ثلاثية “الطيب والشرس والسياسي”: صدمة وكشف وسخرية

شهد مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي الأخير، العرض العالمي الأول للفيلم المصري الوثائقي الطويل “التحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي”. وبعد فينيسيا توجه الفيلم الى مهرجان تورنتو، وسينتقل الى مهرجان أبو ظبي السينمائي الذي يفتتح في 13 أكتوبر، كما يتوقع أن يعرض في عدد كبير من المهرجانات السينمائية الدولية.

اشترك في كتابة وإخراج الفيلم ثلاثة من السينمائيين الذين اشتركوا في أحداث الثورة المصرية التي اندلعت في 25 يناير الماضي وأسقطت نظام الرئيس حسني مبارك. المخرجون الثلاثة هم بترتيب الأجزاء التي أخرجوها من الفيلم: تامر عزت وآيتين أمين، وعمرو سلامة.

والأجزاء الثلاثة من الفيلم تعرض وجهات نظر أصحابها في الأحداث الدرامية التي وقعت والتي كانوا مشاركين فيها وشهودا عليها، وقد اختار كل مخرج جانبا محددا لرواية جزء من الأحداث، وتقديم صورة للعالم عما حدث في مصر، وتحديدا في عاصمة الثورة المصرية أي ميدان التحرير في قلب القاهرة.

الطيب

في الجزء الأول “الطيب” يقدم مخرجه تامر عزت صورة قريبة لميدان التحرير: كيف تحول إلى “جمهورية” مستقلة، أو كما يردد أحد الشخصيات في الفيلم “منطقة محررة” بالكامل، يسيطر عليها الثوار، بعد أن تمكنوا من تأمينها وتزويدها بالحماية وبقوة تدافع عنها، كما أنشأوا مستشفى ميداني يعمل فيه الأطباء المشاركون في الثورة تطوعا.

ويتوقف الفيلم أمام عدد من الشخصيات التي تعبر عن شباب الثورة أولهم “نازلي” وهي فتاة مصرية تنتمي للشريحة العليا من الطبقة الوسطى، لم يسبق لها المشاركة في المظاهرات من قبل. تصحبها الكاميرا، سواء من خلال مشاهد ولقطات تسجيلية التقطت لها أثناء الأحداث، أو تعود بها الى ميدان التحرير في وقت لاحق بعد أن انتهت الأحداث الساخنة وان بقيت التظاهرات المليونية، لكي تروي للمشاهدين تجربتها في الثورة، كيف تغيرت حياتها تماما بعد أن رأت بعينيها للمرة الأولى شابا يسقط قتيلا برصاص رجال الأمن.

وينتقل الفيلم الى “أسامة حسام محمد” الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكيف كان يتشكك في امكانية النجاح في تنظيم مظاهرات ضخمة ففوجيء بالأعداد الهائلة للمتظاهرين، وكيف استمد الشجاعة الهائلة في مواجهة قوات الأمن من وجوده وسط تلك الأعداد، وأصيب برصاصة استقرت في فكه لم يمكن ازالتها حتى الآن.

والشخصية الرابعة في هذا الجزء هي شخصية طبيب شاب ساهم في تأسيس مستشفى “دولة التحرير” لعلاج المصابين، وهو يروي الكثير من التفاصيل المتعلقة بالعمل الشاق في هذا المستشفى وقت المواجهات الشرسة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وما عرف فيما بعد بـ”موقعة الجمل” حينما حاول رجال مدسوسون من النظام السابق تفرقة الثوار في ميدان التحرير باستخدام أقسى درجات العنف البدائي.

ثم يتوقف الفيلم أمام شخصية المصور “أحمد” الذي تخلى عن منحة دراسية في الخارج وقطع دراسته في الدنمارك وعاد الى القاهرة للمشاركة في الثورة، وهو يروي تفصيلا الكثير عن عمله كمصور أثناء الثورة، ويستعرض الكثير من الصور الفوتوغرافية التي التقطها في ظروف شاقة، وتعتبر تلك الصور وثائق مهمة على الثورة.

يتوقف هذا الجزء أيضا أمام المظاهر الأخرى في ميدان التحرير مثل الغناء والمعارض التي تخصص لكتابة كل ما يود الثوار التعبير عنه.

ويعتبر هذا الجزء من أكثر الأجزاء في الفيلم توازنا وشمولية، وهو توازن بين اللقطات العامة التي تقدم لنا صورة توثيقية للحدث الكبير، واللقطات القريبة من بعض الشخصيات التي ساهمت في صنع الحدث.

الشرس

الجزء الثاني “الشرس” تتوقف فيه المخرجة آيتين أمين أمام عدد من شخصيات ضباط الشرطة الذين شاركوا في قمع الثورة أو كانوا شهودا عليها، فهناك مثلا الضابط مصطفى جمال عبد السلام، وهو نقيب في قوات الأمن المركزي، يتحدث بشكل انتقادي للنظام الذي صنع من الشرطة على حد تعبيره (عفريا العلبة بالنسبة للشعب)، ولكنه ينفي أي تعامل مباشر مع المواطنين، ويتحدث الضابط الذي يتحدث دون أن يظهر وجهه بوضوح بعد أن رفض الظهور مباشرة بشخصه، عن وجود “عنار مندسة” وسط الجماهير قامت بالتخريب على حد قوله، لكن هناك عبارة شديدة المغزى تفلت منه وهو يصف تدفق الجماهير الثائرة على شوارع القاهرة عندما يقول “مرة واحدة وجدنا أنفسنا نواجه مصر كلها”.

نقيب آخر فش الشرطة يتحدث عن رغبته هو الآخر في اسقاط النظام، الذي يراه مستغلا له ولأمثاله، ساعات عمل طويلة، نقص للحماية، تدريب هزيل، أجور متدنية، مهمة صعبة لمواجهة الشعب.. الخ

وتنتقل آيتين من الضابط المتعاطف مع الثورة الذي يوجه نقدا للنظام يعكس وعيا سياسيا كبيرا (ضابط أمن دولة استقال من وظيفته)، الى الضابط الذي يصف الثورة بأنها عملية “مدبرة”.

وتستخدم المخرجة الكثير من اللقطات التسجيلية في هذا الجزء منها لقطات لأقسام الشرطة التي حرقت خلال الأحداث، وشاب يتصدى لمدرعة من مدرعات الجيش، وتكشف عن جوانب مثيرة جديدة تتعلق بتصفية المساجين السياسيين الإسلاميين تحديدا وتغطية عمليات القتل الجماعي عن طريق اطلاق سراح المساجين الجنائيين الخطرين من السجون المصرية. كما يتناول هذا الجزء بالتحقيق سينمائيا، موضوع وجود مجموعات من القناصة ضمن فرق الأمن المركزي وهي التي ينفي المسؤولون في وزارة الداخلية حتى الآن، وجودهم أصلا.

السياسي

وفي الجزء الثالث (السياسي)، ولعله أطرف الأجزاء الثلاثة وأكثرها امتاعا للمشاهد، نشاهد ميكانيزم صنع الديكتاتور تحت عنوان “كيف تصبح ديكتاتورا” على نمط “كيف تصبح مليونيرا”.. وهو ما يلحصه المخرج عمرو سلامة في نقاط عشر يبدأها في مزيج من الجدية والسخرية، وهو يبدأها بالتوقف أمام “صبغة” الشعر التي ميزت حكم الرئيس السابق حسني مبارك الذي كان يستخدمها لاخفاء آثار الزمن ومعه زمرة من كبار المسؤولين في عهده.

ويشرح هذا الجزء ببساطة وبطريقة قريبة للغاية من المشاهد العادي البسيط، كيف تمكن نظام مبارك من الاستمرار في السلطة طيلة هذه السنين، من خلال صورة قريبة من مبارك سواء من خلال نقاد نظامه مثل الكاتب بلال فضل أو الروائي علاء الأسواني، أو بعض من عملوا معه مثل الدكتور حسام بدراوي الذي تولى أمانة الحزب الوطني، أي حزب الرئيس قبل السقوط مباشرة. وهو ير وي في مقابلة نادرة حقا، تفاصيل اللقاء بينه وبين مبارك لاقناعه بالتخلي عن السلطة وكيف أن مبارك تراجع عن الاتفاق الذي تم بينهما وألقى خطابا ثانيا يعلن فيه تمسكه بالبقاء مما أشعل نيران الغضب لدى الثوار.

ولاشك أن الفيلم بهذه الثلاثية المتناغمة يعكس تماسكا وتكاملا رائعا من خلال وحدة الموضوع والحدث والترابط بين الشخصيات، بحيث تكمل الأجزاء الثلاثة بعضها البعض، وتعكس أيضا تآلفا فريدا بين المخرجين الثلاثة. فنحن عندما نشاهد الفيلم فإننا نشاهده كفيلم واحد بأجزائه الثلاثة وليس كثلاثة أفلام متفرقة منفصلة.

الملحوظة الثانية أن  هناك مزجا جيدا جدا بل ومحكوما بدقة شديدة، بين التسجيلي المأخوذ من اللقطات الأرشيفية للثورة من مصادر شتى بما فيها دون شك شبكة “يوتيوب” على الانترنت، وبين ما تم تصويره خصيصا للفيلم سواء من لقطات في ميدان التحرير أو مقابلات مع عدد من الشخصيات.

ولعل هذا الترابط يخلق تأثيرا عاطفيا هائلا على المشاهد، دون أن يفقد الفيلم قدرته على التحليل، والرؤية الواضحة المنهج سياسيا، وبالتالي يتميز الفيلم عموما بتقديم كم كبير من المعلومات حول أحداث يناير- فبراير 2011، مع تحليل متميز، وتوازن في البناء، مع الابتعاد عن التعليق الصوتي التقليدي اكتفاء بما تكشف عنه الصور من قوة،  أو بما يأتي في سياق الفيلم من تعليقات من جانب الشخصيات التي تظهر في الأجزاء الثلاثة منه.

ورغم قسوة ما يصوره الفيلم من أحداث ووقائع خاصة في الجزئين الأول والثاني، إلا أنه لا يخلو من المتعة والجمال.. فمن تلك الروح الجماعية الكبرى التي يعكسها الجزء الأول “الطيب”، وتصوير ذلك الاصرار على هزيمة مبارك وابتعاده عن السلطة، مع تصوير الابداعات المباشرة للثائرين في الميدان، بل وكيف عقد أحدهما قرانه على زوجته في الميدان أيضا، إلى تلك الصورة الجريئة التي تظهر في الجزء الثاني (الشرس) وأغنية الشيخ إمام العبقرية “أنا رحت القلعة وشفت ياسين” التي تنزل على لقطات للسجون والزنازين التي استقبلت طوال عهود كل أنواع المسجونين السياسيين، إلى السخرية والمرح.. سلاح الثوار أيضا في مواجهة حماقة الديكتاتورية في الجزء الثالث، وكيف أصبح مبارك حبيسا في أوهامه الخاصة بل وكيف كان يتصور أيضا أن بوسعه أيضا أن يورث السلطة لابنه من بعده!

إن فيلم “التحرير 2011” وثيقة مهمة دالة، وشهادة صادقة، لثلاثة سينمائيين عن وجودهم المباشر في ذلك الحدث الفارق في تاريخ مصر الحديث. 

** نشر أولا في موقع الجزيرة الوثائقية

Visited 11 times, 1 visit(s) today