“تحت الجلد”.. استقطاب وإنجاز بصري وعلامات استفهام

أذكر قبل عدة سنوات عندما تعرفت على أفلام المخرج البريطاني جوناثان جلازر بمشاهدة فيلمه الثاني “ميلاد”، الذي شاهدته بدافع الفضول للإطلاع على الفيلم البريطاني المستقل الذي تحمست النجمة نيكول كيدمان لبطولته. وقتها كانت السمة الأبرز لكل المراجعات النقدية والتعليقات التي قرأتها عن الفيلم ـ وكلها غربية بالطبع فالمخرج كان ولا يزال مجهولا في منطقتنا السعيدة ـ هي الخلاف الشديد في التعامل مع الفيلم وتقدير صناعه.
أبدى البعض إعجابهم الشديد بقدرة المخرج على سرد حكاية معتادة بطريقة غير معتادة، واستخدامه لحكاية صالحة لفيلم رعب تقليدي عن طفل يزور امرأة ليقول أنه زوجها المتوفي وقد عاد في جسد آخر، في خلق دراما بصرية نفسية ثقيلة الوطأة، تكاد فيها تتفهم قرار البطلة في ترك العالم من أجل هذا الطفل. ولكن في نفس الوقت خرجت العديد من الأصوات الساخطة على الفيلم، واتهامه بأنه مجرد هفوة في مشوار بطلته. اعتراضات انصب معظمها حول نهاية الفيلم الكلاسيكية، والتي حولته فجأة إلى فيلم تشويقي غير محبوك، بالرغم من أنه كان مرشحا ليكون أكثر من هذا بكثير.
بعد تسعة أعوام كاملة عاد جوناثان جلازر بفيلمه الثالث “تحت الجلد” أو “Under The Skin”، مرة أخرى ببطولة لنجمة هوليوودية هي هذه المرة الجميلة سكارلت يوهانسن. العمل الذي عُرض في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي 2013، ووصل إلينا في مصر أخيرا بعد شهور بعد طرحه على اسطوانات إلكترونية، بفارق عرض يكاد يصرخ بما يعاني منه محبو الأفلام غير الأمريكية من انتظار لا ينتهي لمشاهدة كل عنوان جديد، لكن هذا موضوع آخر.
مجددا يخلق جلازر نفس الحالة من الاستقطاب، بصورة أكبر هذه المرة، بين رافضين للفيلم وصل بهم الأمر للسخرية منه علنا وقت عرضه في فينيسيا، ومعجبين به بصورة جعلت 87% من المقالات النقدية التي كتبت عنه إيجابية، حسب موقع “طماطم فاسدة” الذي يعتمد على المقالات النقدية في تقييم الأفلام.
هذه القطبية في رأيي هي أولى الدلائل على أهمية سينما جوناثان جلازر، فكل التجارب السينمائية الجيدة والهامة والخارجة عن المألوف تعرضت بشكل أو بآخر لهذا الشكل من امتلاك محبين وكارهين، صحيح أن جلازر لم يتمكن حتى هذه اللحظة من تحقيق نجاح واضح يحوله إلى ظاهرة أو كالت cult يمكن من خلاله تأطير الاتجاهات الرافضة والمؤيدة وبحث علاقتها الأصيلة بالمخرج وأفلامه، إلا أن وجود الاتجاهين بهذا الوضوح في حد ذاته أمر يدفعنا للنظر بتأن إلى فيلم “تحت الجلد”، ومحاولة استخراج مميزاته ـ باعتباري من المعجبين بالفيلم ـ لعل أحد الرافضين يقدم على رد يثير ما يستحق أن يثار من جدل حول هذا العمل المغاير.
وإذا حددت ميزتين رئيسيتين للحديث عنهما في الفيلم، فسيكونا علامات الاستفهام والإنجاز البصري.

علامات استفهام
فيلم “تحت الجلد” مأخوذ عن رواية خيال علمي للكاتب الهولندي ميكل فابر، عن رجل وامرأة فضائيين يصلان إلى الأرض لاصطياد البشر وإرسالهم لكوكبهم، حيث تباع هناك لحوم البشر بأسعار باهظة. باختصار، هي حبكة ركيكة صالحة لصناعة فيلم خيال علمي ردئ، تماما مثلما كانت الفكرة الأولية لفيلم “ميلاد” صالحة لفيلم رعب متواضع.
لكن كما اعتاد المخرج أن يفعل، قام بتجريد الحكاية من كل تفاصيلها “المشوقة” بمعايير السوق، للإعلاء في المقابل من قيمة الهواجس الداخلية للشخصيات الرئيسية، وهي هنا شخصية واحدة بعدما قرر جلازر التخلص من فكرة الزوجين والاكتفاء بفضائية واحدة تجسدها يوهانسن، ربما للسماح بمساحة أكبر من التأمل والصمت لم تكن لتتاح إذا ما تواجد شخصان معا. المخرج استبدل التلازم بحركة البطلة بمفردها تقوم بمهمتها وتكتشف عالم البشر في وقت واحد، بينما يلاحقها فضائي آخر على دراجة بخارية ليساعدها في عملها من جهة، ويراقبها ويحكم السيطرة عليها من جهة أخرى.
المخرج تخلص إذن من الطروحات المعتادة والشكل الكلاسيكي للحكاية، من أجل تحقيق الهدف الأسمى في سينماه: إثارة التساؤلات داخل الشخصيات ومن ثم المشاهدين. الجهد الذي يمتد إلى نهاية الفيلم أيضا، وهي برأيي أكبر خطوة إيجابية أخذها جلازر بين الفيلمين. فبدلا من البحث عن نهاية منطقية كما فعل في “ميلاد” ليفسد الجو العام للفيلم ويحوله لفيلم تشويقي غير مقنع، اكتفى في “تحت الجلد” بإشارات عامة، ترشد الجمهور إلى التغير النفسي الذي تعرضت له البطلة وأدى بها للتمرد على المهمة التي جاءت من أجلها للأرض، دون أن تحمل الفيلم ضرورة شرح وتفسير كل شيء للمشاهد الخامل، الأمر الذي ارتقي تلقائيا بالفيلم وجعله أفضل بكثير من سابقه سرديا، بالإضافة بالطبع إلى تميزه البصري.

إنجاز بصري
إذا ما وضعنا السرد جانبا، فيمكن بارتياح ضمير أن نعتبر الإنجاز البصري هو أبرز نقاط قوة فيلم “تحت الجلد” بلا منازع. فحتى من لم ينل الفيلم إعجابهم اعترفوا لمخرجه بأنه تمكن من تقديم مشاهد مغامرة ومغايرة، بدءا من مشهد البداية الطويل الذي يعرض فيه حركة غير مفهومة، تبدأ في التطور والتشكل ببطء حتى تكوّن في النهاية عينا بشرية، يرفقها بمونولوج صوتي لعملية تعلم لغوي تبدأ بتعثر وتتطور سريعا إلى إتقان، ليشكلا معا أداة تقديم ذكية وموجزة لفكرة الاصطناعية في شخصية البطلة الفضائية، أداة آتية من رحم الوسيط والفيلم، من رحم الوسيط لأنها سينمائية تستخدم الصورة والصوت دون اعتماد على الحكي بمعناه الكلاسيكي حتى وإن كانت تقدم شكلا من أشكاله، ومن رحم الفيلم لأنها توجه المشاهد بشكل غير واع لأن مشكلة البطلة الرئيسية ستتحرك لاحقا من تكوينها الداخلي نفسه، لا من علاقتها بالعالم الخارجي كما قد يُفهم ضمنيا إذا ما تم تقديم الشخصية بأي طريقة أخرى.
الإنجاز البصري يمتد للتعامل مع مواقع التصوير، والتي اختار المخرج أن تكون هي مدينة جلاسجو الاسكتلندية، بثرائها وغموضها وطزاجتها على العين. جلازر استخدم طبيعة المدينة في الشتاء ليقدم مشاهد تجسد القسوة والوحدة، وهي الثنائية التي تحكم جميع شخصيات الفيلم، ليس فقط البطلة التي تتحرك وحيدة لتنفيذ مهمة غاية في القسوة، ولكن حتى الرجال الذين تقوم بالتقاطهم من الشوارع، والذين تختارهم من الوحيدين، رجال يسيرون في شتاء قاس بمدينة ذات أجواء صامتة موحشة، يجدون امرأة جميلة ومثيرة تتجاذب معهم أطراف الحديث، فيذهبون معها بحثا عن جنس يهون من الوحشة، دون أن يعلموا أن نهايتهم ستكون في هذا القرار.
ولا يوجد أقسى من لقطة الرضيع الذي غرق والداه في البحر الهائج، واكتفت البطلة ـ قبل أن تبدأ المشاعر الإنسانية في التحرك داخلها ـ بأخذ المنقذ الذي حاول مساعدتهما إلى مخبأها، تاركة الرضيع وحيدا على الشاطئ، تتناقض هشاشته وضعفه وصغر حجمه، مع اتساع العالم الذي كان أقوى حتى من والديه البالغين. صورة تعبر عن هول ما حدث، وعلامة استفهام أخرى يتركها المخرج للمشاهدين، تحرك مشاعرهم وتدفعهم للتساؤل فقط بالصورة لا أكثر.

مخبأ ووجه مشوه
كل ما سبق يمكن اعتباره إستخداما متقنا لتراكيب بصرية معتادة، أما الإنجاز الأكبر فيتمثل في مشاهد المخبأ الذي تأخذ البطلة ضحاياها إليه، والذي يتحول العالم فيه فجأة إلى لا مكان، سواد مجرد من كل شيء، تنعكس فيه صورة الشخصيات، قبل أن يغوص الرجل الضحية تدريجيا في السواد، حاملا جسده إلى أعماق مخيفة، يتحول فيها جسده إلى كيان سوريالي مخيف، أشبه بعوالم فرانشيسكو جويا الكابوسية، قبل أن يذوب في الفناء، ويتحول الى مجرد وقود دموي يغذي نهرا من العصارة البشرية يتحرك إلى حيث لا ندري، في تجسيد آخر لفكرة التخلص من موتيفات الرواية الركيكة لحساب عناصر أكثر تجريدية وأثارة للتساؤلات.
جمال هذه المشاهد وحده ـ برغم كابوسيتها ـ كفيل بجعل الفيلم يبقى في الذاكرة، أضيف إليها جمالا آخر يتمثل في أن الرجل الذي غير موقف البطلة وزرع أول بذرة للإنسانية فيها، لم يكن رجلا وسيما مثل الذين قامت باصطيادهم من قبل، بل رجل مصاب بنوع من التشوه، الذي حول وجهه إلى ما يشبه المسخ، لكنه مسخ شديد الحساسية، لم يركب مع المرأة لينال منها جسديا كباقي الرجال، لأنه ببساطة يعلم باستحالة انجذاب أي امرأة له، لكنه اكتشف عندما حاولت استمالته عالما جديدا، اكتشف للحظة أنه من الممكن أن يكون مرغوبا فيه، لتطغى عذوبة هذا الإحساس على وجهه المخيف وتصل إلينا قبل أن تصل إلى البطلة وتدفعها لاتخاذ أولى خطوات التمرد على مهمتها.

الوجه المشوه بالمناسبة ليس مجرد قناع، بل هو الوجه الحقيقي لآدم بيرسون، الرجل المصاب بمرض نادر يدعى نيوروفايبروماتوزيس يجعل الأنسجة تنمو بكثافة وبدون توقف عند النهايات العصبية، والذي لا أعلم إذا ما كان جوناثان جلازر قد تمكن من العثور عليه بعدما تم كتابة الدور، أم أنه وجده فكتب الدور من أجله. الأمر غير معلن للتأكد من المعلومة، لكن المؤكد أن وجود بيرسون بأدائه البديع زاد كثيرا من قوة الفيلم، ومن قدرة مخرجه على استخدام عناصر بصرية غريبة وصادمة أحيانا، في الوصول إلى شحنة عاطفية لا يتخيل أحد الوصول إليها عبر هذه العناصر.

حاصل الجمع
وإذا كان عمل المخرج ـ أي مخرج ـ بشكل عام هو جمع عشرات التفاصيل والأدوات والجهود، واتخاذ الخيارات المناسبة لعملية الجمع هذه كي تخرج بأفضل نتيجة ممكنة. فإن ما فعله جوناثان جلازر في “تحت الجلد” يبدو أشبه بعملية استحداث ليس فقط للعناصر المكونة للفيلم، بل لخيارات جمعها معا بصريا وسرديا، لتكون النتيجة عملا مدهشا ومثيرا للانتباه، وهي قيمة تذكر له كصانع أفلام، سواء انتهت دهشة المشاهد إلى تقييم إيجابي أو سلبي.

Visited 20 times, 1 visit(s) today