“ثريا” أو الفتاة التي أحبت الأبدية

أمير العمري
فيلم آخر مصري قصير، يسير على نهج الأصالة السينمائية التي أبدعت في الماضي عشرات الأفلام الجيدة التي تستمد موضوعاتها من التراث الشعبي.
الفيلم هو “ثريا” أول أفلام المخرج الشاب أحمد بدر كرام، وهو دون أدنى شك، يكشف عن موهبة أصيلة، وفكر سينمائي يتمتع بالثقافة والعمق، والرغبة في تقديم سينما تفكر، سينما مستمدة من حياة المصريين، من الماضي ومن الحاضر، ليس مهما أن ترفع سيف النقد الحاد للمجتمع أو للظاهرة الاجتماعية بقدر ما يهم التوقف أمام الظاهرة بصدق، ورصد معالمها، من خلال أسلوب رصين، متمهل، يهتم كثيرا بالحركة، بالمكان، بالضوء، بالتكوين، وبالبناء. ولكن قبل كل شيء، لدى المخرج موضوع، أو قصة يكمن في جوفها موضوع، فكر، أي أنه لا يحلق في الفراغ، ولا يشغلنا بمساحات خاوية، ولا يقفز بين اللقطات، من دون أن يكون لديه شيء يعبر عنه “دراميا” و”بصريا”.

من البداية، ومن خلال سطر يظهر مكتوبا على الشاشة، يخبرنا كرام أن موضوعه مستمد من الواقع، من حقيقة أن “هناك عشرات الفتيات يفقدن حياتهن سنويا خلال عمليات التنقيب عن الآثار”. وهي عبارة مثيرة، تدفع إلى التفكير والتساؤل: كيف وأين؟ والإجابة ستأتي في طيات الصور التي ستتعاقب من خلال بناء الفيلم.
قدمان تجريان وصوت أنفاس لاهثة، ثم تنهض “ثريا” من نومها مفزوعة على صوت ينادي اسمها. من تكون ثريا، ومن الذي يناديها، وما العلاقة بينها وبين المكان الغامض المظلم الذي رأيناها تجري فيه وشعرنا بها وهي تلهث واستمر لهاثها بعد أن نهضت فجأة من الكابوس؟
يضع كرام على الشاشة تعويذة من كتاب الموتى تقول كلماتها: “أيا حراس البوابات.. لقد شققت طريقي إليكم.. أنا مثلكم بزغت إلى النهار.. حيثما يسير المتلألؤن في الضوء”.
الموضوع إذن ذو علاقة بالموت، ولكننا سرعان ما نعرف أنه مرتبط أيضا بالتضحية، بالقربان الذي يعتقد ورثة المعابد والآثار الفرعونية القديمة، أن من الضروري تقديمه للآلهة التي تحرس المقابر، لكي تفتح أمامهم المقبرة التي يرغبون في النفاذ إليها، ونهب محتوياتها.

من هي الضحية التي يجب تقديمها هنا؟ إنها ثريا نفسها. فعمدة القرية الصعيدية، يقول لوالدها “قناوي” إن من الأفضل له أن يحافظ على ولده “علي” المريض الذي نراه مستلقيا على الفراش، لأن من الممكن أن يعالج ويسترد عافيته ويصبح الامتداد الطبيعي للأب وللعائلة، أما الفتاة، فلا خير فيها ويمكن التضحية بها، أي تقديمها قربانا للإله حارس المقبرة التي يحاول الرجال فتحها، ولكنهم يلقون مقاومة من الحجرة الضخمة التي تسد بابها والتي يعجزون عن زحزحتها من مكانها. وإن كان بدر كرام شاء ألا يصور بشكل مباشر هذا التفصيل لأن جوهر اهتمامه ليس المقبرة بل البشر، الأرواح، الموروث الفكري، والحياة.
موضوع العيش على تراث الأجداد، سبق أن تناوله من قبل فيلمان من الأفلام الروائية المصرية البديعة هما “الجبل” لخليل شوقي، و”المومياء” لشادي عبد السلام، كل بطريقته الخاصة. ولا شك أن أحمد بدر كرام هو الابن الشرعي لهذه السينما، والامتداد الطبيعي للفكر السينمائي الذي عبر عنه مخرجا الفيلمين. ولكنه يمتلك أيضا أدواته، وأسلوبه السينمائي الخاص، الذي يروي من خلاله قصة، ويصور شخصيات من لحم ودم، قريبة منا ومن عالمنا ودنيانا، من دون تحذلق أو افتعال. وهو لا يلجأ لأسلوب الحكي المباشر بل من خلال لغة شعرية يلفها سياج من الغموض البديع.

نحن مثلا لا نعرف ما هذه القرية وفي أي زمن تجري الأحداث، ونساء القرية يتحدثن عن جثة عثر عليها ملقاة في الجبل وقيل إنها من ضحايا تجار الآثار.. وخال الفتاة، يحدثها بل ويمنحها كتابا يقول إنه موروث من مصر القديمة لعلاج المرضى.. كما يمنح ثريا هدية حصل عليها من أحد تجار الآثار الأجانب، ويروي كيف أن الرجل قال له إنكم لا تحترمون تراثكم لذلك فأنتم تائهون.. وهناك أيضا الكثير من التفاصيل الجيدة التي يمكن أن تمتد إلى فيلم روائي طويل لو تم تعميقها ومدها ووضعها في سياق روائي أكثر تعقيدا. لكن هذا ليس معناه أن فيلم “ثريا” القصير لا يتمتع بالتماسك في البناء، فهو كذلك، في حدود الاختيارات الدقيقة للصور والمشاهد التي صورها كرام مع طاقمه.
إنه يعرف كيف يستخدم الغناء الشعبي الصعيدي والفولكلور دون أن يتورط في التعبير السطحي الفولكلوري عن الواقع، عن القصة التي تبدو لنا أقرب إلى الأسطورة. وكذلك يستخدم “التعديد” على الموتى، دون أن يستطرد كثيرا لكي لا يحيد عن موضوعه، ويعبر عن المأزق “الوجودي” الذي يفرض نفسه على الأب، ويضعه أمام اختبار شديد القسوة: هل يضحي بابنته الشابة البريئة ويقدمها كقربان مقابل الثراء المنتظر من نهب المقربة الفرعونية وبيع محتوياتها للتاجر الذي ينتظر إشارة من القبيلة، وبالتالي يتاح له علاج ابنه في الخارج؟ أم يتمرد على التقاليد الموروثة، يرفض الانصياع والإغراء ويحافظ على حياة ابنته، وليكن ما يكون؟
لكن “الأب”- البطريرك خاضع أيضا للموروث، إنه يرفض أن تقوم ثريا بالعمل في الحقل بدلا من ابنه “علي” الذي يرقد مريضا عاجزا، فماذا يمكن أن يقول الناس عن الرجل؟ إنه جعل ثريا تعمل بدلا منه ومن ولده؟ قلبه مع ابنه، لكن حبه للفتاة أكبر كثيرا من أن يسمح له بأن يضحي بها.
ثريا نفسها، تحاول الإفلات من مصيرها، لكن ربما أن الأقدار وحدها هي التي ستدخر حياتها في نهاية المطاف، ولكن العذاب سيستمر، والتساؤل سيبقى حتى بعد أن ينتهي الفيلم القصير البديع الذي يقع في أقل قليلا من 15 دقيقة، وفي رأيي الخاص أنه يمكن جدا أن يمده مؤلفه ومخرجه أحمد بدر كرام، على استقامته، ويعمقه أكثر، ويعمق شخصياته ويضيف إليها، في فيلم روائي طويل، فهو يمتلك الأدوات والأسلوب والموهبة.

إنه يستخدم التكوينات البديعة المعبرة (مجموعة من النساء في ملابسهن السوداء- ملابس الحداد، يسرن وظهورهن نحونا، بينما تسير ثريا وهي تواجه الكاميرا أي عكس اتجاههن ثم تتوقف لبرهة وهي تحمل الكتاب الذي منحه لها خالها وتتطلع إلى الوراء، إلى النسوة قبل أن تواصل سيرها).
وهو يستخدم الانتقال في الصوت قبل ظهور الصورة. وهو أسلوب يخلق امتدادا مقصودا في العلاقة بين المشاهد.. ويستخدم في غالبية المشاهد، اللقطات الثابتة الطويلة، لكنه ينتقل أيضا في مشهد مليء بالشعر والجمال، على خلفية لأغنية صعيدية شعبية، بعد أن تحصل ثريا على تلك “الهدية” التي هي عبارة عن شيء يشبه البلورة، تناجيها ثم تخرج الى الحقول وتتطلع إلى الأشجار وترفع يدها وكأنها تناجيها في طقس سحري، لتتحرك الكاميرا ترصد لنا فروع الأشجار وهي تتمايل مع دقات الطبول وصوت المزمار الشعبي الشجي. إنه مشهد قد يكون خارج الواقع، من الخيال، إلا أنه من قلب الفيلم وروحه.

ينتقل الفيلم من الموسيقى ذات النغمات الراقصة وثريا تتطلع إلى الأشجار وفروعها المهتزة وهي تتمايل في أعلى، إلى مشهد الدفن والتعديد.. واللقطة مأخوذة من زاوية مرتفعة، وثلاث مجموعات من النساء يفترشن الأرض تفصل بين كل مجموعة منهن مساحة محسوبة جيدا، ثم يدخل صف من الرجال على الجانب، من خارج دوائر النساء، وتنهض النساء وهن مازلن يعددن ويبكين، ويسرن بجوار الرجال ويخرجن من الصورة، ثم في لقطة بديعة من خلال زجاج نافذة نرى ثريا وهي تتطلع على خلفية أغنية شجية من تلك التي ترددها الفتيات.. لم أستطع أن أتبين كلماتها، لكن هذا ليس مهما، فالمهم ما تضفيه من جو خاص على مشهد الدفن بعد ذلك. في هذا المشهد من حيث البناء والتكوين، تتضح مهارة كرام في التعامل مع الصورة ومكوناتها (الميزونسين) والتحكم في الحركة، والمونتاج، أي الانتقال بين اللقطات في بناء شعري لا يحتاج إلى أي حديث أو شرح أو استطراد. فاستخدامه للصوت والصورة يعبر عن روح المشهد بل وعن روح الفيلم كله.
إن كل لقطة من لقطات هذا الفيلم مدروسة بعناية شديدة من الناحية التشكيلية، ومع المخرج مصور واثق فاهم هو أحمد لبلب، الذي يعرف كيف يتعامل وينتج صورا تفيض بالشعر والجمال من دون أن تستغرقنا بعيدا عن الموضوع والشخصيات، باستخدام بارع لمصادر الإضاءة الطبيعية: المصابيح الصغيرة المعلقة على الجدار والمصباح الصغير الذي تحمله في يدها ثريا وتسير به، وكتل النار المشتعلة حيث يتجمع الرجال الذين سيحاولون فتح المقبرة. والتردد والوجل يجعل الرجال يتطلعون يجمدون في أماكنهم. فالمطلوب ضحية لتقديمها لحارس المقبرة.
“ثريا.. الفتاة التي أحبت الأبدية”.. هو انتصار للسينما وللجمال.. في الصوت وفي الصورة.