تداعيات وأفكار وتأملات في سينما الشعر

الحديث عن سينما الشعر هو حديث عن التمفصل بين السينما والشعر. ويحدث هذا التمفصل علي مستوى الصورة. ولفهم كيف يقع هذا التمفصل وما هي الآليات التي تشغله،لابد من الاشارة الى المتخيل الشعري الذي يمتح منه المبدع.  اذا كان المتخيل الشعري يتيح رؤية شعرية فنية عميقة للكتابة، مفادها ان اللغة ليست شكلا يلبس للمعاني، بل هي مادة المعنى ، اذن فالكتابة الشعرية لا تحدث بالكلام ، بل في الكلام، فان الرؤية الشعرية للمبدع السينمائي تجعل الصورة ليست مجرد شكل لعرض الاحداث، وايصال المعاني، بل تصبح الصورة هي مادة المعنى، اذ لا تحدث الكتابة السينمائية بالصورة بل في الصورة، وبهذا توفر البناءات البصرية المطابقة بين الماهية والتعبير. ان الصورة هي انعكاس شعري للحياة نفسها، وبما اننا لايمكن ان نلمس هذا الغنى وهذه الرحابة الفسيحة للحياة، فان الصورة السينمائية تصبح صورة –استعارة . وهذه الصورة-الاستعارة وحدها قادرة على التعبير عن الحياة وتدفقها.   ان جوهر السينما الشعري يكمن في اعتقادي في كونها قدرات فنية هائلة للنظر بعمق في جوهر الحياة، كما ان شاعرية المبدع التي تشكلها مرجعياته والواقع المحيط به، قادرة على الارتقاء فوق هذا الواقع وطرح اسئلة هامةحوله، ولايحدث هذا مع الواقع الخارجي فقط، ولكن مع ما هو موجود في اعماق الانسان  وهكذا اكتشف بازوليني الهاويات السحيقة في اعماقه، والتي رأى فيها القديسين والاشرارعلى حد سواء.  واذا كنا نعرف جميعا ان السينما ظهرت مع فيلم “وصول القطار الى المحطة” للأخوين لوميير ، فإن أندريه تاركوفسكي، شاعر وفيلسوف السينما، يعتبر ان ولادة الفن السينمائي تمت في تلك اللحظة بالذات، حيث ان الامر لايتعلق فقط بوجود تقنية سينمائية واسلوب جديد لإعادة خلق العالم ، وانما يتع- حسب تاركوفسكي – “بولاد “مبدأ جمالي جديد”.  يتلخص هذا المبدأ، في تمكن الانسان، ولأول مرة في تاريخ الثقافة والفن، من العثور على اسلوب يمكنه، وبشكل مباشر من تسجيل الزمن المرئي وتخزينه، مع امكانية عرض تدفقه لمرات عديدة. وبهذا اصبحت الكفاءة الابداعية للفنان السينمائي، تكمن في قدرته على “نحت الزمن” ، أي خلق سيولة زمنية شخصية، مؤلفة من ديناميكية المقاطع والاجزاء المسجلة من الواقع .إن عمل السينمائي حسب تاركوفسكي ، شبيه بعمل النحات، الذي يخلق من أكوام الطين، ومن كتل الصخر، ابداعه الحجمي ذي الابعاد التلاث .وبناء على هذا المبدأ الجمالي، فان شعرية تاركوفسكي، تكمن في اكتشافه لسر تسجيل الزمن داخل الكادر، حيث انزاح عما أسسه معلمه أيزنشتاين على مستوى شعرية المونتاج، فنحت من الزمن سيرورة أخرى تتجلى من خلال مفهوم اللقطة -المتوالية وعمق المجال، الذي غير به طريقة النظر، من خلال تغيير الايقاع الزمني،الذي تجاوز الكرونولوجيا، الى لحظة الديمومة، أي لحظة المكاشفة التي يمتلئ فيها البصر  يطفح فيها الوجدان.  وكمثال على هذا الإنجاز فيل “القربان” لتاركوفسكي الذي استطاع فيه ان يمزج بين الفكر والوجدان لخلق ما سماه هيجل بـ”جماليات الفكر الجميل”، حيث يتغذى هذا الفيلم وامثاله، كما يقول جمال الدين بن الشيخ عن فيلم “طوق الحمامة المفقود” لناصر الخمير، من رؤية شعرية تتحول فيها الاشياء والاشخاص ، الى اشكال متوهجة للمعنى الذي ينكشف كل لحظة، في التواءات الضوء، أو في حركة الريح على وجه الكائنات، أو في دعوة للعيش على شطآن الذاكرة البلورية، من اجل استرجاع القنيطرة في” ليل” محمد ملص، أو من اجل انقاد الأندلس في كل افلام ناصر الخمير، أو من أجل تعزية مصر في موت عبد الحليم حافظ ، في فيلم “نسيم الروح”  لعبد اللطيف عبد الحميد. وفي كل الصور التي ابدعها حكيم بلعباس :في الوجوه والايادي ، في الزمن المعلق في صلاة أب ينتظر، وأم هجرت المرآة الى أن يعود ابنها المختط.    وقد استطاع بونويل ودالي ولوركا ان يحققوا بفيلم “الكلب الأندلسي” ما لم تستطعه السوريالية في عصرها الذهبي .فان السينما مكنت كوكتو، ان يبدع بالصورة السينمائية ما لم يستطعه بالكلمات، أي امكانية تشخيص اللامرئي الذي كان يسكنه.. لقد حاول كوكتو، في شريط “أورفيوس”  تحديث الميثولوجيا القديمة من خلال مجموعة من الانزياحات، فقد اعتمد تيمة المرايا، واظهر وظيفتها الأولى كأبواب تفتح على الماوراء، واستطاع بذلك ان يعبر المرآة ،ويرافق أورفي في هبوطه الى الجحيم ، نحو العالم السفلي، كما استطاع ان يصور الروح ويتصل بها فـ”المنطقة” الوسيط ، التي ينتظر فيها البشر قبل ان يفقدوا عاداتهم كاحياء.  ان قدرة الصورة السينمائية على تركيب الواقع والحلم، يجعلها حسب كوكتو، قادرة على تشخيص حدود الواقع وحدود الحلم والتداخل فيما بينهما. إن هذا “المابين”، حيث تنتمي الاشياء والكائنات، الى نظام العالمين معا.. عالم الحياة وعالم الموت، هو ما يعتبره العقلشيئا متنافرا” .فالاشتغال على هذه الحافة، كموضوع، وبهذه الطريقة وكل ما يستتبع ذالك من رهبة وتهيب، هو جوهر الشعر وجوهر السينما وجوهر الابداع بشكل عام.  واذا كان لا بد أن نخرج بخلاصة لهذه المحاولة ، يمكن ان نقول ان العلاقة بين الشعر والسينما، مبنية على فعل وجود وتجاوز وخلق. فالشعر بالمفهوم الذي قدمناه، ينتشل الصورة من تغريبتها الحدثية ويحررها من وضوحها المرجعي ويعطيها قوة ذلك الطائر “الالباتروس” الذي يهوي الكون بجناحيه، فيخلق الريح التي تحرك السفن وترسم الامواج، وما الأمواج الا تشكيل بصري للريح!  

Visited 36 times, 1 visit(s) today