ثلاثية كوكر لعباس كيارستمي: المشاهدة كمعاودة السير بنفس طازج

من فيلم "عبر أشجار الزيتون" من فيلم "عبر أشجار الزيتون"

توطئة ضرورية: الفيلم الإيراني وأزمة التلقي

في الكثير من محاضراته وكتاباته حول السينما الإيرانية، لا يتردّد الباحث السينمائي الأمريكي من أصل إيراني الدكتور حميد نفيسي في الإشارة إلى هذه الحتمية او القدرية المرتبطة بالسينما الإيرانية، وهي مصادفة مشاهدة عناوينها الجديدة، او الاحتفاء بعناوينها القديمة، بأزمة تدخل في إطار الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية. إيران كعنصر مهدّد للأمن الغربي، إيران كصورة للهمجية الإسلامية، إيران التي تنعدم فيها حرية التعبير وتهدر حقوق المرأة، إيران المجال النموذجي للحكم الثيوقراطي، إيران الرقابة، كل هذه العناصر تدخل في تشكيل صورة دهنية عن إيران تفرض نفسها، بحكم إستراتيجية التسليع الإعلامي المبرمج، كمشهد مصاحب وموازي يقبع في خلفية المشهد السينمائي للفيلم الإيراني بغض النظر عن تصادف مادة مضمونه معها أم لا، ويحدّد بشكل او بآخر طريقة تلقي هذا المشهد الفيلمي، إن لم يفرض كذلك خطة لتقييمه.

في ظل هذا الوضع، والذي ينسحب بدرجة كبيرة على كل منتوج ثقافي ينتمي في هويته أو مضمونه لإقليم الشرق الأوسط أو العالم الإسلامي، يُحتفى بالفيلم الإيراني كخطاب داخل النّسق الإبداعي لجماليات الضحية Victim aesthetics. في هامش هذا الخطاب يتحوّل الفيلم الإيراني إلى موضوع تدجين وتطبيع غربي ليصير نموذجا آخرا لخطاب محدّد الأبعاد والمرامي عن الحرية والانعتاق وتحدي الحدود المضروبة على الفن والإبداع، وتُسقط عليه مشاهدة، بما فيها الواعية والمشفّرة، يصادِر فيها السّياسي ما هو جمالي، إن لم يقيّم هذا الجانب التالي كمجرّد تورية أو انحياز مجازي للجانب الأوّل. كما تتجانس في هذا الهامش كل التجارب التأليفية الإخراجية بشكل مشوه يظهر فيه جعفر بناهي بملامح تجمع بين عباس كيارستمي وأصغر فرهادي، ويصبح فيه بهمن قبادي كمجرد معادل لمحسن مخملباف.  

هذا الواقع الإشكالي لتلقي الفيلم الإيراني يفرض نفسه بشكل متأزم أكثر في حالة مخرج مؤلف من عيار عباس كيارستمي يستعصي ما هو ملازم immanent في سينماه على التحلل فيما هو سياقي contextual فيها، خصوصا في ظرفية تاريخية يتسم فيها الصراع السياسي الأمريكي الإيراني بأعلى درجات التصعيد والاحتقان. فحين شكّلت سنة 2019 التي ودّعناها لتوّنا، في التقويم الزمني السينمائي، سنة عباس كيارستمي بامتياز، حيث خرجت ثلاثية كوكر في إصدار جديد، حيّن الحوار حول المخرج، وأكد على راهنية تجربته التأليفية، فإن سنة 2020 هي سنة الأزمة السياسية بامتياز، حين استقبلناها في شهرها الأول، بحدث اغتيال الفريق قاسم سليماني والرد الإيراني بالقصف الصاروخي لقواعد أمريكية في العراق.

من موقعي الخاص أثناء كتابة هذه السطور، في مدينة هيوستن بولاية تكساس، تصادف زمنية هذه الأزمة السياسية الأمريكية الإيرانية في أعلى درجات احتقانها الموعد السينمائي لمهرجان الفيلم الإيراني، الذي دأبت الأمينة الفنية والناقدة السينمائية ماريان لونتز  Marian Luntzإدراجه في شهر يناير، مضيفة هذه السنة عروضا خاصة بثلاثية كوكر عبر ثلاث متاحف عريقة كمتحف حاضرة هيوستن للفنون الجميلة  MFAHومتحف مانيل   Menil وقاعة العرض في مقر الجمعية الأسيوية في المدينة. التركيز هذه السنة على ثلاثية كوكر نابع حسب الأمينة الفنية على “.. ضرورة إبراز عباس كيارستمي كمؤلف سينمائي خلّف أثرا مهما في السينما العالمية..” كما ظهر هذا التعليق في مقال نشرته يومية هيوستن كرونيكل بعنوان موحي جدا في سياق ازمة تلقي الفيلم الإيراني هو “عودة مهرجان الفيلم الإيراني مع احتدام الأزمة”!

الإصدار الجديد لثلاثية كوكر في الشهور الأخيرة من السنة الماضية يمنح فرصة لتحقيق مشاهدة جديدة لعباس كيارستمي، وعبره السينما الإيرانية، تتحدى العائق الأول بين هذه السينما والمشاهد في شرق الأرض ومغربها، والذي يكمن في حتمية التّشريط السياسي التي أشار إليها حميد نفيسي. لأن هذه الأفلام الثلاث التي تتضمنها، تمتنع أكثر من أي متن آخر للمخرج الإيراني على أي تصنيف أو “تصفيف” أيديولوجي، يدخل عباس كيارستمي في علاقة سلب وإيجاب محدودة الأطراف وبيّنة المعالم مع محيطه الثقافي والسياسي الخاص. 

الطفل في ثلاثية كوكر

كوكر: مكان ومكانة في سينما عباس كيارستمي

قد يصعب العثور في الخريطة على هذه القرية الصغيرة المسماة كوكر، الواقعة في إقليم أستان كيلان بالشمال الإيراني على ساحل بحر قزوين، وهي المنطقة التي تنحدر منها أسرة المخرج عباس كيارستمي. لكن في الجغرافية الفرضية للسينما اصبحت هذه القرية معلمة حضارية، تجاوز فيها المكان الجغرافي حدود مرجعيته الواقعية، وأبعاد وظيفته السردية كخلفية مسرحية لأحداث فيلمية، ليصبح مرتبطا بتمثّل للتعبيرية السينمائية، يحمل في كنهه تصوّرا أنطولوجيا خاصا، ويبصم بشكله تنويعة جمالية متفرّدة تبرزه في هذا النّسق الإبداعي، المكلّف والمتطلّب جدا، الذي يُعرّف بسينما المؤلّف.  تشكّل قرية كوكر بالنسبة لسينما عباس كيارستمي، ما شكّلته مدينة روما بالنسبة لأنطونيوني، أو هامش لشبونة الفقير، منطقة فونطانيهاس، بالنسبة للمخرج البرتغالي بيدرو كوستا، أو بشكل أقرب، ما تشكّله قرية أبو الجعد في المغرب بالنسبة للمخرج حكيم بلعباس.

يصعب العثور على هذه القرية لأنها فقط لم تعد توجد. والسّبب الفعلي لغيابها من الواقع هو نفسه سبب حضورها في السينما. فالزلزال الذي ضرب المنطقة في 1990، ومسح القرية بكاملها، كان الدافع الرئيسي وراء عودة المخرج الإيراني عباس كيارستمي للمنطقة لتقصي أخبار الأطفال الذين شاركوا معه في الفيلم الأول، لينتج عن هذه الرحلة فكرة تصوير فيلم آخر، تفتقت من إحدى مشاهده فكرة فيلم ثالث كذلك، لتجتمع هذه الأعمال الرئيسية الثلاث التي بصمت فيلموغرافيته، وهي أفلام “أين منزل الصديق؟” (1987)، و”لا شيء غير الحياة” (1992)، و”عبر أشجار الزيتون” (1994). هذا المتن سيحمل ختم ميزة الكلاسيكي حين أجمع الكثير من النقاد على تصنيفه باسم “ثلاثية كوكر”، الاسم الذي عوّض بسرعة اسما آخرا اقتر ن بالأفلام الثلاث، ويحمل طابعا طوبوغرافيا كذلك هو “ثلاثية رستم آباد”.

أين منزل صديقي

تحت إلحاح محمد بهشتي، المثقف الشاب الذي تعيّن إدارة مؤسسة الفارابي للسينما، وشغر بعد الثورة الإسلامية منصبا مهما في وزارة الثقافة والارشاد الاسلامي، وكان له الفضل الأول في إحياء السينما الإيرانية في فترة موتها المرتقب، يقرّر عباس كيارستمي تصوير سيناريو فيلم “أين منزل الصديق؟”، الذي كتبه أصلا ليخرجه صديقه الشاعر فرهاد شيباني.

عامل الشعر والنظرة الشاعرية يسم سينما عباس كيارستمي، ويأخذ طابعه الخاص مع كل فيلم داخل فيلموغرافية غنية راكمت ما يقارب خمسين فيلما.  في النية الأصلية لمشروع “أين منزل الصديق؟” تحضر هذه الحوارية الشعرية، بحكم هويّة كاتب السيناريو، والمخرج المفترض، وكذلك عنوان الفيلم المقتبس من قصيدة للشاعر سهراب سبهري.

عتبة العنوان والإهداء في هذا الفيلم ترتبط بهذا الشاعر، الأخ الأكبر، الذي جدّد في الشعر الإيراني المعاصر، وصقل حساسية تعبيرية وجمالية فريدة من نوعها، تصهر إرث عمر الخيام والشيرازي مع حداثة نيما يوشيج، لتتجاوز الشعر في أبعادها وصيغها التعبيرية والجمالية إلى حقل الفن السينمائي. تساقبت هذه الرؤية الشاعرية للسينما مع وصفات الواقعية الجديدة الإيطالية التي نالت مباركة النظام الجديد بفضل بقرة المخرج داريوش مهرجويي، “البقرة” (1969)، وهو النظام الذي كانت يتساهل جهازه الرقابي جدا مع أفلام الروسي أندري تاركوفسكي أكثر من أي مخرج آخر.

بناء على هذه الأرضية التي تمتح منها موجة “سينماي متفاوت”، السينما البديلة أو المختلفة، التي ركبها الجيل الثاني لما أصبح يعرف، وبكثير من الإسقاطات وسوء الفهم التعميمي، باسم السينما الإيرانية الجديدة، كان اختيار كيارستمي لقرية كوكر، من ضمن ما يزيد عن مائتي قرية في الشمال الإيراني، نابعا عن المحفّز الواقعي للهجة ساكنتها المحليين. فلكنة الفارسية في إقليم أستان كيلان، والمطعّمة بلغة الكيلكي القائمة بذاتها، لم تعان من التّصغير والتّحقير الذي عانته اللهجات البدوية في حوارات الأفلام الإيرانية التجارية، والتي كانت توظف بغرض إثارة الضحك في جمهور الحواضر الكبرى.

 اختيار عباس كيارستمي لقرية كوكر كمسرح لأحداث فيلمه الجديد، وإدماج اطفالها في أدوار رئيسية في الفيلم، كان يتماشى كذلك مع رؤيته كمخرج يشغر وظيفة مدير القسم السينمائي بمركز كانون، الذي أسسته فرح بهلوي زوجة الشاه، والخاص بالتربية الثقافية للأطفال والناشئين.

دخلت كوكر السينما من نفس البوابة التي دخلت منها واقعية دي سيكا وشاعرية باسوليني، لتصبح الأفلام الثلاث المقترنة بها محطات مهمة للتوّقف، وإعادة النظر، في فن أصبح مختزلا في تمثّله داخل نماذج الحكي المنمّط والتّنميطي التي فرضت نفسها إمّا بقوة وقدرة الرأسمال، أو بأولوية الخريطة الأوروبية في جغرافية الفن والإبداع.

 إنّها المحطة التي تزوّدت فيها السينما بعدسات مختلفة لرؤية العالم والإنسان وكذلك إعادة النظر في ذاتها كسينما كذلك. لم تعد السينما بعد ثلاثية كوكر ما سيطر في التّصور والجمالية داخل الفهم المسكوك للسينما. فهذه الثلاثية، ودون مبالغة، إن لم تؤثث لنظرة مختلفة في الفن عامة فقد صقلت، على الأقل، هذه الحساسية التي طبّعت ما هو مختلف في السينما، خصوصا هذا القادم من جنوب خريطتها وينتمي لهامش مركزها. من منظار كوكر عباس كيارستمي تجلّت أكثر معالم جمالية سينمائية جديدة اكتشفها الغرب مع التركي نوري بلغي جيلان، والفلسطيني إليا سليمان، والمغربين فوزي بنسعيدي وحكيم بلعباس، وآخرين.

“من فيلم “أين منزل صديقي”

وحتى إن لم تصنّف الأدبيات السينمائية الموزعة بين ضفتي المحيط الأطلسي عباس كيارستمي كمؤسس لمدرسة سينمائية أو كمؤلف سينمائي أطلق تيارا جديدا، فأثره التجديدي في السينما تسرّب لتقاليد سينمائية راسخة في النظرة ومٌمَأسسة في النظرية، كواقعيات السينما الأوربية الملتزمة، أوالواقعيات الانطباعية و”التّطبيعية” الأمريكية. من الأخوين دردين البلجيكيين إلى الأمريكي مارتن سكورسيزي يحضر شيء من ثلاثية كوكر ومن سينما عباس كيارستمي إما بالتلميح والإحالة، وأحيانا بالتصريح كما في حالة المخرج النمساوي مكاييل هانيكي. من خلال قرية كوكر التي لم تعد توجد في الخريطة، دخل عباس كيارستمي كون الواسع للسينما. دخله ليبقى.  

ثلاثية كوكر كانت هي نقطة البداية لحقبة إنتاجية سينمائية جعلت من سينما التسعينات سينما عباس كيارستمي بامتياز، حيث تبوأ المخرج في الفترة ما تبوأه أنطونيوني في سينما الستينات، وفيم فيندرز في سينما الثمانينات.

بعد ثلاثين سنة عن خروج الفيلم الأول فيها، تعاود ثلاثية كوكر الصدور، وقد اكتمل متن عباس كيارستمي وأخذ ملامحه الأسلوبية والتأليفية الخاصة. في تشكيل هذه الملامح، تنقّح هذا المتن السينمائي بما أنجزه المخرج في فنون بصرية أخرى كفن التّصوير والفيديو والفن التّصوٌّري التّركيبي؛ وكذلك ما مع ما أنجزه في فنون الكتابة الأدبية من أعمال شعرية، وكتابات تأملية في السينما والحياة موزعة في شكل مقدمات وتصديرات لعدة مؤلفات في الميدان.

على مستوى السينما بالخصوص، أصبح من البيّن، وبناء على التراكم المحصل كمّا ونوعا، تحقيب فيلموغرافية عباس كيارستمي في ثلاث مراحل. مرحلة كانون التي تمتد من سنة 1970 إلى سنة 1984 أي من فيلم “الخبز والزقاق” إلى فيلم “تلميذ الصف الأول”، تليها مرحلة الأعمال المتميزة التي تبدأ بفيلم “الواجب” (1989) وتنتهي بفيلم “وتحملنا الريح” (1999)، وأخيرا المرحلة التّجريبية التي تتضمّن المتن الفيلمي العابر للوطنيات transnational بداية من “أبجدية إفريقيا” ABC Africa (2001) إلى فيلم 24 إطارا 24 Frames (2017)، الذي خرج بعد وفاته سنة 2016، في شكل فوتوغرافيات متحركة عن طريق تطبيق الرسومات الحاسوبية، كان ابن المخرج الراحل، أحمد كيارستمي، هو من وضع عليها آخر اللمسات.

معاودة المشاهدة، معاودة السير بنفس طازج

على ضوء هذا التراكم الكمي والنوعي، لا نجد في الإصدار الأخير لثلاثية كوكر مجرد بادرة للصيانة والتّوثيق الفيلمي المرتبط بالنشاط التّرميمي المتحفي، بل فرصة لمقاربتها كأفلام جديدة تنبض بجدّتها، وتحمل قيمتها التنويعية مقارنة مع التي شوهدت في تسعينات القرن الماضي. مشاهدة الثلاثية من داخل هذا الوعي سيكون عبارة عن تجربة كيارستامية بامتياز تنظر للتكرار وإعادة فعل الشيء نفسه ك “معاودة السير بنفس طازج” كما يقترح هذا البيت الشعري المقتبس من قصيدة لسهراب سبهيري. ومن منطلق هذه الحوارية التي تبدأ من مجال التدوير والتماثل المتحصل بين هذا البيت الشعري ومشهد السيارة التي تقطع نفس الطريق، أو الطفل الذي يمشي في نفس الزقاق أكثر من مرة، وتفتح نفسها على الأفق الرحب الذي تتقاطع فيه السينما بالشعر داخل التجربة الخاصة جدا لسينما عباس كيارستمي، نقترح استراتيجية في مقاربة جديدة للثلاثية ترمي، بالتّصريح قبل التّلميح، لإعادة مشاهدة الأفلام الثلاث بنظرة ترتبط عضويا بهذا الأفق الحواري.

خروج الثلاثية في إصدارها الجديد يعني كذلك فرصة لتجديد مشاهدة عباس كيارستمي بمنأى عن أدبيات المهرجانات السينمائية الكبرى، وشهادات أباطرة السينما العالمية كهيرزوغ وغودار وترانتينو، والتي صارت متداولة داخل حلقات الدوائر الاستقرائية والنقدية كصكوك لازمة وإلزامية، وبالتالي فرصة لإعادة مقاربته وهو يحضر في الخلفية كمخرج وشاعر وفنان تركيبي ومصوّر، وسينمائي من العالم الثالث، وسينمائي من إيران تحمل أعماله إرثا ثقافيا مختلفا وتصورا خاصا للإنسان والكون. إنها المشاهدة التي يحضر فيها عباس كيارستمي نفسه، ولكن في نفس الوقت، غير هذا الذي اكتشفه مهرجان نيويورك، أو رسّخه في التقليد النقدي ألان بريغالا، وجون ليك نانسي، أو هذا الذي أساء فهمه النقد الإيراني المحلي، أو الذي صنّمه النقد العربي في نموذج النسخة لأصل ما في الواقعية الجديدة الإيطالية أو الإجراء الشاعري التركيبي.  

لكن معاودة السير بنفس طازج لا تعني بالضرورة مسح آثار سير سابق، وإنما ترك مهمة تحديد الأثر لتربة المسالك الطرقية حيث بدأ هذا السير أول مرة. فالمشاهدة التي نقترح من خلال دلالات وإحالات هذا البيت الشعرى تكون “طازجة” حين تحتكم لمنطق التجاور والحوارية الذي يأخذ بعين الاعتبار تنوع بؤر النظر واختلاف الحساسيات، وليس منطق الإلغاء، حيث ترتكن العين في حسّها ووعيها لما ترسّب من مشاهدات أو ما تكرّس بحكم التكرار والاجترار كأبصر مشاهدة.

لكن معاودة السير بنفس طازج لا تعني بالضرورة مسح آثار سير سابق، وإنما ترك مهمة تحديد الأثر لتربة المسالك الطرقية حيث بدأ هذا السير أول مرة. فالمشاهدة التي نقترح من خلال هذا البيت الشعرى تكون “طازجة” حين تحتكم لمنطق التجاور والحوارية الذي يأخذ بعين الاعتبار تنوع بؤر النظر واختلاف الحساسيات، وليس منطق الإلغاء، حيث ترتكن العين في حسّها ووعيها لما ترسّب من مشاهدات أو ما تكرّس كأبصر مشاهدة.

من فيلم “أين منزل صديقي”

عباس كيارستمي بين المركز والهامش

ظهور ثلاثية كوكر جاء كذلك في ظرفية ثقافية تجدّد فيها الخطاب حول النظرية السينمائية، حيث لم تعد هذه الأخيرة مشدودة مغناطيسيا إلى مركز الإنتلجينسيا الغربية.

وقد تكون مفارقة أن يكون الغرب نفسه هو مؤسس هذا الخطاب التنظري الجديد خصوصا حين استفاد من درس جيل دولوز، ويكون المساهم الرئيسي في تغيير الاتجاه نحو مرجعيات ثقافية أخرى يتأصل فيها الخطاب الأيقنولوجي الذي كان محتكرا بشكل قصري في ثقافة الغرب الأوربي المسيحي.

في سياق المخرج الإيراني عباس كيارستمي تتصادف أربع أحداث في سنة واحدة 2019، وإن يرجع أحدها إلى أواخر الشهور في سنة 2018، نُحمّلها، وبشيء من التّعسف المبرّر، بعض الدلالات التي تنصب في إطار إشكالية السينما كنظرة ونظرية، بين مركز لا زال يتشبّث بسلطته في إنتاج وصياغة ثقافة السينما، وهامش لم يتمحص بشكل عميق في إرثه الثقافي ليجد السينما، ولم يتناول بجدية من عثر على السينما في هذا الإرث كما حال المخرج والمنظّر المغربي مومن السميحي، ولم تُقنعه بعد تجاربه السينمائية المحلية، كالنموذج المثالي لسينما المخرج الإيراني، في تبنّي نظرة جديدة وتمثلا جديدا للسينما وثقافتها من داخل بيئته، وبما ينسجم مع التعبيرية والجمالية الخاصة لهذه التجارب.

من الأحداث الأربع، يرتبط حدثين بمركز إمبراطورية السينما. أولهما الإصدار الجديد لثلاثية كوكر عبر دار كرايتيريون كوليكشن   Criterion Collection، التي تبرز في العالم الأنغلوفوني، مثل معادلها في العالم الفرنكوفوني MK2، كمؤسسة تجارية للتوزيع مرتبطة بسينما دار الفن  Art House Cinema، وتحتفظ كذلك بهوية “المؤسسة” فيما يخص إنتاج وتسويق المعرفة الخاصة بالثقافة الفيلمية كذلك. وثانيهما خروج كتاب “حوارات مع عباس كيارستمي” Conversation With Kiarostami   نيويورك 2019، للناقد والمخرج الأمريكي غودفري تشيشر Godfrey Cheshire، الذي كان أول من كتب عن كيارستمي في الأدبيات النقدية السينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية، ليصير اسمه منذ ذاك الحين مقترنا باسم المخرج الإيراني كأحد حاملي المفاتيح التّشفيرية لعوالمه السينمائية والشخصية كذلك. صدر هذا الكتاب الذي يضم باقة من أجمل الحوارات حول السينما بمساهمة مؤسسة كيارستمي Kiarostami Foundation، والتي يشغر فيها بيتر بيكر، مدير دار كرايتيريون كوليكشن، منصب عضو في مجلسها الإداري، إلى جانب أسماء لامعة في عالم الفن السابع كالمخرج الأمريكي المخضرم أليخاندرو غونثاليث إنياريتو والمخرجة الإيرانية الكندية شيرين نشاط.

تتنوّع مواد هذا الإصدار الجديد بين تعاليق لنقاد بارزين تناولوا سينما المخرج الإيراني كالأمريكي جوناتان روزنمبوم والإيراني مهرناز سعيد فافا، اللذان اشتركا في تحرير حوارات مع المخرج صدرت بعنوان عباس كيارستمي (2003-2018)، بالإضافة إلى حوار مع الباحث الأكاديمي الإيراني الأمريكي الذي ذكرنا أعلاه، الدكتور حميد نفيسي والذي أنجز مؤلفا من ثلاثة أحجام عن السينما الإيرانية، إضافة إلى كتابه المهم في سياق سينما الجنوب المعنون “سينما بلكنة مختلفة” An Accented Cinema (2001).

تضم المجموعة كذلك مواد فيلمية أخرى كفيلم “الواجب” الذي يتقاطع في طرحه التيماتي مع فيلم “أين منزل الصديق؟”؛ والفيلم التسجيلي حقائق وأحلام (1994) الذي أنجزه جون بيير ليموزين ضمن حلقاته التلفزية، “مؤلفي عصرنا السينمائيين”، والذي يعتبر من أهم الأعمال السينمائية الوصفية التي تشرّح الإجراء السينمائي التأليفي لعباس كيارستمي داخل هذا الحيز الذي يتقاطع فيه التسجيلي بالتخيلي.

لا تخفى أهمية الأسماء التي يضمها إصدار ثلاثية كوكر بما يُشهد لها من باع طويل في الاهتمام بعالم عباس كيارستمي السينمائي، ومنح المفاتيح التّشفيرية التي قرّبت أكثر عشاق السينما لهذا العالم. كما أن لهذه الأسماء الفضل الكبير في الانزياح بسينما المخرج من هذا الفهم المبتذل والبراغماتي لسينماه من داخل الوعي الجيوستراتيجي الضيق.  كما لا يخفى دورها كذلك في تعبيد الطريق للدراسات السينمائية المكثفة في الجامعات الغربية والتي جعلت من عباس كيارستمي موضوعها الرئيسي. لكنها في نفس الوقت تظل في الإطار العام لرؤيتها الاستقرائية والنقدية تنمُّ عن هذه الجوهرية essentialism المضمّنة في إجراء إبداعي ونقدي سينمائي يدور في محور المركزية الغربية، والأنجلوسكسونية بالدرجة الأولى.

يتأطر الحدثان الآخران في هامش الإمبراطورية السينمائية، ومن داخل المعنى الجيوسياسي والاقتصادي لكلمة هامش. هناك حدث صدور الترجمة الفارسية لكتاب الباحث السينمائي، الذي رحل قبل موعده بكثير، ألبيرتو إلينا Alberto Elena “سينما عباس كيارستمي” (Abbas Kiarostami مدريد 2002).  ساهمت ترجمة هذا الكتاب الصادرة باللغة الإنجليزية في 2005، في تحقيق نقلة نوعية لافتة للنظر في الدراسات السينمائية المحيطة بالمخرج في الأكاديمية الأمريكية. في هذا المؤلف تم لأول مرة لفت الانتباه للإشكال المنهجي الخاص بمقاربة المخرج الإيراني، وهو تمحور النقد والتحليل في مرجعيته الغربية والذي غيّب العديد من الأوجه التي لا تميّز فقط عباس كيارستمي كمخرج إيراني، بل تميّز السينما التي تأتي من الهامش وتعتمد في أرضيتها على ثقافات تٌعدّ خارج دائرة السينما والثقافة الغربية عموما. استنبات كتاب ألبيرتو إلينا في بيئة عباس كيارستمي داخل ثقافته الإيرانية الفارسية له دلالات قوية. فهو يبقى أحد المؤلفات السينمائية التي أنتجتها الأكاديمية الغربية وتناولت بدرجة عالية في العمق والدّقة متن عباس كيارستمي من داخل العناصر التركيبية العضوية لهذا المتن، كلفت الباحث الإسباني تعلّم اللغة الفارسية، ودراسة الثقافة المحلية في ماضيها وحاضرها.

تجاوز ألبيرتو إلينا في تحليله لسينما عباس كيارستمي هذه الثنائية السطحية المبتذلة التي تحصر الثقافة المحلية في خانة المدلول الخام الذي يحتاج إلى هذا الدال الغربي، الذي يكمن في أداة السينما، لكي يجد إشعاعه ويكسب بريقه، ليخلص إلى أن السينما، كفن ظهر في حضن البيئة الغربية، هي التي استفادت من تجربة المخرج الإيراني حين تنقحت بصيغ جديدة تصهر الروحاني بالإنساني والشعري بالواقعي، بشكل لم تكتسبه مع أي مخرج آخر قبل عباس كيارستمي. وبالتالي يكسب كتاب ألبيرتو إلينا أهميته كذلك في إطار المشروع التنظيري والنقدي التصحيحي الذي يصطلح عليه بعملية لا تغريب de-westernizing النظرية السينمائية، الذي يرمي إلى بناء صرح تنظيري جديد للسينما خارج الإرث الثقافي الأيقونولوجي والتمثلي الغربي.

في سياق المجهود المعرفي لمشروع لا تغريب النظرية السينمائية، والذي قد نرصد بوادره الأولى في العلوم الإنسانية مع المفكر المغربي عبدالله العروي، الذي استعمل نفس المصطلح بخصوص الدرس التاريخي، أو في الأدب داخل مشروع “النظرية حول العالم” الذي اطلقاه من الجامعة الأمريكية كل من غايثري سبيفاك و حسام أبو العلا، يرتبط هذا المشروع في إطاره السينمائي باسم الباحثة والأكاديمية لورا ماركس Laura U. Marks.  في تشريحها للمكونات البصرية في السينما وأعمال الفيديو والفن التصوري والتركيبي من إبداع فنانين ينتمي بعضهم للعالم العربي والإسلامي، تناولت الباحثة الكندية بالدراسة والتفكيك هذه السينما التي استعاضت في طريقة تواصلها مع المتلقي عن الوسيط البصري والسمعي بعناصر تركيبية تستحث حواسا أخرى كالذوق والشم واللّمس. بناء على هذا طورت لورا ماركس ما أصبح متداولا في النظرية السينمائية باصطلاح المرئيات الملموسة haptic visuality

من فيلم “عبر أشجار الزيتون”

وجدت نظرية المرئيات الملموسة أرضيتها التطبيقية في الأعمال السينمائية لمخرجين من إيران ولبنان وفلسطين، ما دفع الباحثة إلى تمديد دراستها للتدقيق في خصوصيات الفن والفكر العربي الإسلامي وعلاقتها مع ثقافة الصورة والتصوير لتصدر مؤلفا بعنوان إشكالي جدا هو “الطي واللانهاية: في الأصول الإسلامية لفنون الوسائط الحديثة” (Enfoldment and Infinity: An Islamic Genealogy of New Media Art. 2010). خلصت لورا ماركس إلى نتيجة، أقل ما تقيم به في جدّتها وجديدها هي كونها جد تقدّمية، مفادها تأصيل الفن السينمائي في مرجعية ثقافية عربية وإسلامية حضرت في الفكر والنظرية الغربية في صيغة مضمرة. في النظرية السينمائية والوسائطية البصرية الغربية، يشكل الفن والفكر العربي الإسلامي ما اصطلح عليه المفكر الأمريكي فريدريك جيمسون Fredric Jameson بالوسيط المتلاشي vanishing mediator.

على نفس الخط التنظيري للورا ماركس، اعتمد الباحث والأكاديمي الأسترالي بيتر ليمبريك Peter Limbrick الكتابات التنظيرية للمخرج المغربي مومن السميحي، ومعادلها التطبيقي في متنه السينمائي، ليترصد بوادر التفكير الموازي للسينما في كتابات ابن الهيثم في البصريات والأسلوب الخلدوني في الحكي الاستطرادي. يجد كل من لورا ماركس وبيتر لمبريك، وباحثون سينمائيون لا يسمح المجال لذكرهم، في أرضية الفن والفكر والفلسفة الإسلامية المادة المناسبة لتحرير النظرية السينمائية من المركزية الغربية والامتداد بمشروع لا تغريب النظرية في اتجاهه الصحيح. فقد تغيب النظرية السينمائية في الثقافة العربية بالشكل الذي تأتت من خلاله هذه النظرية مع كتابات كريستيان ميتز وجون ميتري وسيرغي إيزنشتاين، ولكن تحضر “نظرات” مهمة حول الفن البصري والسردية سرعان ما ترقى إلى مستوى الخطاب التنظيري حين تلامس تجارب سينمائية محلية مثل تجربة عباس كيارستمي.

معاودة مشاهدة ثلاثية كوكر من خلال هذه النية التنظيرية حتما تعد بنتائج تنسجم مع مشروع لا تغريب النظرية السينمائية كما يحضر في القالب التصوري لبحث لورا ماركس ودراسات بيتر ليمبريك.

الحدث الآخر والأخير، ينسجم في إطاره الإقليمي وأهميته الرمزية مع حدث ترجمة كتاب ألبيرتو إلينا للفارسية، كما ينسجم في الرؤية والإجراء مع مشروع لورا ماركس في لا تغريب النظرية السينمائية. إنه صدور العدد الأخير من “المجلة المغربية للأبحاث السينمائية” (يوليو 2019) بملفّ خاص عن شعرية السينما كرّسته للمخرج عباس كيارستمي. وسط جو من سوء الفهم والتهمة بالاجترار والحشو بخصوص الأدبيات حول المخرج الراحل، يأتي هذا الملف كتعبير عن راهنية عباس كيارستمي في الدوائر النقدية المغربية، والعربية كامتداد لذلك، وكذلك كوجه لتطوّر حساسية نقدية سينمائية أصبحت تعي السينما كإجراء ومفهوم من داخل تلافيف الثقافة العربية الإسلامية المحلية.

كل هذه الجوانب يضيئها بشكل ملموس المقال الذي خصّصه محرر الدورية الناقد والباحث السينمائي حمادي كيروم لعباس كيارستمي بعنوان “تجليات الصورة الفنية في أعمال عباس كيارستمي الشعرية والسينمائية”. تناول الناقد المغربي في هذا المقال حوارية الكلمة مع الصورة في شعرية عباس كيارستمي، مفككا لمظاهر هذه الشعرية من خلال الخلفية الروحانية الشرقية التي تعتمدها في المحتوى والصيغة التعبيرية. وقف الباحث المغربي على مدى تأثير الرصيد التعبيري الصوفي في مقاربة عباس كيارستمي الإبداعية سواء في تركيب صورته الفيلمية أو في قوله الشعري. تضيء مقالة حمادي كيروم عناصر تركيبية مهمة في إبداع عباس كيارستمي اختزلها النقد الغربي في مجرد تنويعات محلية لتعبيرية سينماتوغرافية وأسلوبية فيلمية تتأصل بالدرجة الأولى في التقليد البصري الغربي. في مجهوده النقدي المتميز، لامس حمادي كيروم علاقة المرئي بالمقروء وعلاقة كليهما باللامرئي في سينما كيارستمي، ليقف على خاصية تسم التّعبير الفني الإسلامي المنبني على نموذج الطي واللّفّ، كما سطّرت على ذلك لورا ماركس في كتابها القيّم.

كخلاصة

غالبا ما نردّد عبارة هيراقليطس لا يمكن للمرء أن ينزل للنهر مرّتين، لأنه لا النهر يظل نفس النهر ولا المرء يبقى الشخص ذاته.

من ضمن ما نفهم منها أنه لا الأشياء فقط تتغير بل الإنسان كذلك وإن كان للزمن أثر على الأشياء فكل أثر يتضمن حتميا تجدّدا ما. يكفي الاحتكاك بالأشياء التي مضت مرة أخرى لكي تصير آنية ووليدة اللحظة. كذلك في السينما، هذا الفن الذي لا يتحقق إلا داخل زمنية حاضره الممتد في السيرورة والصيرورة التي تحتكم لمنطق الحركية والحركة الخاصين به، لا يمكن أن نشاهد نفس الفيلم مرتين وطبقا لفلسفة التغيير الهرقليطية، لا يمكن أن يشاهد نفس الفيلم نفس المشاهد. المشاهد هنا هو هذا المتلقي الذي لا علاقة له بالشخص، وإنما بوعي نابض جدلي يتفاعل مع الفيلم من خلال ما يقترح في آنية المشاهدة بكل ما ينطوي في اللحظة من جديد في كمّ وكيف النظرة والنظرية كذلك.

بهذا الوعي حتما سنشاهد في ثلاثية كوكر أفلاما مختلفة عن التي شاهدناها في التسعينات من القرن الماضي، وحتما سنعبر من نفس الطريق مع عباس كيارستمي، كما دأبت على فعل ذلك شخصياته، لكي نمشي في كل عبور مسالك جديدة. هكذا تتحقق المشاهدة السينمائية كمعاودة السير بنفس طازج.    

يناير 2020، الرباط، هيوستن، سان فرانسيسكو

Visited 217 times, 1 visit(s) today