تحفة مهرجان فينيسيا: الفيلم البرازيلي “أنا مازلت هنا”
أمير العمري- فينيسيا
كان الفيلم البرازيلي “أنا مازلت هنا” Ainda Estou Aqui أحد أهم أفلام المسابقة الرسمية في مهرجان فينيسيا السينمائي الـ81، إن لم يكن أفضلها وأكثرها تماسكا وقوة، سواء من ناحية الكتابة الدرامية والسرد، أو من حيث الإخراج والأداء التمثيلي. وربما كان هذا الفيلم يستحق الحصول على جائزة “الأسد الذهبي”، لولا غلبة الحسابات.
قد يكون الفيلم من ناحية البناء، عملا “تقليديا”، فمخرجه يستخدم مفردات السينما (الكاميرا، تنوع اللقطات، تعاقب الزمن، التراكم في السرد، براعة أداء الممثلين.. إلخ) لرواية قصة ذات أبعاد سياسية، وتوصيل شحنة درامية قوية للمشاهد بحيث تحفر القصة في أذهانهم وتصبح تحذيرا مما يمكن أن يقع في المستقبل مع كل التغيرات التي يشهدها العالم وعرفتها البرازيل أيضا.
وقد لا يكون “الموضوع” جديدا تماما، أي القصة التي تدور في زمن الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، وتحديدا في عام 1970، وهي فترة سبق أن تم استخدامها من قبل- كخلفية قوية- سواء في السينما الروائية أم التسجيلية. إلا أن المخرج الكبير “وولتر سايلس” (68 عاما)، (صاحب “المحطة المركزية” Central Station)، يقدم هنا عملا جديدا ملهما، في روحه وشخصياته وتفاصيله المدهشة، وفي قوة تأثيره أيضا، بحيث لا يسهل أن يغادر الذاكرة.
يستند السيناريو البديع الذي اشترك في كتابته موريللو هاوزر، وهيتور لوريجا، على القصة الحقيقية التي رواها “مارسيللو روبنز بافا” في كتابه الصادر عام 2015، الذي يروي فيه الوقائع المرعبة التي عاشتها عائلته في تلك الفترة، بعد اعتقال والده “روبنز بافا” الذي كان نائبا في البرلمان عن حزب العمال قبل الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المنتخبة في البلاد عام 1964 وصادر الحريات السياسية.
نحن لا نشاهد هنا تفاصيل الانقلاب العسكري على غرار ما نراه مثلا في فيلم “مفقود” Missing لكوستا جافراس، لكننا نرى بوضوح وبشكل أكثر تأثيرا، آثار الانقلاب، أو ذلك التغير السياسي العنيف، كما ينعكس على مصير أسرة ذلك النائب البرلماني. وهي أسرة من أعلى شرائح الطبقة الوسطى.
في البداية نرى مشاهد تمهيدية، للأسرة المكونة من الأب والأم وخمسة من الأبناء (4 بنات وولد)، وهم يقضون عطلة صيفية على البحر، يسبحون ويمرحون. والكاميرا تتركز بوجه خاص، على الأم، “إيونيس”.. التي تحاول خلق أجواء السعادة بين أفراد أسرتها، في حين أننا يمكن أن نلمح بعض القلق على محياها. وفي الشوارع تبدو مظاهر سيطرة العسكريين على مقاليد الأمور.
الأسرة عموما تتميز بالوعي والتفتح والتحرر، تستقبل الكثير من الأقارب والضيوف من الذين يرتبطون بنفس التيار السياسي للرجل “روبنز بافا”، وتلتقط الابنة الكبرى للعائلة، “فيرا”، الكثير من اللقطات بواسطة كاميرا من من مقاس 8 مم.. ونراها تمرح في إحدى السيارات مع أصدقائها في شوارع المدينة لتصطدم فجأة بالواقع. تجبر السيارة على التوقف أمام حاجز للتفتيش من قبل قوات الجيش، يريد الضابط تفتيشها ويأخذ الكاميرا، يعتقلون أحد زملائها، ولا تجدي احتجاجاتها نفعا في إطلاق سراحه، لكنهم سيطلقون سراحها ويردون إليها الكاميرا فهي ليست الهدف المطلوب. بعد ذلك سوف تتخذ الأسرة قرارا بإرسالها إلى لندن، لاستكمال دراستها هناك لكنها ستعود خلال مسار الأحداث.
تبحث الأسرة نفسها مغادرة البرازيل كما فعل الكثير من المعارضين للانقلاب، لكنها لا تستقر على قرار، والأب يفضل البقاء لكونه يتعاون مع عدد من رفاقه الليبراليين، في التواصل مع أسر المعتقلين، ونقل بعض الأنباء للصحف الأجنبية عما يجري في البلاد، وتدبير بعض المنازل الآمنة للفارين.
يأتي الحدث الذي يقلب حياة الأسرة رأسا على عقب، عندما يطرق عدد من الرجال ذوي الملابس المدنية باب البيت الذي تستأجره العائلة، ويقتادون معهم الزوج- الأب، للتحقيق معه في أمر ما بدعوى أن المسالة لن تستغرق طويلا قبل أن يعود إلى البيت. لكن ما يحدث أن عددا من الرجال يبقون في المنزل، يراقبون الأسرة، يمنعون الخروج أو الدخول، يتمددون على الأرائك، لتصبح الأم والأبناء الأربعة، أسرى داخل بيتهم. ورغم ما تبديه “إيونيس” من كرم في التعامل معهم وتقدم لهم الطعام، إلا أنها لا تفلح في معرفة المكان الذي اقتيد إليه زوجها.
لن يمر وقت طويل قبل أن يأتي رجال الأمن مجددا يقتادون إيونيس نفسها وابنتها الثانية “إليانا”، ويتم تغمية عيونهما، وتذهب بهما السيارة إلى ما بشبه سجنا حربيا، حيث نسمع أصواتا صادرة عمن يتعرضون للتعذيب البشع داخل الزنازين والأقبية، ويقلى بإيونيس داخل زنزانة منها، وتحاول هي بشتى الطرق معرفة مكان زوجها ولكن دون جدوى.
داخل المعتقل تستجوب ايونيس ويطلب منها التعرف على من يصفهم الضابط الذي يستجوبها بـ”الإرهابيين”، أي المعارضين، وهي تتعرف بالفعل على عدد قليل منهم لا تجد فيما ينسب إليهم أي صحة.
ستخرج بعد مرور 12 يوما، لكي تستأنف العيش ورعاية أبنائها وحدها، بطريقة أو بأخرى بعد أن يرفض البنك منحها أي أموال من حسابها المشترك مع زوجها الغائب والذي لن يظهر قط. وسيصبح الفيلم كله منذ ذلك الحين، محاولة للإبقاء على قضية اختفاء هذا الرجل حية، ومحاسبة النظام على هذا الاختفاء المريب.
لا تعترف السلطة قط بأن الرجل في حوزتها، وبعد محالات مضنية تنجح إيونيس في الحصول على دليل يثبت وجود زوجها في المعتقل، ثم ستعرف أيضا أنه قتل ودفن في مكان مجهول، وستقيم الدنيا ولن تقعدها، حتى تدفع السلطة إلى الإقرار بمسؤوليتها، أو على الأقل، أن تبقي على قضية المخطوفين والمختفين في سجون النظام، حية قائمة حتى بعد مرور السنين، فالفيلم سيقفز بعد ذلك إلى عام 1998، ثم إلى 2014 بعد أن يتقدم العمر بالسيدة إيونيس وبعد زوال الديكتاتورية العسكرية. فهي تظل رمزا للنضال من أجل الحقيقة، والعدالة.
يستخدم وولتر سايلس في نهاية فيلمه الكثير من الوثائق والصور الحقيقية التي حصل عليها من أرشيف العائلة، وما زوده به كاتب القصة الحقيقية، أي الإبن “مارسيللو” الذي كان يعرفه سايلس ويعرف أسرته وارتبط معه في صداقة في شبابه.
في مشهد ذي دلالة، يقع في 2014، يجتمع أفراد الأسرة، هناك مصور يريد أن يلتقط لهم صورة جماعية. يطلب منهم أن يكفوا عن الابتسام وأن يرسموا معالم الجدية على وجوههم، لكنهم يرفضون ويصرون على الابتسام. إنها إشارة واضحة إلى ضرورة التمسك دائما بالأمل.
من أكثر عناصر الفيلم تميزا أنه لا يقفز فوق الأحداث، بل يمهد للحدث الكبير جيدا، ويستخدم الشخصيات الثانوية لكي يلقي الضوء على شخصية الرجل الذي يختفي ويخرج مبكرا من الفيلم، ويركز على شخصية المرأة- الأم- الزوجة، التي تؤمن بضرورة مواجهة الظلم، تتحايل على ظروف الحياة حتى يمكنها الاستمرار مع عائلتها في العيش دون احتياج للآخرين، وتواصل سعيها لمعرفة مصير زوجها. إننا أمام امرأة تواجه وحدها قسوة الديكتاتورية العسكرية، من دون صراخ أو شعارات أو ضجيج. فقط بالصمود الإنساني المثير للإعجاب.
يستخدم سايلس كل ما يساهم في خلق تفاصيل الفترة من السبعينيات: الموسيقى، طرز السيارات، الملابس، الألوان، كما يجيد توليف الفيلم مع الشرائط الحقيقية التي صورتها الابنة بكاميرا الـ8مم. ورغم ما يوجد في الفيلم من قوة درامية كبيرة تنبع من محنة الأم، إلا أنه لا يجنح في أي لحظة، نحو الميلودراما بغرض إثارة المشاعر، بل يظل عملا يخاطب كلا من العقل والعاطفة.
هناك حس واضح في الفيلم، من خلال الصورة والضوء والألوان، بأننا أمام استدعاء للذاكرة، والأسى على الماضي، مع قدر كبير من الشجن الحزين الذي تخلقه موسيقى البيانو، ولكن في الوقت نفسه، هناك شعور بالأمل فيما هو قادم، خصوصا وأننا سنرى كيف يكبر أفراد الأسرة، وتتزوج البنات وينجبن، ونصبح أمام الجيل الثالث من العائلة، مع وجود إيونيس باستمرار في قلب الصورة، كأنها صخرة تتحدى الدهر نفسه.
ولا شك أن ما يجعل هذا الفيلم يبقى في الذاكرة، ذلك الأداء المذهل للممثلة الكبيرة “فرناندا توريس” في دور “إيونيس”، فهي تحمل الفيلم على كتفيها، تعيش الدور وتندمج في قلب الشخصية، تشعر بمشاعرها، تعبر عن المحنة والفقدان، في اللقطات القريبة الصامتة في بلاغة مثيرة للإعجاب، تحاول إخفاء مشاعرها الجياشة أمام أبنائها، تواصل الصمود على جبهتين: البحث عن الحقيقة والعدالة، والاستمرار في تربية أبنائها الخمسة. وكانت فرناندا توريس تستحق جائزة أفضل ممثلة في فينيسيا بأدائها الذي يرتفع فوق الجميع. لكن لجنة التحكيم منحته جائزة أفضل سيناريو.