباريسية أو حتى الفلسطينية التي اعتمد فيها على كاميرا هاتفه المحمول لتصوير فيلمه كاملًا في مغامرة جريئة منه، وقد استطاع ذلك بالفعل، فمعظم تصويره تنوع ما بين اللقطات المتوسطة والكاملة والبعيدة لإظهار المكان وزمن التصوير لأهمية الإحساس بالأمكنة وهي خالية، وأيضًا لإظهار المكان الذي تحدث فيه أحداث الفيلم، وكيف انعكس ذلك على المتلقي من معايشة شبه حقيقية في المكان.
ومن أجل ذلك وظّف حركة الكاميرا لتكون إلى الأمام من خلال اللقطة الذاتية في تنقله من مكان إلى آخر في معظم الفيلم، فحركة الكاميرا كانت حركة إنسانية ما جعلها أكثر قربًا للمشاهد وذات تأثير عاطفي حيث نتنقل مع المخرج خلال جولاته في الحي، الأمر الذي يعمق شعور المشاهد أنه هو الذي يتحرك بالكادر، وهو الذي يجول بين هذه الأحياء والشوارع الباريسية السياحية الجميلة، فكأنما حلت عين المشاهد محل رؤية المشهراوي، وأصبح يرى ما يراه المشهراوي، ويشعر حتى بإحساسه بما ينقل لنا معمقًا هذا الشعور العاطفي بالحوار، فالفيلم اتجه إلى مشاركة الجمهور تجربة المشهراوي عاطفيًا، وابتعد عن سرد المعلومات الذي يميل إليه في العادة الفيلم الوثائقي، فالكاميرا المتحركة واللقطة المتنقلة أو المصاحبة تجسد وجهة نظر حاملها وهي تدخل في إطار النظرة الذاتية للأحداث، كما أن المخرج كان ذكيًا بانتقاء ما يخدمه من اللقطات التي تسهم في دفع الأحداث بكل سلاسة وانسجام.
يروي المخرج يومياته لنا تارة من باريس، وتارة أخرى من ذاكرته الفلسطينية المتخمة بمعاناة الفلسطيني، في رصد بعض عناصر التشابه الشكلي بين التجربتين والاختلاف الجوهري بينهما، ومن الأمور التي كانت مما تتشابه به التجربتان هنا وعمل مشهراوي على إبرازها هو ضرورة حصول المواطن الباريسي على تصريح من الدولة يسمح له بالتحرك خلال أيام الحجر والسبب الداعي للخروج من المنزل، هذا الإجراء تحديدًا يعيده المخرج مباشرة إلى مربع التجربة الفلسطينية من جديد الزاخرة بهذا المصطلح وهذا الإجراء في الحياة اليومية على مدار عقود، وذلك من خلال العودة إلى أرشيفه الخاص مرة أخرى، حيث المشاهد الأرشيفية من فيلم وثائقي لمشهراوي بعنوان” توتر” تظهر أبناء غزة وهم يتجرعون مرارة العيش في ظل تنكيل الاحتلال على البوابات الالكترونية والحواجز المنتشرة في أرجاء الوطن التي تتطلب حصول الفلسطينيين على تصاريح تسمح لهم باجتيازها، حيث نجد طوابير من المركبات والمواطنين ينتظرون ساعات كثيرة على الحواجز التي تقطع أوصال الوطن الفلسطيني حتى يسمح لهم بالعبور.
ومن هذه المقاربة إلى مقاربة أخرى خلال السياق الفيلمي تمثلت في المعاني التي أرادها أن تصل إلى الجمهور من خلال أسلوب التكرار الذي كان طاغيًا على الفيلم، فرصدنا تكرارًا لمشاهد مختلفة، منها مشهد باب دكان مصطفى يفتح ويغلق، ومشهد جاره الفرنسي الذي يخرج لينزه كلبه ولقائه المتكرر معه، ومشهد مدام بوليت وهي تخرج من بيتها لدكان مصطفى ثم تعود، لقائه بأصدقائه الذي تكرر أكثر من مرة وبشكل الصدفة، خروج المخرج في جولات صباحية في الحي نفسه وشارع جبريئيل، مشاهدة الفصول تمر أمامك، كل هذا التكرار جعلنا نشعر بالوقت الطويل الذي بقي فيه الإنسان تحت قيود الحجر الصحي، ورتابة الوقت في ظل هذا النظام العالمي الجديد، كما يدلل على حالة الانتظار التي يعيشها الجميع لانتهاء الجائحة وعودة الحياة إلى مسارها الصحيح. هذه الحالة من الانتظار تعيد مشهراوي مرة أخرى إلى الحالة الفلسطينية من الانتظار الطويل والطويل جدًا حيث نجده يعرض أمامنا مقطعًا أرشيفيًا آخر من أفلامه تجسد حالة الانتظار التي يعيشها الفلسطيني تحت الحصار والاحتلال الإسرائيلي الذي امتد لعقود طويلة ولا يزال الشعب في حالة انتظار لانتهاء هذا الاحتلال، وإنهاء معاناته واسترداد حقوقه، ليربط مشهراوي حالة الانتظار بحياة الشعب الفلسطيني كمتلازمتين لا انفكاك بينهما، فيقول: “وكأنه الانتظار نفسه .. صار فلسطيني”.
ويذهب بنا مشهراوي لتعميق إحساسنا أيضًا بكل ما عاشه المواطن الباريسي في الحجر الصحي من خلال تشديد القيود على الحركة في باريس، ونشر الشرطة في مختلف الأحياء الذين يراقبون التزام المواطنين بالإجراءات المفروضة والعلاقة الودية والاحترام المتبادل بين المواطن والشرطي، ثم نجد أننا أمام مشهد جميل من التقدير للطواقم الطبية حيث يقف الباريسيون هناك يوميًا الساعة الثامنة مساء على شرفة منازلهم يبعثون رسالتهم التقديرية للكوادر الصحية التي تواصل عملها الإنساني في ظل هذا الخطر العالمي من أجل إنقاذ حياة الناس.
وقد عمد مشهراوي في بنائه الفيلمي، ومن أجل الوصول إلى عمق الإحساس للمتلقي، إلى توظيف الكثير من المؤثرات الصوتية سواء أكانت بشرية أم طبيعية على الفيلم، وكان موفقًا في اختياره الموسيقى التصويرية كوسيلة تعبيرية وتجريدية تتعامل مع المشاعر والأحاسيس فكانت موسيقى دافئة ورومانسية
أحيانًا وأحيانًا أخرى تشعرنا بالحنين، ونلاحظ تعمد المخرج دمج موسيقاه التصويرية التي أسقطها على العديد من المَشاهد مع المؤثرات الصوتية الأخرى لإضفاء بعد أعمق لدلالاتها، حيث نجده كثف توظيفها خلال تصوير المشاهد الخارجية من الشارع أو الأحياء الباريسية الجميلة، ما أضاف جوًا من الشاعرية والجمال عليها، وخلق لدينا مزاجًا من الارتياح خلال المتابعة. ومما ساعد في ذلك أيضًا هدوء المَشاهد وسلاستها مع صوت الراوي الرخم والدافئ منذ بداية الفيلم وحتى نهايته، وهو صوت المخرج نفسه رشيد مشهراوي، فهو بطل التجربتين، هو البطل المزدوج، وربما كان استخدامه أحيانًا صورة ظله أو خياله منذ بداية الفيلم وهو يتنقل من مكان إلى آخر تعبيرًا عن شخصيته الرئيسة للفيلم التي تحمل تجربتين، فشخصية مشهراوي الحقيقية هي شخصيته الموجودة في باريس، حيث ينقل من خلالها التجربة الباريسية، أما ظله أو خياله فهو انعكاس تجربته الباريسية على تجربته الفلسطينية التي دخلت حلبة المقارنة، ومن هذه البراعة في التوظيف للدلالة الإيحائية المركبة التي أراد من خلالها التأكيد على البطولة المزدوجة له ما بين باريس وفلسطين من خلال هذه الزاوية الذاتية للتصوير استطاع أن يأخذنا إلى عمق التجربة التي يعيشها وينقلها لنا.
لا يزال مشهراوي يوازن بين التجربتين ليصل إلى الدلالة التي تحملها الكمامة التي بدأ العالم بارتدائها لمنع انتشار الفايروس بينهم، وذهب بها ليستعيد ذاكرته الفلسطينية التي لطالما كانت الكمامة جزءًا أساسيًا من حياة الفلسطيني؛ بل هويته، حيث يشير إلى الحطة الفلسطينية التي تعبر عن هويتنا الفلسطينية أينما نكون، وهنا يعود مشهراوي إلى جهاز الحاسوب الخاص به ليضع أمامنا صورًا فوتوغرافية للفلسطينيين خلال الأحداث والمواجهات مع جيش الاحتلال وهم يرتدون الحطة الفلسطينية، حيث يستخدمها الفلسطينيون لحمايتهم من فايروس الغاز السام الذي يطلقه جنود الاحتلال صوبهم، وليخفي فيها الفلسطيني معالم وجهه حتى لا يعرفه الاحتلال ويلاحقه بالاعتقال، وهو مشهد من مشاهد التجربة الفلسطينية اليومية التي تحمل في طياتها كثيرًا من معاني المقاومة والصمود في وجه الاحتلال.
وفي الجزء الأخير من الفيلم نقل لنا مشهراوي بدء عودة متواضعة للحياة في ظل تخفيف إجراءات الحجر وعودة حركة الناس في المدن والشوارع، ومع هذه العودة بعد إغلاق تام دام شهرين كاملين يبدأ أصدقاؤه بالتحضير للعودة إلى أوطانهم من خلال دولهم التي تهتم بتأمين عودة رعاياها لبلدانهم سالمين عن طريق التنسيق بين الدول،.
هكذا يخبرنا مشهراوي الذي ظهر بكادر الصورة وهو جالس إلى طاولة صغيرة في ساحة بيته في باريس، وينهي حواره إلينا بحقيقة: “الوطن بيلزم أحيانا” كناية عن حرمانه وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه ومن وطنه الذي يرزح منذ أكثر من سبعين سنة تحت أبشع احتلال عرفه العالم، هو مشهد نشعر من خلاله ومن خلال صوت الراوي الحزين بالمرارة التي يعيشها الفلسطيني المحاصر أينما يذهب، ولا يعيش الحرية التي يحظى بها الآخرون من سكان العالم.
وهذا ما برع مشهراوي في التعبير عنه في المشهدين الختاميين للفيلم من خلال استعارته مشهدًا تمثيليًا لشخص يُطلب منه أن يؤدي دور التعبير عن حالة الانتظار، وهذا المشهد هو حقيقة النهاية الخاصة بالتجربة الذاتية الفلسطينية التي عرضها المخرج بالفيلم، حيث تبقى التجربة الفلسطينية على حالها من الانتظار لإنهاء المعاناة والاحتلال الذي لا يزال قائمًا، فيما يكون المشهد الأخير للفيلم، وهو مشهد النهاية للتجربة الذاتية الباريسية الذي تجسد بمشهد فتح باب دكان مصطفى المغربي، حاملًا معه دلالة الوصول إلى انتهاء حالة الانتظار الباريسية وانتهاء معاناتهم جراء الحجر الصحي والإغلاق، وزوال خطر فايروس كورونا، وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي من الحرية والعيش بسلام.
نهاية فيها كثير من البراعة في التعبير عن كلا التجربتين، وكما هي النهاية كان الفيلم بشكل عام، في الانتقال بحرفية من تجربة الى أخرى والدمج بينها بسلاسة وعمق، وعلى الرغم من إخفاق المخرج في جزئية واحدة تمثلت في عدم إظهار حجم الخوف والظلم الذي يعيشه الفلسطيني خلال أيام حظر التجول وعمق المعاناة الحقيقة التي يتسبب بها الاحتلال بما عرضه من مقطع أرشيفي قصير عن ذلك، ما قد ينعكس على مفهوم المعاناة بشكل عام التي يعيشها الشعب الفلسطيني بالنسبة للجمهور المتلقي للرسالة، إلا أنه- إنصافا للمخرج- استخدم المعادلة الأساسية في السينما التي تقوم على مبدأ الإيحاء حيث استخدم قوة السينما الناعمة في الاعتماد على الإيحاء في إيصال جوانب كثيرة من الشعور الفلسطيني الذي يعيش المعاناة والقهر بأوجه متعددة مدعمًا ذلك بالحوار. وهنا نجد أن ذاتية المخرج في الفيلم تجسدت بطريقتين، فالمخرج يخبرنا عن حياته وتجربته الشخصية ومشاعره مع محيطه المكاني والزماني والاجتماعي سواء في غزة أو باريس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما وظفه من تقنيات اللغة السينمائية في الفيلم من زاوية ورؤية ذاتية بحتة، خاصة أنه من صوّر فيلمه كاملًا من خلال كاميرا هاتفه المحمول، فحركة الكاميرا كانت تخضع له فقط، كما أنه هو من قام بمونتاج الفيلم الذي أخرجه، وهو من كان صاحب الحوار والرؤية الكاملة.
ويمكن القول إن المخرج رشيد مشهراوي ذهب لمعالجة خلاقة في فيلمه من خلال استغلال تجربة عالمية وإسقاطها على تجربة فلسطينية لا يعرف عنها العالم إلا النزر اليسير وإن كان لم يتعمق في التجربة الفلسطينية لكنه ذهب لبث العديد من الرسائل المهمة للعالم عن معاناة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 74 سنة، وما زال ينتظر العدالة والحرية من العالم أجمع الذي اجتمع على احتلاله وظلمه في مؤامرة دولية استعمارية.
فالمخرج رشيد مشهراوي مخرج فلسطيني استطاع أن ينجز العديد من الأعمال السينمائية الفلسطينية، التي توثق وتعكس حياة الشعب الفلسطيني ومعاناته، حيث قدم خلال مسيرته الإخراجية أكثر من 15 فيلمًا تنوعت ما بين الأفلام الطويلة والوثائقية والقصيرة، وقد حصد جوائز عديدة من كبرى المهرجانات، من بينها مهرجان القاهرة السينمائي الذي منح فيلمه الروائي الثالث “تذكرة إلى القدس” جائزة الهرم الفضي عام2002.