تعال نحو الضوء.. أفلام فيكتور إيريثه
فيكتور إيريثه أخرج ثلاثة أفلام طويلة خلال ثلاثين سنة، تفصل بين الفيلم والآخر عشر سنوات تقريباً. إن مسيرته الفنية، في اقترابها المدروس والتأمليّ من السينما، إضافة إلى قلة الإنتاج، يمكن مقارنتها بمسيرة الدنمركي كارل دراير والأميركي تيرنس ماليك.
الصلات مع أعمال هذين المخرجيْن الرائييْن العظيمين لا ينحصر في هذا فقط. مثل ماليك ودراير، إيريثه هو المخرج السينمائي الذي يسبر بيئته ومحيطه عبر التكوينات الدقيقة، الغنائية، المليئة بالضوء. هو أيضاً يقدّم شخصيات متعذّر فصلها عن، أو منغرزة في، أزمنة وأمكنة ولحظات تاريخية خاصة. أول فيلمين له (كما الحال مع ماليك) يقدّمان شخصيات أنثوية قوية، ومحورية بنائياً، تصوغ هويتها ضمن المحيط الذكوري (النضال الذي غالباً ما يقدّم نفسه كفعل كلام، فعل إيجاد صوت). ومثل ماليك، إيريثه في فيلمه الثالث “شمس شجرة السفرجل” يتحرك بعيداً عن “الذاتية” الأنثوية ليستكشف الحقل الذكوري في الفن الحديث.
مع إن أفلامه مركّبة على نحو بارع، إلا أن إيريثه يصوّر بطريقة والتي، مثل ماليك، تستجيب إلى إمكانيات الصوت – الصورة، والمصادفات التي تنبثق في موقع التصوير.
على الرغم من أنه كان يكسب رزقه من كتابة النقد السينمائي، وكتابة السيناريوهات، والإخراج التلفزيوني (إضافة إلى تنفيذ عدد كبير من الإعلانات التجارية) إلا أن المرء يفضّل أن يتخيّل، أو على الأقل يتصوّر بيسر، أن أفلامه هي نتاج عملية عميقة، ممتدة، من التأمل، من الإتساق، حصيلة ازدياد التفاصيل، الملاحظات الدقيقة المرصودة عبر فترة زمنية.
ليس من المثير للدهشة توجّه إيريثه مباشرةً إلى موضوع الرسم (والرسام) في “شمس شجرة السفرجل”، جاعلاً منه موضوعاً ظاهرياً للفيلم، مبيّناً من خلاله إنشغاله الكامل بالضوء، بالتفاصيل المتعلقة بالرصد، بتحوّل الأنماط، والإختلافات التي يُحدثها مرور الزمن. شكلياً، الفيلم يحتوي على أكثر الإحلالات dissolvesتباطؤاً في تاريخ السينما.
في “شمس شجرة السفرجل”، سينما إيريثه أيضاً تتحرك مقتربةً من سينما عباس كيارستمي، مازجاً معاً بنى قصصية محدّدة مع المادية الوثائقية للحياة اليومية، والشخصيات والحالات الواقعية. والفيلم كذلك يجلب إلى “السطح” العديد من الإنشغالات التي تحدّد فيلميه السابقين، من ضمنها الإفتتان بالخاصيات التشكيلية للضوء، والرصد المدروس.
فيلم “شمس شجرة السفرجل” يطلب منا بلطف أن نتأمل الصلة القوية، لكن المشتّتة إلى حدٍ ما هنا، والإختلاف بين الرسم والسينما. نحن نشاهد رساماً (أنتونيو لوبيز غارثيا) يحاول أسْر حركة الضوء فوق أوراق الشجرة، وثمرة شجرة السفرجل النامية باستمرار، بينما صانع الفيلم يحاول أن يوثّق العملية الديناميكية للخلق والتخيّل فيما يعرض لنا، على نحو متزامن، النشاط الرائق لرسم المنظر الطبيعي.
على نحو محتوم، الفيلم لا يستطيع الإمساك بما يكفي من التفاصيل، ولا يستطيع أن يبلور نشاط الرسام في صورة ختامية أو محدّدة، بينما الرسم يفقد ديناميكية الضوء (والحياة) في عملية إيداع الشجرة في الكانفاس. مع ذلك، كلاهما، الرسم والسينما، يسلكان طريقاً ما نحو أسْر جوهر موضوعه. هذا التوتر بين وسط الحركة (وبالتالي الزمن) والثبات أو الدوام (وبالتالي مفهوم مختلف للزمن) يتملّك سينما إيريثه. الزمن وتسجيله يمكن رؤيتهما كفكرة مهيمنة متكررة لسينما إيريثه. الزمن الذي يراه إيريثه كمستوطن للخلق الفني نفسه: “الزمن حاضر في كل عمل من أعمال الخلق الفني لأن البشرية تنشد البقاء والدوام”. لكن مثل عمل الرسام، سينماه هي أيضاً تتّبع العملية ذاتها، ما تأسره لحظةً لحظةً هو هام كما النتائج الغامضة.
لقطة من فيلم “شمس شجرة السفرجل”
يقول فيكتور إيريثه: “كل شخص لديه القدرة، داخل ذاته، على الخلق وإعادة الخلق. والفيلم لا يوجد ما لم يشاهَد. إن لم تكن هناك أعين للنظر إلى الصور، فإن الصور لا توجد. عندما أنتهي من تنفيذ فيلمٍ، فإنه لا يعود فيلمي. إنه ينتمي إلى الناس. لستُ إلا وسيط في العملية”.
في هذا يشير إيريثه إلى الخاصية التجريبية لعمله، إضافةً إلى عمليات الخلق والتخيّل التي تشجع عليها أفلامه. في سينما إيريثه، هذه الفكرة تؤخذ إلى ما وراء أشكال التعبير الفني الأكثر جلاءً والمتمثلة عموماً. في فيلميه “روح خلية النحل” و”الجنوب”، يتتبّع إيريثه شخصيات تخلق فهماً للعالم من مواد غالباً ما تكون متشظية ومتنافرة أو غير متماسكة، والتي تأتي إلى عالم تجاربهم.
“روح خلية النحل” فيلم يدور عقب الحرب الأهلية الأسبانية.. “حدث ذات مرة.. في مكان ما من سهل كاستيلا في العام 1940” (وهو العام الذي شهد ولادة إيريثه).. ولعلها مصادفة، لكن أن تدور الأحداث في هذا العام إشارة إلى التعالق الملائم لفيلم يعنى صراحةً بجذور الخلق، والإدراك الحسّي، والهوية.
الفيلم ليس عن الواقع التاريخي الواسع لتلك المرحلة وأحداثها بقدر ما هو عن التأثير المادي، التجريبي، لذلك الواقع، على الأفراد والتجمعات المعزولة. شخصيات الفيلم نادراً ما تكون مضادة ومخالفة. إنها إنطوائية، إنعزالية، وتجد الإحتلال في أشكال عديدة مما يمكن أن يُطلق عليه التجريد المجازي: الإستحواذ الميتافيزيقي عند الأب مع النحل. رسائل الأم غير المفسّرة إلى عشيق ما. إنتحال الصغيرة لصورة وحكاية مخلوق فرانكنشتاين المسخ لإختبار إحساسها البازغ بالهوية، بالإختلاف، والفناء. هذه الجوانية، والألم الذي تعبّر عنه، بالإضافة إلى الأسرار التي لا تفشيها أبداً، والأصداء الغامضة التي تخلقها، يمكن أيضاً أن تُرى كموضع سياسي للفيلم.
بالمثل، في فيلم “الجنوب” نحن نشاهد مجموعة من الأفراد المنفصلين عن بعضهم البعض، الذين يحاولون التعامل مع ميراث الماضي: الحرب الأهلية والإنقسامات التي أحدثتها ضمن العائلات وبين الأجيال.
مع أن هذا الفيلم نسخة مختصرة إلى حدٍ ما من رؤية إيريثه الأصلية، حيث كان يتصوّر أن تدور مشاهد القسم الختامي من الفيلم في الجنوب، إلا أن رفضه للإنتقال خارج المجتمع الشمالي المعزول الذي تقطن فيه العائلة، في ما يشبه المنفى، يدع الإحتمال مفتوحاً على عمليات التخيّل والذاتية الخلاقة التي تحدّد عمل إيريثه (إضافة إلى شخصياته).
في أحد المشاهد، نرى إستريلا، الفتاة التي هي “بؤرة” القصة، تستخدم الأشياء المادية التي تحيط بها لخلق فهمٍ ومعنى لعالمٍ لا يمكن تصوّره يكمن وراء تجربتها المباشرة. لأن والديها نادراً ما يناقشان الماضي، فإنه يتعيّن عليها أن تستنتج من الصور الملوّنة باليد، القديمة الطراز، التي تجدها في ألبوم العائلة، أو تتخيّل عشيقة أبيها من بطاقة الردهة التي تلتقطها في صالة السينما (كما في “روح خلية النحل”، السينما موظفة كوسيلة لتنشيط المخيّلة، ولخلق هويّة). عوالم أفلام إيريثه تنبثق كمجموعة من العلامات المترابطة والمنفصلة – السمعية والبصرية – التي تساعد الشخصيات على الوجود.
المظهر والصوت في أفلام إيريثه هما غالباً أكثر الميزات روعةً وقوة. الأصوات هنا معزولة، تكتنف العمل ربما من دون أن تكشف مصدرها. هذه الأصوات غالباً ما تنتاب الشخصيات وتزعجها. وهي توحي بعالم يوجد خارج الكادر. هذه سينما مليئة بالكادرات ضمن الكادرات، مداخل، نوافذ، مجازات للشراك. أصوات تأتينا في هيئة طلقات، نباح كلاب، صفير قطار، محرّك سيارة. الصوت غالباً ما يظهر كموقع للخيال والمجهول، منبّه لعمليات الخلق، الذاكرة، وتشكّل الهويّة.
كل الأفلام الثلاثة تحتوي مشاهد فيها الشخصيات تحاول أن تفسّر مشاعرها وأفعالها ووضعها في العالم. هذه اللحظات بالكاد تكون لافتة للنظر لكن لها خاصية غريبة واستثنائية في سينما إيريثه. في “شمس شجرة السفرجل”، هذه المشاهد تعمل غالباً كشروحات مبهجة للفعاليات الإبداعية اليومية التي نراها، فيما يعرض كل من “الجنوب” و”روح خلية النحل” كيف تستخدم الشخصيات الكلمات -المكتوبة أو المنطوقة – للتعبير عن وجودها أو عن عالم هم بعيدون عنه بسبب الإقصاء. هذان الفيلمان يصوران مشاهد يظهر فيها أشخاص يكتبون إلى أحبّاء غائبين منذ مدّة طويلة (أو ربما هم وهميون، غير موجودين)، بينما تعزيم الصغيرة آنا – حين تقول “أنا آنا” – في “روح خلية النحل”، هو الذي يساعد في بلورة رحلة الهويّة والوجود التي تشرع فيها.
لقطة من فيلم “روح خلية النحل”
الصوت أيضاً يربط هذه الشخصيات بطريقةٍ والتي تقاوم، أو تعطّل على نحو طفيف، عزلتها الفيزيائية. في بداية “روح خلية النحل”، الشخصيات الرئيسية معروضة في عوالمها الخاصة: الصغيرة آنا وأختها إيزابيل تشاهدان فيلم جيمس ويل “فرانكنشتاين” (المنتَج في 1931)، الأم وهي تكتب رسالة، الأب محبوس داخل الملابس الخاصة بتربية النحل. إنه التسجيل الصوتي الخاص بفيلم “فرانكنشتاين” الذي ينساق خارج صالة السينما، التي هي بمثابة المجتمع البديل المؤقت.. هذا التسجيل الصوتي يبدأ في ربط تجارب الشخصيات المتعددة معاً.. (الصوت الذي هو أجنبي ومألوف في آن، القادر على أن يطفو بين الأماكن، هو خارق للطبيعة).
إفتتاحية “روح خلية النحل” تقول لنا أيضاً الكثير عن عزلة الشخصيات ومحيطها، بالإضافة إلى التأثيرات المتعددة التي تمارسها الصور المعزولة عن بعضها، الأصوات والنتاجات الثقافية الإصطناعية، على الناس. في سينما إيريثه، هذا يمكن تمديده نحو فهم المجتمع الأسباني على مستوى عام أكثر.
إن استخدام فرانكنشتاين في “روح خلية النحل” يخبرنا الكثير عن كيف ينظر إيريثه إلى السينما وقوتها. مع أن أفلامه على نحو صريح مبنية على الصوت، إلا أنها أيضاً ترجع إلى العلاقات التعبيرية بين الصوت والصورة الممكنة في السينما الصامتة (وبعض الأمثلة من بدايات السينما الناطقة أيضاً). في نواحٍ عديدة، إنها سينما مورناو، المختلفة جذرياً، التي تلقي الظل الأعظم على أعمال إيريثه (مثلما تفعل مع تيرنس ماليك). هذا جليّ أكثر في المزيج بين الوثائقي والقصصي الذي نجده في فيلم مورناو “تابو” (1931) و”شمس شجرة السفرجل”. لكن أيضاً يمكن إيجاده في الإنشغال الكلي بخاصيات الضوء، والإمكانيات التعبيرية للصوت.
ما هو ملحوظ أكثر بشأن خاصية سينما إيريثه هو بُعدها البصري. يهيمن على أفلامه تجاور اللقطات الطويلة والصور الموجزة، أو التابلوهات، المضاءة والمركّبة على نحو جميل. كاميرته تتحرك على نحو متقطّع لكن فقط لإعادة تأطير أو متابعة الشخصيات. بالتالي فإن أفلامه لها خاصيّة مدروسة، تأملية، على المستوى التركيبي (إنها مليئة بالتراكيب المعادة، وتتحرك بين الإحساس بالقرب والبُعد).
إن العنصر الأكثر إستثنائيةً للبعد البصري لأفلامه هو خاصيات الضوء التي تأسرها، كما تفعل لوحات فيرمير أو فالازكويز (رغم أنها حديثة، هذا أيضاً يلمّح إلى الخاصيّة السرمدية، المنطوية جزئياً على مفارقة تاريخية، لسينما إيريثه). هذا الضوء غالباً ما يكون جليلاً، أبعاده الفيزيائية تؤثّر في الإدراك الحسّي عند المتفرج، وأفعال الشخصيات على السواء.
قيل بأن مصور فيلم “روح خلية النحل”، العظيم لويس كوادرادو، قد أصبح أعمى فعلياً أثناء تصويره للفيلم (معتمداً على مساعديه في تنفيذ توجيهاته). هذه التفصيلة تخبرنا الكثير بشأن الخاصيات الفيزيائية للضوء في أفلام إيريثه. رغم أنها غالباً ما تكون جميلة على المستوى الجمالي المحض (ضوء الشمعة الذي يومض ويخبو في تلاعب للضوء والظل على سريريّ الطفلتين فيما تتبادلان الحديث الهامس) فإن إضاءة (وألوان) الأفلام عموماً هي أيضاً شيء تشعره مادياً، الخاصية المصقولة للصور تبعث حرارةً، فصلاً (خريفياً على نحو غالب)، حساسيةً. مثل كوادرادو، أعتقد أننا نستطيع أن نشعر بهذا الضوء.
أفلام إيريثه أيضاً توثّق وتحابي التغيّرات الصغيرة في التكوين، وهي التقنية التي يمكن أن تبدو مثل التصوير الفوتوغرافي القائم على مرور الزمن. ومثل العديد من مخرجي السينما الصامتة العظام، إيريثه بارع جداً في استخدام وتوظيف الـ dissolve(إحلال مشهد محل آخر بطريقة تدريجية). لكن في حين تكون لمثل هذه الإحلالات معنى وغرضاً معقّداً في الغالب – كما في أعمال ستيرنبرغ، مورناو، شوستروم – حيث تفرض قراءات معينة قد لا تظهر فوراً على السطح، فإن إيريثه يستخدمها غالباً لتسجيل تغيّرات دقيقة جداً في الضوء والتفاصيل التركيبية. إنها تنقل الإحساس بمرور الزمن – وهو التوظيف التقليدي – لكن على نحو غالب من خلال التغيّرات (المفصلة) الصغيرة في الوضعية، اللون، الإضاءة.
الفيلمان (الجنوب، روح خلية النحل) هما عن الواقع التجريبي للشخصيات، للجماعات، للبلاد.. في حالة عزلة. كلاهما يركّزان البؤرة، بشكل أساسي، على شخصيات أنثوية تحاول أن تصوغ هويتها الخاصة ضمن بيئة قاحلة إلى حدٍ ما.. فاترة وصامتة.
أفلام إيريثه هي أيضاً لافتة للنظر لما توفّره من مساحة لجميع شخصياتها، حتى المرأة التي لا نشاهدها إلا في الفيلم داخل الفيلم في “الجنوب” هي قادرة على التعبير عن نفسها من خلال الرسالة الطويلة التي ترسلها إلى والد إستريلا. هذا الجدل العملي بين كينونات/ شخصيات مميّزة، محددة، والعالم الذي يحيط بها، يقود إلى فهم عام للصلات بين الصور والأصوات في سينما إيريثه. هكذا، رغم أن العديد من الصور والأصوات في أفلامه تبدو أنها توجد جزئياً لذاتها – مؤكدة من قِبل الإستخدام الإعتيادي للتلاشي التدريجي fadeإلى حالة الإظلام، والذي ينزع إلى عزل اللقطات – إلا أنها أيضاً جزء من البناء الغني للتداعيات. في ما يتصل بهذا، أفلام إيريثه باستمرار تشتغل على التوتر بين الحركة والثبات، التنقل والإستقرار، الرصد المنعزل وتضميناته المرئية بالعين المجرّدة.
أفلام إيريثه أيضاً مستغرقة على نحو بارز بالموت. الموت في “روح خلية النحل” و”الجنوب” هو الذي يتيح للشخصيات الأنثوية أن تغامر أخيراً بالخروج نحو العالم. في فيلمه “شمس شجرة السفرجل” يتناول شخصيةً أكثر استرخاءً واعتدالاً. مع أن الرسام هنا يواجه ضرباً من الموت كل يوم في التغيّرات الموسمية لشجرة السفرجل والتي يحاول”أسْرها”، إلا أن هذا فيلم يهتم أكثر بهبّات التغيير والعمليات الدوريّة للتجدّد (التي هي أيضاً ضرب من الموت). عند نهاية الفيلم، الرسام لوبيز يتّخذ وضعية لكي ترسمه زوجته. متمدّداً على السرير، رقاده – وما يمثّله – يوحي بضرب من الموت، تأطير وتهدئة للحظة. مع ذلك، فإن مثل هذه التلميحات بالفناء لا تخبرنا إلا القليل عن الطريقة التي بها تنحسر الحياة وتتدفّق عبر الفيلم. مجموعة من اللحظات، الملاحظات، التأملات، والتلاعبات التي تشكّل الفيلم واللوحة. بدلاً من سبر الفارق بين هاتين الحالتين، أفلام إيريثه تحتل المساحة التي فيها تمتزج الحياة والموت. في ما يتعلق بهذه الخاصية، وخاصيات أخرى، سينما إيريثه يمكن أن تُرى بوصفها واقعة بين فترتين فاصلتين. إيماءات الفيلم الختامية نحو مادية صنع الفيلم (نحن نشاهد الكاميرا وهي تصوّر شجرة السفرجل المضاءة على نحو اصطناعي) والإيقاعات الموسمية للحياة (الشجرة معروضة وهي تجدّد نفسها في فصل الربيع) يمكن اعتبارها كليشيهات تمثيلية. مع ذلك، كلا الإيمائتين تبدوان صحيحتين، وفي انسجامٍ تام مع البساطة والتعقيد الجلييْن في أعمال إيريثه.
فيكتور إيريثه يذكّرنا بحجم ما فقدناه في وقت نشهد فيه انحسار نشوة السينما.
(فبراير 2003)