بيلا تار: سلطة الزمن، ثقل اللحظة

كتابة: نادين ماي

ترجمة: أمين صالح

بين المنظر والشخصية

ثمة علاقة خاصة بين المناظر الطبيعية، الشوارع، البيوت غير الآهلة والمتآكلة في أفلام الهنغاري بيلا تار وشخصيات أفلامه. من نواح عديدة، ما لاحظته في أفلام تار، اختبرته من جديد عندما بدأت في اكتشاف أعمال الفلبيني لاف دياز. هذان المخرجان استثنائيان في نسْب أو إضفاء حالةِ أو وضع الشخصية على المنظر الطبيعي، محوّليْن المنظر إلى شخصية شبحية تعكس المواقع السيكولوجية الباطنية داخل الشخصية: وجعها، قلقها، ذعرها، معاناتها، دمارها.

كل ما يحيط بالشخصية يصبح هو ذاته شخصيةً. هذا لا ينطبق على كل الأفلام البطيئة، لذلك لا أستطيع القول أنها صفة مميزة خاصة بالسينما البطيئة. بيلا تار اعتاد أن يكون واحداً من أولئك المخرجين القلّة الذين، على نحو مثابر، سلكوا هذا الطريق، والذين أيضاً عيّنوا دوراً خاصاً إلى كاميرته. كل شيء صار شخصيةً، كل شيء لعب دوراً حاسماً، وكل شيء أضاف إلى ثقل أفلامه وقوتها.

المنظر الطبيعي/ المحيط يصبح مرآةً لروح الشخصية ونفَسها. واعتقد أن فيلم تار “الإدانة” Damnation هو حقاً الفيلم المتعمّق، العمودي، الأول الذي نظر، بصورة دقيقة، داخل الشخصيات. لقد بدأت الشخصيات تمتلك عمقاً استثنائياً، وكانت أكثر من مجرد عناصر مستخدمة لدفع القصة إلى الأمام.

يقول بيلا تار: “نحن نتّبع فحسب العملية السيكولوجية الحقيقية، وليس القصة، ولا المعلومات اللفظية (..) إذا حصلتَ على فرصة تحقيق بعض الأشياء العميقة حقاً، فأظن أن بإمكان كل شخص أن يفهم كل شيء. السؤال هو دائماً العمق: كيف تستطيع أن تلامس الناس؟”.

في الوقت نفسه، فيلم “الإدانة” ربما المثال الأكثر جلاءً لمدى قدرة المخرجين على استخدام المنظر الطبيعي في سبيل توكيد الشخصيات، إن جاز لي قول ذلك بهذه الطريقة.

موت قرية

حسب ما جاء في مقابلاته، كان بيلا تار يقضي الكثير من الوقت باحثاً عن الخلفية المناسبة لقصصه. وكان ذلك عاملاً حاسماً. إنه يختار المناظر الطبيعية بعناية وبدقة، متحقّقاً من أنها في خط مستقيم ومثالي مع شخصياته وقصصه. بداية فيلم “الإدانة” هي مؤشّر جيد تجاه ذلك. إذ أننا نشاهد عربات معلّقة بالأسلاك وهي تمرّ، بقيّة ماضي منجم فحم المدينة. الصوت ربما حاد كذلك. الكاميرا ببطء، ببطء شديد، تتراجع بحركة زوم لنكتشف أننا في الواقع لا نراقب العربات، وانما نشاهد شخصاً يراقب شيئاً. من مكان إلى آخر، ثمة مؤشّر إلى الماضي. موت صناعة التعدين (استخراج المعادن من المناجم) قد أقحم القرية فجأة في موتها الخاص. البيوت التي نراها هي في حالة حزن. المطر المتواصل، المستمر، يضيف إلى جوّ الشيء الذي يمرّ، الشيء الذي يتشبث لكنه يعلم أنه لا يمتلك القوة للصمود فترة أطول. تصدّع البيوت ينذر بانحلال الشخصيات. إن كان ثمة شيء، فلربما هو المطر الذي يعمل بوصفه التأويل الأكثر أمانةً، أو بالأحرى الصورة المنعكسة في المرآة، لبطل الفيلم (كارِر) الذي يعشق زوجة رجل آخر. هو لا يقبل فكرة أن يكون مرفوضاً، وفي النهاية، يخسر كل شيء.        

من فيلم إدانة

هوية المنظر الطبيعي وهوية الشخصية تتداخلان في فيلم “الإدانة”. تندمجان لتصبحا هوية واحدة.       

الفيلم مثير للاهتمام لأننا طوال وقت العرض نجد أن البؤرة مركّزة على الشخصيات الفعلية وحدها. القرية مصوّرة كموقع قاحل، يخلو من الناس. المرافق الثابت الوحيد هو المطر. هذا يسهّل تأسيس رابط بين الشخصيات القليلة التي نتابعها (كارر، المرأة، زوجها) والمناظر الطبيعية الخالية من البشر.

ثمة مشاهد تستجوب أهمية الشخصيات والتي تركّز بؤرتها، على نحو أكثر كثافة، على المناظر الطبيعية، أو البيئة عموماً. يحدث هذا بعون من كاميرا تار المستقلة، المستقلة بمعنى أنها تتحرك أينما تشاء من دون أن تلاحق، بالضرورة، شخصيةً ما. هناك مشهد يجعل هذا واضحاً تماماً. ما لا تستطيع الشخصيات أن تعبّر عنه، يتم التعبير عنه من خلال بيئتها كمجازات. شخصيات بيلا تار ليس من السهل قراءتها، إذ لا تشتمل إلا على القليل من المشاعر والعواطف. كل شيء يحدث بداخلها. إنها الطبيعة التي تخبرنا عن مشاعر كارر، وليس كارر نفسه. إن بيلا تار يجعل نفسه، على نحو مقصود، معتمداً على الطبيعة، على المناظر الطبيعية المشحونة سيكولوجياً، من أجل أن يعطي شخصياته المسطّحة، على ما يبدو، عمقاً استثنائياً. 

التجربة العابرة

نهاية الفيلم هي أكثر رمزية عن سعي المخرج وراء دمج الشخصيات مع بيئتها بحيث تصبح كياناً واحداً. على مدى ساعتين، نرى كارر وهو يتفسخ على مهل، مثلما تتحلّل القرية. من دون أن يجني شيئاً، وفاقداً لكل شيء، كارر يصبح أشبه بكلب، إذ يتحرك على الأربع ويحاكي الكلب الضال الذي ينبح عليه، ممرغاً جسمه في الوحل تحت وابل من المطر.

الفيلم هو عن حياة كلب في هيئة بشرية، والذي قناعه ينزاح شيئاً فشيئاً، على مهل شديد لكن على نحو مستمر، تماماً كما المطر المتواصل الذي يبتلع القرية.. ببطء لكن بثقة. إنه لا يترك أي أثر، وكارر أيضاً سوف يختفي.    

هل الأفلام البطيئة شكل ينضوي في صيغة الزمن الحاضر، حتى لو كانت القصص التي ترويها هي من الماضي؟ هذا سؤال مثير للاهتمام لا أملك إجابة عليه.

السينما هي تجربة في المستهل، اختراع حديث يجعلنا ننظر إلى العالم وهو يمرّ أمامنا بطريقة أكثر تطرفاً مما يحدث في العالم الحقيقي. السينما، بطبيعتها، تجربة عابرة. لكن أين يمكن تعيين موقع السينما البطيئة التي، عبر الصور الدائمة، تدعونا لرؤية حيواتنا وهي تمرّ؟ شكل من أشكال الفيلم الذي، أكثر مما تفعله السينما الرائجة، تطلب منا أن “نفقد وقتنا”، أن “نبدّد وقتنا” لكن، في الوقت نفسه، تدعونا لكي نكون، لكي ندوم؟ هل السينما البطيئة طريقة لإبطاء عملية إضعاف سلطة الأبدي، ومحاولة لإيقاف التقدّم المحتوم نحو الإبادة؟

الانتظار  

ما الذي يعنيه أن ننتظر؟ ما الذي يعنيه الانتظار في أيامنا هذه حيث يبدو كل شخص مشغولاً على نحو دائم وأبدي؟ هل لازلنا ننتظر، أم أننا جوهرياً استبدلنا الانتظار بمجرد فعل أشياء؟

ما الذي يعنيه أن ننتظر؟ شعرت أن هناك الكثير لقوله، أيضاً في ما يتعلق بالفيلم البطيء. لو استبدلنا الانتظار بفعل أشياء من أجل جعل أنفسنا مشغولين، بينما ننتظر وصول قطار أو حافلة أو صديق، فإن الأفلام البطيئة هي التي تعيدنا إلى فكرة الانتظار، الإحساس بالزمن وقد توقّف عن الحركة.

شانتال أكرمان (المخرجة البلجيكية) أرادت من الجمهور أن يلاحظوا مرور الزمن. غاية أعمالها أن تجعل المتفرج واعياً لمرور الزمن. إننا نلاحظ سلطة الزمن، في أحوال كثيرة، حين لا يحدث شيء.. تماماً في لحظات الانتظار. الزمن يبدو ثقيلاً، يبدو مرهقاً. قالت شانتال أكرمان: “بأفلامي، أنت تكون واعياً لكل ثانية تمرّ من خلال جسدك”.

ما هو مهم (وما يُعد صفة مميّزة للأفلام البطيئة) هو فعل الانتظار، من نواح مختلفة عديدة. منها، أن الشخصيات هي التي تنتظر. في أحد أفلام لاف دياز نرى الشخصيات تسير من قرية إلى أخرى. لكن بسبب الحر، تضطر إلى أخذ فترات راحة طويلة وعديدة. إنهم يجلسون في الظل، منتظرين أن تخفف الشمس من حرارتها. وقد تحدّث دياز عن قسوة الحر والرطوبة في الفلبين، وكيف أن الناس يجلسون وينتظرون حتى تخفّ الحرارة. إنهم ينتظرون ولا يفعلون شيئاً. 

بيلا تار.. كيف ستكون السينما البطيئة من غير بيلا تار؟

المَشاهد المميّزة، اللانهائية، لأناس قبالة النوافذ، يطلّون على الخارج، ولا يبدو أنهم يبحثون عن شيء ما على وجه التخصيص. إنهم يجلسون وينظرون فحسب. ولا نعلم إن كانوا ينتظرون حدوث شيء ما، أم يتوقفون سامحين للزمن بأن يمارس عمله. تلك المشاهد التي نجدها في أفلامه (الإدانة، رجل من لندن، حصان تورين) هي أيقونية، وتجبرنا نحن المتفرجين على الانتظار أيضاً. وبحسب ما قالت شانتال أكرمان، فإن المتفرج دوماً ينتظر. إننا ننتظر اللقطة التالية حتى تبدأ، واللقطة الحالية حتى تتوقف. الأفلام البطيئة تتوقف مؤقتاً، وهي تتنامى في زمنها الخاص. الأحداث ليست مختصرة لتتلاءم مع نفاد صبرنا. شيء ما دائماً يحدث في أفلام الأكشن، شيء يريحنا ويحرّرنا من الإحساس بوطأة الزمن، ثقل الزمن. الزمن هنا ينقضي بسرعة، يمرّ بأسرع ما يمكن.. وهو زمن اصطناعي ومضلّل.

العيش في الانتظار

كذلك تؤكد شانتال أكرمان أن انتظار المتفرج للقطة الطويلة المتواصلة التالية يعني العيش، أن يشعر المرء بأنه موجود. الزمن، بالنسبة لأكرمان، ليس فقط جزءاً من الفيلم، بل أنه أيضاً جزء من المتفرج. وهذا يتضح أكثر في فيلمها “من الشرق”. مع أن أكرمان تستخدم الكاميرا المتحركة، إلا أنها تمنحنا الزمن لنرى، وهو مظهر مهم آخر في عملية تحقيقها للفيلم.

حين يحاول المرء، الذي لا يميل إلى الأفلام البطيئة، تبرير مشاعره تجاه هذا النوع من الأفلام، فإنه ينزع إلى القول أن لا شيء يحدث على الشاشة، بمعنى أن الفيلم ممل. وهذا القول أن “لا شيء يحدث” يعني أيضاً أنه “يتعيّن علينا أن ننتظر حدوث شيء في حين أنه ليس لدينا الوقت لهذا”. الناس قليلو الاحتمال، نافدو الصبر. الانتظار يعني أن يكونوا في حالة جمود وكسل، وربما في حالة عجز، في حين يقال لهم طوال الوقت أن الزمن يجري سريعاً إلى حد أنك لن تدركه إذا انتظرت الحافلة دقيقةً أو دقيقتين. لا يمكنك الانتظار. ينبغي أن تسرع، وإلا فسوف تخسر تلك الدقائق الثمينة.

لقطة ثانية من فيلم إدانة

قد يقول البعض أن الذين يرفضون الأفلام البطيئة لمثل هذا السبب البسيط، وهو أن شيئاً لا يحدث، لم يتعلّموا أبداً فضيلة الانتظار، أو نسوا متعة الانتظار. فما الذي يعنيه الانتظار؟ ما الذي يفعله الانتظار لجسدك ولعقلك؟

الأفلام البطيئة ساعدتني على أن أتوقف، وأن أنتظر. الانتظار لا يعني أن لا تفعل شيئاً، مع أنه يبدو كذلك للقسم الأعظم من الناس. إنه لا يعني أن تكون سلبياً وخاملاً، مع أن البعض يعتقد ذلك. الانتظار يعني أن تكون في اللحظة، أن تكون في الحاضر، أن تكون حاضراً، وهذا شيء صار يزداد صعوبة. أن تنتظر يعني أن تكون يقظاً. إنها فرصتك لتلقي نظرة إلى ما يحيط بك، إلى ما يحدث في جسدك وعقلك.  

هذه الحالة تتجسّد على يد الشخصيات في الأفلام البطيئة، حين يجلسون ويطلون من النافذة. حين يجلسون في ظل الأشجار ولا يفعلون شيئاً. حين يجلسون في الحقول ويرمقون السماء. إنهم في اللحظة الحاضرة، ومخرجو هذه الأفلام يطلبون منا أن نفعل الشيء ذاته، أن نكون مع الشخصيات، أن نكون في اللحظة معهم، أن نصبح يقظين وواعين لكل ما يحيط بنا. أن نصبح واعين للزمن، كما تقترح شانتال أكرمان، لكن من غير الإحساس بالقلق بشأن تبديد الوقت. الأفلام البطيئة وسيلة لرؤية احتمالات عدم فعل أي شيء، امتيازات الانتظار، بل حتى البهجة في الانتظار. ليت العديد من الناس يخصصون وقتاً للانتظار، والتمتّع بما يوفره العدم والفراغ من بهجة. كم هي ممتعة نهاية فيلم بِن ريفرز “عامان في البحر”، حيث نرى رجلاً جالساً في الهواء الطلق، عند نار مشتعلة في الحطب. الأصوات تعطينا إحساساً بأننا هناك، معه. وهو لا يفعل أي شيء. إنه ببساطة يراقب النار وهي تلتهم الخشب. مشهد جميل، يبدو أنه بلا نهاية، مما يتيح للمتفرج  أن يكون هناك، في اللحظة.

 الحركة في السكون

في الصورة الفوتوغرافية، حالة السكون حبلى بالحركة. المصوّر الفوتوغرافي يجلب السكون، وعلى المتفرج أن يتصوّر أو يتخيّل الحركة.

في الفيلم، السكون يؤطر المشهد، بينما الحركة تنتج المعلومة، وتكشف عن العاطفة. السكون يرصد ويهب الوقت لرؤية غاية الكادر.

المصدر:

موقع The Art(s) of Slow Cinema

Visited 2 times, 1 visit(s) today