ثلاثية “شارع الخوف”.. بين لعنة السحر ولعنة الإثم
قليلة هي أفلام الرعب التي تحمل رسالة أو هدفاً ما عدا إخافة المشاهد وإلقاء الرعب في نفسه. وتعتبر ثلاثية شارع الخوف fear street التي أخرجتها لي جانياك عن سلسلة كتب تحمل نفس الاسم للكاتب روبرت لورانس ستاين R.l Stine وعُرضت على منصة نتفليكس في يوليو ٢٠٢١ واحدة من هذه الأفلام.
فالسلسلة تدور أحداثها، في ثلاثة أزمنة مختلفة، حول لعنة تصيب ضاحية شاديسايد Shadyside في القرن السابع عشر (زمن الجزء الثالث ١٦٦٦) من جراء تنفيذ حكم الإعدام في الساحرة سارة فير بعد قطع يدها ودفنها في مكان بعيد عن الجثة. وتستمر اللعنة حتى زمن أحداث الجزء الأول (١٩٩٤)، مروراً بأحداث الجزء الثاني (١٩٧٨). وتتمثل اللعنة في ظهور سفاحين وقتلة في كل زمن، يرتكبون جرائم القتل بوحشية تثير الذعر في شاديسايد وتنذر بالخراب، حيث نال الإهمال والفقر هذه الضاحية، فى مقابل ضاحية سانيفيل Sunnyvale التي تعيش حياة منعّمة ولا تعاني أية مشكلات. ويبدو التفاوت الصارخ بين الضاحيتين من خلال الاسم، فشاديسايد تعني الجانب المظلم، وسانيفيل تعني الوادي المشمس، كما أن الأحداث ستكشف عن إعادة تجسيد للصراع التقليدي بين النور والظلام، بين الخير والشر.
السلسلة تعد إحياءً أو تطوراً لسلسلة أفلام الصرخة Scream التي اشتهرت في التسعينيات من القرن الماضي، وكانت تدور أحداثها في عالم المراهقين، وهي نفس الفئة التي استهدفتها سلسلة شارع الخوف (الكتب والأفلام) ونسجت أحداثها على نفس المنوال تقريباً. غير أن “شارع الخوف” تختلف في كونها عمل واحد متكامل عُرض على أجزاء، ولم يكن، مثل معظم أفلام الأجزاء، فيلماً ناجحاً عمل صنّاعه على استثمار نجاحه في أفلام تالية.
وبهذا المعنى جاء السيناريو، الذي شاركت المخرجة في كتابته، محبوكاً ومتماسكاً بحيث لا يمكنك أن تفهم الأحداث إلا إذا شاهدت الأجزاء الثلاثة من السلسلة مجتمعة، بالرغم من أن كل فيلم كان له بنيته الخاصة وحبكته التي تجعل منه عملاً مستقلاً بذاته، لولا أن السر الحقيقي وراء لعنة شاديسايد لا تتضح معالمة الأسطورية الغامضة إلا في الفيلم الأخير الذي تدور أحداثه في القرن السابع عشر، ويلقى الضوء على حياة سارة فير والظروف التي أحاطت بواقعة شنقها على مرأي ومسمع من أهل قريتها.
لا يختلف الفيلم كثيراً عن فيلم “الصرخة” وأفلام السلاشر (المشرّح) Slasher عموماً، في تصوير المشاهد الدموية للقتل الوحشي الذي تمارسه مسوخ شاديسايد الملعونة، وفى لحظات الترقب والذعر التي تصيب الضحايا قبل أن ينالها سكين أو بلطة السفاح الغامض، الذي يخفى وجهه في الغالب تحت قناع مثير للرعب. ويمكن أن نستثني شخصية روبي لين التي ظهرت في الجزء الأول، وكانت لا ترتدي قناعاً ولا تحمل بلطة، لكن كانت تقتل، وهي بكامل تأنقها وأنوثتها، بشفرة الحلاقة وهي تغني أغنية قديمة مميزة. كما يمكن أن نستثني الطريقة الدموية المبتكرة ذات البشاعة الصادمة التي استخدمها القاتل الذي يرتدي قناع الجمجمة في الجزء الأول، أيضاً، عندما وضع رأس الضحية في مفرمة للخبز، وهو المشهد الذي يعكس نوعاً من السادية الفنية عبّرت عنه المخرجة، في أحد اللقاءات، بأنها تشعر بالسعادة كلما اكتشفت طريقة جديدة لقتل البشر!
كما يُلاحظ أن الضحايا، بجانب فئة المراهقين، كانوا من الأطفال في الجزأين الثاني والثالث، ودون سبب واضح عدا إثارة الذعر في القرية (١٦٦٦) أو المعسكر (١٩٧٨). ربما يشعر المشاهد أن ثمة مبالغة في تصوير مشاهد القتل المجاني في الجزأين الأول والثاني، لكنه سيدرك أن صنّاع العمل لم يهدفوا إلى مجرد إثارة الرعب في نفوس المشاهدين عندما يشاهد الجزء الثالث (١٦٦٦).
تدور أحداث الجزء الأول (١٩٩٤) حول العلاقة المتوترة بين شباب “شاديسايد” وشباب “سانيفيل” من خلال مباراة في كرة القدم الأمريكية تنتهي بمشاجرة عنيفة بين الفريقين ومطاردة بالسيارات في الظلام تسفر عن اكتشاف مقبرة الساحرة سارة فير المتسببة في لعنة شاديسايد.
ويعكس الصراع بين الشباب شذوذاً في العلاقة، إذا فهمنا الشذوذ بمعنى الاختلال، يتمثل في نزعة طبقية وعنصرية من قبل شباب سانيفيل تجاه شباب شاديسايد، ويتخذ شكل اضطهاد واضح خلال الجزأين الأولين، وهو اضطهاد يمتد بجذوره إلى ساره فيير في الجزء الثالث الذي يدور في القرن السابع عشر.
والحقيقة أن الشذوذ، بمعنييه الحقيقي والمجازي، يثير إشكاليات كثيرة في أحداث السلسلة يصعب حسمها في ظل حبكة متداخلة ومتشعبة من شأنها أن تفتح الباب على مزيد من التأويلات. فأنت لا تسطيع أن تفهم سر العداء الذي بين سكان الضاحيتين سوي أن إحداهما فاسدة وملعونة بينما الأخرى أكثر طمأنينة واستقراراً، خاصة أن الاضطهاد والنزعة الانتقامية يأتيان من شباب سانيفيل، الضاحية الآمنة، ويظهر ذلك بوضوح في المشهد الاستهلالي من الجزء الثاني (١٩٩٤) عندما تقوم فتيات سانيفيل، فى معسكر للشباب، بممارسة العنف تجاه زيجي بيرمان (سادي سينك)، فتاة شاديسايد، وكيها بالنار في مشهد شبيه بمشهد شنق ساره فير. والمفارقة أن شباب سانيفيل ليسوا ملائكة، بل على العكس يقومون بكل السلوكيات اللا أخلاقية، الناجمة عن الحرية المفرطة التي يتمتعون بها كشباب مراهق، من تعاطي للمخدرات وممارسة للجنس، ما يجعلنا نفهم اللعنة بالمعنى المجازي، فإذا كانت لعنة السحر هي التي وراء فساد شباب شاديسايد فإن لعنة المال والرفاهية هي التي وراء فساد شباب سانيفيل.
وإذا أردنا أن نمسك بخيط واضح يمكن أن يربط الأجزاء الثلاثة، فسنجد أنه تلك العلاقة الشاذة التي بين دينا (كيانا ماديرا) وسامانتا فريزر (أوليفيا سكوت ويلش)، وهما من شباب شاديسايد، غير أن سامانتا انتقلت للحياة في سانيفيل وارتبطت عاطفياً بشاب من سانيفيل، ما اعتبرته دينا خيانة لبلدتها شاديسايد، فى حين أنها، في قرارة نفسها كانت تعتبرها خيانة لها هي شخصياً وللعلاقة (الشاذة) التي كانت تربطهما.
وبالرغم من أن السيناريو لا يتوقف كثيراً عند تلك العلاقة الآثمة، إلا أن المشاهد القليلة التي جسّدت هذه العلاقة كانت صريحة ومعبّرة إلى الدرجة التي جعلتها الوقود المحرك للأحداث في الجزأين الأول والثالث. ففي الجزء الأول (١٩٩٤) تعود سامانتا إلى صديقتها دينا في شاديسايد وتمارسان الجنس بعد حوار حميمي تعترف فيه سامانتا أنها لم تشعر بوجودها وبحقيقة ذاتها إلا عندما التقت بدينا ودخلت معها في تلك العلاقة. وعندما تصاب سامانتا باللعنة وتتحول إلى وحش متعطش للدماء وتطعن دينا بالسكين، تتصل هذه الأخيرة بزيجي بيرمان (الناجية الوحيدة من مذبحة المعسكر ومن لعنة سارة فيير) لمعرفة الطريقة التي نجت بها حتى تنقذ صديقتها. ويختتم الجزء الأول أحداثه عند هذا الموقف، وليضع المشاهد في حالة من الترقب انتظاراً للجزء الثاني..
لم يضف الجزء الثاني (١٩٧٨) جديداً بالنسبة لعلاقة دينا بسامانتا، اللتان لم تظهرا في الأحداث الدائرة عام ١٩٧٨، ولم يضف شيئاً للعلاقة العدائية بين شباب الضاحيتين، وإن قدم من الأحداث ما أكد على هذا العداء، وعلى طبيعة الحياة العابثة للمراهقين في معسكر نايتوينج. ولعل الشيء المميز في هذا الجزء هو الإشارة إلى أن المعسكر كان مقاماً على الأرض التي شُنقت عليها ساره فير، وهي نفس الأرض التي أقيم عليها المول الكبير في شاديسايد، والذي ارتكبت فيها حوادث قتل مروعة، ما يعني أن اللعنة مستمرة، وممتدة عبر الأجيال. كما يقدم هذا الجزء الأبعاد الاجتماعية والنفسية لشخصية توم، الشاب اللطيف الذي سيتحول إلى سفاح يحمل بلطة ويقوم بقتل كل من يقابله في المعسكر، بتأثير من لعنة ساره فير. وربما كان توم هو المسخ الوحيد في السلسلة الذي حرص السيناريو على إبراز سماته الإنسانية قبل أن يتحول إلى وحش هو الأكثر عنفاً ودموية من بين المسوخ الأخرى التي طالتها لعنة الأزمنة الغابرة.
كما لا يمكننا أن ننسى شخصية المأمور نيك جود (أشلي زوكرمان)، في الجزء الأول، والذي كان منحازاً لسانيفيل ضد شاديسايد، فقد ظهر في الجزء الثاني في شبابه أكثر أخلاقية، وأكثر تعاطفاً مع شباب شاديسايد، خاصة زيجي بيرمان، التي نجح في إنقاذها من المذبحة في اللحظات الأخيرة. وتبدو شخصية جود غامضة ومحيرة، إذا ما قورن موقفها في الجزء الأول بموقفها في الجزء الثاني. إن جود، بالرغم من صرامته في ١٩٩٤، يبدو شديد اللطف والإنسانية في ١٩٧٨، وفى حوار له مع زيجي يكشف السيناريو عن شخصية بسيطة تكره السلطة وتحب العناكب وروايات ستيفن كينج. لكنه، فى الأخير، يحقق رغبة العائلة التي ورثت السلطة وتحرص على توريثها، لكن كيف وصلت السلطة إلى هذه العائلة ابتداءً. تلك هي الحقيقة المروعة التي سيكشف عنها الجزء الثالث (١٩٦٦)، الأقل عنفاً والأكثر رعباً.
يحكي الجزء الثالث عن الحياة الرعوية في واحدة من المستعمرات الإيرلندية، من خلال مجموعة من الفلاحين الذين نشأت بينهم ساره فير (تلعب دورها كيانا ماديرا أيضاً)، وهي شخصية لطيفة ومحبوبة من الجميع، عدا بعض المعاكسات من بعض الشباب التي تنجح في دفعها نظراً لقوة شخصيتها التي ظهرت في عدة مواقف رسمها السيناريو بعناية. تعاني سارة من السلطة الأبوية من ناحية وتصادق سولومون جود (يلعب دوره أشلي زوكرمان)، الشخصية الأكثر ذكاءً وتأثيراً في القرية وفي الأحداث من ناحية أخرى.
لكن تكمن نقطة التحول البارعة والمثيرة في الأحداث في عودة العلاقة الشاذة بين دينا وسامانتا، لكن هذه المرة، وإن بنفس الممثلتين، بين سارة وصديقتها هانا ميلر (أوليفيا ويلش). ففي واحدة من الليالي المقمرة تلتقي الفتاتان في الغابة وتمارسان الحب، بينما يراقبهما شخص ثالث من خلف شجرة. وتتزامن تلك الواقعة مع ظهور أعراض خراب بالبلدة فتموت الماشية ويتعفن الخبز، ويُشاع أن لعنة حلت بالقرية من جراء فعل آثم ارتكبته الفتاتان، فيتم القبض على هانا تمهيداً لإعدامها حتى تُرفع اللعنة، بينما تهرب سارة إلى بيت سولومون جود.
وفي حوار ذي دلالة يطمئن جود سارة بأن ما حدث بينها وبين هانا “مجرد نزوة عابرة”، وأن الشيطان لا يحضر من تلقاء نفسه ولكن إذا استدعاه أحد وهو ما لم يحدث معها. غير أن سارة تلقى بعبارة ذات مغزى، تذكرنا بعبارة سامانتا في الجزء الأول، عندما تقول بإصرار “لم تكن نزوة عابرة”.
فالأمر الواضح أن سارة لم تعقد صفقة مع الشيطان ولم ترد ذلك، لكنها عقدت علاقة آثمة مع هانا وكانت تريد ذلك. وهنا ينبغي أن نتساءل متى يحضر الشيطان؟ وكيف تحل لعنته؟
لقد انقلبت القرية على سارة وصديقتها وطالبت بشنقهما كالساحرات فيما يشبه الميدان العام، لكن سارة وبدافع من حبها المحرم لهانا تعترف على نفسها أمام الجميع بأنها عقدت صفقة مع الشيطان كي تنقذ عشيقتها من الموت وتضحي بنفسها أمام سولومون الذي دفعها إلى حبل المشقة بعد أن اكتشفت أنه هو الذي عقد صفقة الشيطان.
وتقسم سارة لجود قبل أن تلقى حتفها بأن اللعنة ستطارده طوال حياته، وتكتب هانا وأصدقاؤها على مقبرتها أن سارة ستعيش إلى الأبد.
وتعود بنا الأحداث إلى عام ١٩٩٤ زمن أحداث الجزء الأول بعد أن عرفت دينا سر اللعنة، وأن أسطورة سارة فير غير حقيقية. فالصفقة الشيطانية عقدها سولومون جود في القرن السابع عشر، وحصل بموجبها على المال والسلطة في القرية لقاء ترشيح اسم للشيطان تحل به اللعنة ويتحول إلى سافك للدماء، وكان الاسم الأول هو قس القرية صاحب مذبحة الأطفال، وتوالت المذابح عبر ثلاثة قرون تالية بما فيها مذبحة معسكر نايتوينج التي ارتكبها توم بعد أن زج نيك جود، الشاب، باسمه إلى الشيطان.
وفي الثلث الأخير من الجزء الثالث تجتمع شخصيات الجزء الأول دينا وجوش (الأخ الأصغر) وزيجي بيرمان وعامل النظافة في مول شاديسايد من أجل القضاء على جود والمسوخ التي أطلقها الأجداد بالسحر عبر السنين من أجل إراقة المزيد من الدماء.
وتنجح المجموعة في مسعاها في مشهد يضم مذبحة ذات طبيعة خاصة، فالمسوخ لا تموت، لأنها ميّتة بالفعل، لكنها تنفجر كالبالون وتختفي بعد أن تقتل دينا المأمور جود خلال معركة ضارية تدور بينهما في أنفاق مظلمة تحت الأرض، لتذكرنا بالصراع الذي دار بين سارة وسولومون في نفس الأنفاق منذ سنوات بعيدة..
وبعد أن تنتهي اللعنة وتختفي من حياة شاديسايد، يأبى صنّاع العمل إلا أن يتركوا علامات استفهام، تحتاج إلى إجابات حاسمة، حول لعنة السحر ولعنة الإثم، حول سحر المعصية وغواية السحر. فقد انتهت السلسلة بمشهدين معبّرين، أحدهما لدينا وهي تحتضن صديقتها سامانتا، التي برئت من لعنة الشيطان، وتقبّلها بنحو شهواني بينما تحيط بهم الورود الحمراء في حديقة مترامية الأطراف، في إشارة إلى انتصار الحب المثلى الذي جرّمه المجتمع ذات يوم بعيد واعتبره سبباً للعنة القرية. أما المشهد الآخر، فكان ليدين مجهولتين تستوليان علي كتاب السحر، المنطوي على صفقة الشيطان، قبل أن تظلم الشاشة، في إشارة إلى أن اللعنة سوف تستمر من خلال شخص آخر سيعقد صفقة جديدة مع الشيطان.
فهل كانت علاقة سارة فير بهانا ميلر بمثابة الخطيئة الأولى، ومن ثم كانت لعنة الإثم هي سبب شقاء شاديسايد؟ أم أن بيع النفس للشيطان، من قبل سولومون جود، لقاء المال والسلطة هو سبب اللعنة التي حلت بالمدينة؟
لا يجيب الفيلم عن أي من هذه الأسئلة، لكنه يفتح الباب لجزء رابع محتمل، ربما تتضح معه الصورة أكثر. وفي كل الأحوال، يظل الإنسان هو مصدر الغواية وصانع السحر ومرتكب الخطيئة، أما الشيطان فهو التفسير الميتافيزيقي الأكثر قبولاً لفكرة الشر في العالم عبر العصور!