ثلاثة كتب حول السينما في المغرب
هذه محاولة للقراءة في ثلاثة كتب نقدية سينمائية تناولت بعضإشكاليات السينما المغربية وقضاياها في الماضي والحاضر:
1. عبد الإله الجوهري في “ورزازات فضاء للسينما/ المغرب/ 2003.
2. “أسئلة النقد السينمائي المغربي” الصادر عن نادي ايموزار للسينما عام 2009.
3. محمد أشويكة “رهانات الحداثة ووعي الذات في مسار السينما المغربية”. دار التوحيدي للنشر/الرباط/ 2012.
مقدمة
عرف المغرب السينما بداية من مجيء مراسلي الأخوين لوميير الذين صوروا المشاهد الطبيعية في مناطق من المغرب مختلفة وقدموا عروضاً فيلمية تجاوزت في مجملها 561 عرضا خلال مسافة زمنية لم تتجاوز عاما واحدا هو عام 1897.
وفي بداية القرن التاسع عشر توالت الوفود الأجنبية الى المغرب خاصة منها الفرنسية وواصلت الكاميرات الزحف الى جانب الدبابات وقبلها البوارج البحرية لتصوير المجازر وسقوط المدن والقرى المغربية على أيدي القوات الفرنسية. ومع توقيع معاهدة الحماية عام 1912 أكد الماريشال ليوطي انه: ” لا يمكن لأحد الشك في النتائج المثمرة التي نتوخاها من توظيف السينما كأداة للتربية”!
وبدأت الإدارة الفرنسية الاستعمارية، منذ عام 1944 محاولة لخلق هوليوود على الارض المغربية كان من أهدافها الأساسية منافسة السينما المصرية وصنع سينما شعبية تجارية تدخل في سياق المشروع الاستعماري وهدفه التطبيع الثقافي مع فرنسا المحتلة.
لكن حلم هوليوود هذا تبخر وحكم عليه بالفشل ليبقى المغرب، بعدئذ، مجرد فضاء لكعبة سينمائية يقصدها عشرات السينمائيين العالميين لتصوير أفلامهم، وكان من بينهم اورسون ويلز الذي صور فيلمه “عطيل” ونال عليه السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1952، وجاك بيكر الذي صور فيلمه “علي بابا والأربعون حرامي/ 1954” والفريد هيتشكوك الذي صور فيلمه “الرجل الذي عرف كثيرا/ 1955”.
وهكذا وقع عشرات المخرجين العالميين تحت تأثير سحر جمال طبيعة المغرب التي تتمتع بطقس معتدل ملائم للتصوير في الهواء الطلق والذي تلائم ديكوراته الطبيعية كل القصص والمغامرات كذلك تجعل واحاته وجباله العظيمة وكثبانه الرملية وقصباته التاريخية وأشعة شمسه الجنوبية وألوان فصوله الأربعة تجعل منه جنة عدن سينمائية، تلائم أيضا طموحات ورؤى المخرجين الإبداعية.
(1)
يشكل كتاب “أسئلة النقد السينمائي المغربي” وثيقة ترصد محتوى أشغال ندوة، سبق لنادي ايموزار للسينما أن نظمها، حول تحديد ماهية النقد ومدى تجانس ممارسته لدى النقاد المغاربة ومعناه ومدى تطور مشروعيته، كذلك شكل موضوعه اللقاء المنظم في إطار فعاليات الدورة ال13 لمهرجان السينما الإفريقية في بخريبكة في يوليو 2010 .
يحتوي الكتاب على مداخلات النقاد السينمائيين مولاي إدريس الجعايدي “الكتابة النقدية- تحديد المفهوم”، وأحمد سيجلماسي “ملاحظات وتساؤلات حول النقد السينمائي المغربي”، ومحمد اشويكة “النقد السينمائي بالمغرب في حاجة الى نقد النقد”، ومحمد البوعيادي “تأملات حول سؤال النقد السينمائي المغربي”، وحميد اتباتو “النظرية في الممارسة النقدية السينمائية- كتابة مولاي إدريس الجعايدي نموذجا”.
ولد النقد الحقيقي على يد كتاب نشروا كتاباتهم الأولى في منابر ناطقة بالفرنسية، وكان له ارتباط وثيق بحركة الأندية السينمائية التي انطلقت على يد الفرنسيين، قبل أن تتمغرب في السبعينيات من القرن الماضي.
ومع أن لغة المستعمر الفرنسية كانت اللغة السائدة في كتابة النقد السينمائي، إلا أن النقد واظب على ولائه حتى في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث استمر طغيان اللغة الفرنسية على الكتابات.
ليس من السهل العودة الى مصادر النقد السينمائي في غياب تجميع نصوصه المكتوبة والمنشورة على امتداد ما يقارب نصف قرن، إذ أنه تَبلوَر في بدايته الحديثة، شفهياً، داخل الأندية السينمائية التي نشأت من خلال ضرورتها الاجتماعية والثقافية.
وما زلنا نجد اليوم أن النقاد لا يمارسون النقد كمهنة، بل يمارسوه من باب حب السينما، خصوصا وأن أغلبهم جاء من أصول علمية وأكاديمية متفرقة، وبدأت ممارسته للنقد كهواية بتأثير لواء الجامعة الوطنية للأندية السينمائية وجمعية نقاد السينما وانطلاقا من وعيه بأهمية النقد السينمائي وفعالية قيمته في المجالات الاجتماعية والثقافية والإبداعية.
ورغم أن النقد، حسب النقاد أنفسهم، ما زال يتأرجح بين الهواية والاحتراف. ورغم أنه على مستوى الكم ما يزال ضئيلا، غير أن أغلبه يظل “رائدا على مستوى الكيف” بفضل انفتاحه على مناهج ومدارس وتيارات فنية وفكرية حديثة كالبنيوية والسيميائية والسوسيولوجا وعلم السرد.
يصنف الناقد محمد أشويكة مسار النقد وخطابه الى أصناف الى أربعة أصناف: نقد سينمائي وصحافي وأكاديمي والكتروني، الأول يتسم بطابع إخباري سريع، والثاني معرفي علمي متنوع ينتجه باحثون وأساتذة ومستواه النظري يرجع الى تأثره بالنظريات والأجناس الأدبية الطاغية ومن ينتجه لا يتمتع بخبرة مهنية، والثالث شفهي تقنيوي ينتج خلال التظاهرات والمهرجانات وفي بعض الأندية السينمائية، والرابع في المواقع الالكترونية وهو انطباعي يتسم بالإنشائية وبجمع المعلومات من هنا وهناك. كما يصنف الناقد محمد البوعيادي النقد أيضا في ثلاثةتصنيفات يطلق عليها نقد شفوي ونقد صحافي ونقد ذو نفس تحليلي وتأويلي.
من المفارقات العجيبة انه في الوقت الذي كان المغرب ينتج عددا محدودا من الأفلام كانت المواكبة النقدية تفوق بكثير حجم ذلك الإنتاج، أما في العشرية الأخيرة 1999- 2009 وهي تتميز بزيادة ملحوظة في عدد الأفلام المنتجة: في السنة ينتج أكثر من عشرة أفلام طويلة وحوالي 150 فيلماً قصيراً ومتوسطاً، إلا أن المواكبة النقدية للأفلام، عموما، تتراجع بشكل ملحوظ.
(2)
كتاب الناقد المغربي محمد أشويكة “رهانات الحداثة ووعي الذات في مسار السينما المغربية” يسلط الضوء على بعض إشكاليات السينما المغربية وقضاياها ولا يتناولهما اعتمادا على منهج واحد لأنه يجد مرجعيات مخرجيها الفكرية والإيديولوجية مختلفة ومتضاربة وأفلامهم، حتى أفلام المخرج الواحد، عسيرة على المقارنة.
فصول الكتاب الأربعة حول النقد وجماليات السينما الروائية والوثائقية، وحول المُكوِّن الشعبي في السينما المغربية وسينما المخرجات المغربيات. ولاشك أن دراسته المميزة والتي تلفت النظر هي حول جماليات “المونتاج” في السينما المغربية، التي تاتي في نهاية الفصل الثاني: كيف يولِّد المونتاج الجمال في الفيلم المغربي؟ وكيف هو دوره في عملية انجاز الفيلم الفنية؟ وهل يمارس “المونتير” وظيفة خلاقة حقاً في الفيلم؟
لماذا المونتاج؟ لأن المونتاج يمارس تأثيره القوي على المشاهد وتشكل أساليبه وطرقه الحد الفاصل بين السينما التجارية والسينما الثقافية.
أن المرور من صورة الى صورتين يرتبط، حسب كريستيان ميتز، أو عملية تقابل اللقطات وصراعها، حسب ايزنشتين، أو التزامن بين اللقطات/ المشاهد، حسب بازان، هو ما يولد الدلالة في السينما والمعنى، ويصنع لغتها وتأثيرها القوي في المشاهد. ولنذكر بهذا الخصوص مثال إيزنشتين الشهير حول تجاور الصور: لقطة امرأة متشحة بالسواد تقابل لقطة قبر تدل على تصور جديد: أرملة. أي تعميم بصري وصورة ذهنية جديدة.
ولقد تطور منهج المونتاج تاريخياً الى أسلوبين يختلفان ويتحدان: أسلوب المونتاج الأفقي ويعني كل أشكال تجاور الصور، وأسلوب المونتاج العمودي ويعني كل أشكال التداخل الزمني في الصور، النتيجة عملية بنائية مركبة أفقية وعمودية لعناصر سمعية/ بصرية في ما بينها، ومع كل عناصر التعبير الفيلمية الأخرى.
كيف تسير الامور إذن، في السينما المغربية؟
تشكو صناعة السينما في المغرب من نقص كبير في عدد العاملين في مهنة المونتاج الفنية فاغلب من يعملون في هذه المهنة تعلموها بأنفسهم وليس عن طرق دراسة أكاديمية، وهذا يدفع أغلب المخرجين الى الاستعانة بخدمات اختصاصي مونتاج أجانب، الذين يتعاملون مع المادة الفيلمية في الأساس، بشكل حرفي تقني.
يشير اصطلاح ” لقطة عامة”، و”لقطة متوسطة”، و”لقطة قريبة” مع تنويعات كل منها التفصيلية إلى المسافة التي تفصل ما بين الموضوع المصور وآلة التصوير، وبهذا يعيد المونتاج إنتاج قوانين المكان والزمن الواقعيين ويعطي السينمائي إمكانية كسر قوانين المكان والزمن بما يتناسب وهدفه السردي الخاص.
تقتصر المعالجة الإبداعية للمشاهد، معالجة المخرج للمشاهد وفقا لـ”طغيان” اللقطات العامة والمتوسطة اللتان تشكلان “عائقا” أمام عملية المونتاج الفنية. ويقتصر أيضا مونتاج الأفلام، مع استثناءات قليلة، على السرد التعاقبي بحيث لا نرى إلا في النادر من المونتاج المتوازي الذي يمكن أن يُغني، فنياً، عملية المونتاج.
ترتبط خصيصة الفيلم الجمالية من ناحية تعلقها بإيقاع الفيلم بثنائية حوار الممثل وجمالية الديكور، وتسلط الممثل في أفعاله وحركاته وحواره، الذي يشغل في كل فيلم مغربي حيزاً كبيراً، على بناء إيقاع الفيلم ويتحكم في استمراريته البصرية وبلورة تسلسله الدرامي. النتيجة أن يتحول الفيلم الى مشهدية حوارية “متوالية بامتياز”.
هذا على صعيد شريط الصورة أما على صعيد شريط الصوت فان السينما في المغرب تعاني نقصاً في وجود مهندسي صوت أكفاء. لهذا يلجأ المخرجون الى تسجيل الصوت بشكل يتزامن مع تسجيل الصورة أثناء التصوير. وهم إذ يتداركون سد الفراغات في شريط الصوت، الذي يشغل فيه الحوار الحيز الكبير، يستعينون بالموسيقى فقط.
عسى أن تنفع دراسة شويكة، كنموذج أولي، عن دور المونتاج في السينما المغربية، في لفت أنظارنا، نقاداً وباحثين، وتحفيزنا على دراسة البنية العميقة للفيلم العربي من أجل الكشف عن أسباب تعثر سرده وفقر أساليبه الفنية؟
(3)
يعد إقليم ورزازات والمناطق التابعة له والمحيطة به من أهم الفضاءات السينمائية التي تحتضن سنويا العشرات من المشاريع الفيلمية الأجنبية. فمنذ عام 1939 الى عام 2003 تم تصوير- كليا أو جزئيا – 224 فيلما كان من بينها لورنس العرب لديفيد لين وأوديب ملكاً لبازوليني والإغواء الأخير للسيد المسيح وكوندون لمارتن سكوركيزي وشاي في الصحراء لبرتولوتشي.
تعتمد الأفلام الأجنبية المصورة بالمغرب أساسا على تقنيين وفنيين وممثلين أجانب إلا أنها تستعين أيضا ببعض الفنيين والتقنيين والحرفيين المحليين لكنها تعتمد، أساساً، على مجموعات بشرية كبيرة أضحى قسم هام منها متخصصين ومتفرغين للعمل ككومبارس، فمثلا تطلب تشغيل جموع بشرية تجاوز عدد أفرادها خمسة آلاف فرد، في مشهد واحد من فيلم المصارع أو “جلادياتور”. وقد تم تشغيل أكثر من خمسين ألف كومبارس منذ عام 1998 حتى عام 2001 .
لقد صور المخرج المغربي علي الصافي الكومبارس في فيلمه الوثائقي “سينما ورزازات” وكيف يتم جمعهم في أماكن معينة ليشحنوا داخل حافلات الى أماكن التصوير، رجالاً ونساء أطفالاً وشيوخاً يعملون ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة صيفا والبرد القارص شتاء دون توفير أي إجراءات صحية لهم. وأحيانا لا يكفي ما يتقاضاه كومبارس واحد لمراجعة الطبيب وشراء الدواء. لكن رغم كل معاناة الناس فان الفقر والحاجة تدفعهم الى العمل في التصوير بل تدفعهم حتى الى دفع اتاوات الى السماسرة والوسطاء ليتم تشغيلهم.
ويكتب المؤلف عبد الإله الجوهري: أن هوليوود هذه كـ”عاصمة سينمائية” أضحت تحت رحمة السماسرة والمرشدين السياحيين المزيفين وتدخلات بعض رجال السلطة. وعندما نعاين لائحة الفيلموغرافيا السينمائية المصورة في المغرب نجدها تسير على خطى الأفلام ابان الحقبة الاستعمارية حيث يتم التركيز على الوجوه القبيحة والأزقة الضيقة والعادات والتقاليد المثيرة من خلال مضامين مسيئة للمغاربة والعرب وشعوب البلدان النامية وهي أفلام تدخل ضمن ما اصبح اليوم يسمى في الأدبيات النقدية أفلام الكولنيالية الجديدة.
كتابة عبد الإله الجوهري في “ورزازات فضاء للسينما” هي كتابة تَصف وتَخبُر وتُوَجه وتُعَرِّف. انه بحق كتاب مونوغرافي ونقدي وجمالي، لا يكشف أسرار المدينة فقط إنما يعرف أيضا بثرائها الثقافي والجغرافي والاجتماعي في آن واحد.