“بعد الموقعة”: من وحي العرض في مسابقة مهرجان كان
لا شك أن الاهتمام بالفيلم المصري “بعد الموقعة” في مهرجان كان الأخير، ينبع من اهتمام فرنسي كبير بالثورة المصرية. ويعد فيلم يسري نصر الله الفيلم الأول الذي يتناول هذه الثورة بشكل مباشر، في عمل روائي درامي. كما أن الفيلم دون شك، يتمتع بطزاجة ورونق في الكثير من جوانبه، رغم وجود ملاحظات سلبية هنا أو هناك. وقد تابع حشد الحاضرين الفيلم دون أن يغادر أي منهم القاعة رغم أنه قد يبدو مرهقا للبعض بحواراته الطويلة، وكونه يتجاوز الساعتين.
البحث عن الحقيقة
أراد يسري نصر الله العثور على حقيقة ما حدث في موقعة الجمل أي الأحداث الدامية التي وقعت في الثاني من فبراير 2011. وقد أطلق على فيلمه “بعد الموقعة” على أساس أن أحداثه تدور بعد أن انتهت تلك الوقائع وأصبح أحد المشاركين فيها وهو “محمود” (او باسم سمرة) ملعونا في محيطه بسبب وقوعه في أيدي الثوار يوم الموقعة، الذين أوسعوه ضربا، ومدانا في أوساط الثوار بسبب مشاركته في جريمة الاعتداء على الثورة.
ما الذي حدث إذن، ولماذا تورط محمود في هذا العمل الشائن، وكيف كان ممكنا أن يحدث ما يحدث، وما هو الثمن الذي يدفعه محمود وولداه وزوجته نتيجة الحدث السياسي أو الفردي الذي تحول الى سياسي، وهل كان محمود يسعى بالفعل مع رفاقه، الى “قتل الثورة”، وهل قبضوا أموالا من الممولين، أنصار بقاء مبارك في الحكم؟
هل كان ضحية أم مجرما، وهل يمكن غفران ما حدث في مجتمع جديد يدعو إلى التصالح أو في مجتمع ما بعد الثورة، أم أن الثورة أدت الى تقسيم المجتمع بعد أن نجحت في توحيده في البداية؟
كل هذه التساؤلات تدور تحت جلد الصور والمشاهد المركبة التي تجمع الذاتي بالموضوعي، الفردي بالاجتماعي، التناقضات الطبقية وهل من الممكن أن تكون الثورة، كما يتردد في الفيلم، قد خففت منها وأزالتها، وهل يمكن أن يوجد الحب بمعزل عن الظرف الاجتماعي، أم أنه- كما تقول سلوى محمد علي لمنة شلبي (التي تقوم بدور ريم) في أحد المشاهد البديعة في هذا الفيلم- “ثقافة”، أي أن التعبير عن الحب عادة ما يعكس ثقافة صاحبه ومستواه. وهي تروي لها كيف أنها ارتبطت برجل في الماضي، تصورت أنه يحبها وعندما دعاها إلى الغداء ذات يوم، فوجئت بأنه يطلب لها وجبة من العصافير.. وفي حين أنها ترى أن العصافير لا يجب أن تؤكل بل تترك لتغرد، يقوم هو بحشر عصفور في فمها تعبيرا عن حبه لها!
كثير من التساؤلات تطرح على نحو أو آخر في هذا الفيلم. ويسري يبدو مهموما كما كان دائما، بفكرة العلاقة مع الآخر، أي مع الأدنى طبقيا، كونه هو ابن الطبقة الأرستقراطية بتقاليدها المعروفة التي تمرد عليها منذ شبابه الأول، وسعى الى الالتحام ولو بطريقته الخاصة، مع الطبقة العاملة أو تصور أنه يمكنه التعبير عنها “ثقافيا وسياسيا” في إطار انتمائه اليساري القديم المتجدد بالطبع.
هنا تسعى “ريم” الناشطة الاجتماعية والسياسية، التي تعمل في مشاريع منظمات المجتمع المدني إلى منطقة نزلة السمان في الهرم، لتفقد أحوال الخيالة هناك الذين توقفت أعمالهم، وأصبحوا عاجزين حتى عن تقديم الطعام للخيول التي يعتمدون عليها في الحصول على قوت يومهم.
هناك تلتقي ريم بـ”محمود”.. أحد المشاركين في موقعة الجمل، وتكتشف أنه لم يذهب للمشاركة في الموقعة مدفوعا بأي قناعات سياسية أو نتيجة حصوله على رشوة من أصحاب الشأن، بل لأنه قيل له، ولغيره، إن الجدار “العازل” الذي شيدته الدولة وحجب حيهم عن منطقة الاهرامات المفتوحة، وأدى الى حرمانهم من التعامل مع كثير من السياح، سيتم هدمه مكافأة لهم اذا ما اشتركوا في ضرب الثوار في التحرير!
مناقشات كثيرة تدور في الفيلم بين النشطاء والثوار وغيرهم حول هذه النقطة، أي ما اذا كان الذين اشتركوا في الهجوم على الثوار ضحايا على نحو ما، أم مجرمين. لكن الشخصية التي اختارها يسري تميل الى التبرئة أي الى اعتبار “محمود” ضحية لسياسات الدولة البوليسية الشمولية في عهد مبارك.
الطابع التسجيلي
يتمتع الفيلم بحس تسجيلي مثير، فهناك الكثير من المشاهد التسجيلية التي جاءت من أرشيف الثورة، وهو يفتتح بمشهد موقعة الجمل في ميدان التحرير، لكن المشهد- الذي يتكرر فيما بعد- لا نرى فيه جمالا بل خيول فقط، وهو خطأ غريب من جانب يسري، الذي يشرح من خلال التعليق المكتوب على الفيلم لماذا اطلق المصريون على تلك المعركة “موقعة الجمل” ولكنه يترك التفسير غامضا أمام المشاهد الأجنبي الذي لا يعلم الكثير عن تلك الموقعة أو الذي لا يشاهد مشاركة الجمال فيها!
في الوقت نفسه، يمزج يسري في الكثير من مشاهد المناقشات والمشاهد المصورة في نزلة السمان، بين الممثلين المحترفين والشخصيات الحقيقية للرجال والنساء وينجح في التعامل معهم جميعا واقتناص التلقائية الكامنة في أدائهم بحيث يضفي الواقعية على الأحداث بل ويعتبر الفيلم في حد ذاته وثيقة مذهلة عن ثورة يناير 2011
وفي مشهد آخر يقدم لقطات تسجيلية لما عرف بأحداث ماسبيرو التي وقعت أمام مبنى التليفزيون أثناء مظاهرة لمجموعة من الأقباط، أطلق عليهم الرصاص، ويمزجها مع لقطات مصنوعة بحيث يبدو بطله محمود وكأنه يشارك فيها ويصاب بطلق ناري.
مأزق العلاقة العاطفية بين ريم ومحمود، رغم التناقض الطبقي الكبير بينهما، يتم حله بعد أن تتجه ريم إلى الاهتمام بفاطمة زوجة محمود وولديه، ولكن الفيلم هنا تحديدا ينحرف عن مساره الطبيعي لكي يدخلنا في متاهة الحديث عن التعليم ومشكلة هروب التلاميذ من التعليم الابتدائي وتدني مستوى العلاقة بين التلاميذ والمعلمين، وما قد يتعرض له التلميذ من اعتداءات من جانب زملائه في الفصل دون رادع.. وكثير من القضايا الفرعية الأخرى.
ولعل مما ينقذ هذا الجزء من الفيلم تحديدا، الانتقال الى وصف آخر للعلاقة “الاقطاعية” بين أبناء نزلة السمان وبين من يعتبرونهم “كبارهم” أو “الكبار” من رجال الأعمال الذين يتولون حمايتهم تماما على طريقة الأب الروحي في المافيا، وهنا تبرز كثيرا براعة الممثل صلاح عبد الله في دور “الحاج عبد الله” الذي يسخر البؤساء من الخيالة وغيرهم من أبناء المنطقة في خدمته وخدمة أعماله غير المشروعة.
وكعادته دائما في أفلامه، يبدو اهتمام يسري واضحا بما يعرف بالميزانسين، أي بناء اللقطة اعتمادا على التكوين وحركة الكاميرا والحركة داخل الصورة عموما.. ففي المشهد الذي نرى فيه الحاج عبد الله وهو يذهب للحديث الى محمود، مهددا اياه، يطلب منه ابعاد ريم عن المنطقة وقطع علاقته بها تماما، نراه يركب سيارة فارهة، يطلب من سائقها أن يسير بتمهل ويفتح نافذتها ثم يتطلع الى محمود الذي يظل يجري على قدميه في الخارج لكي يلحق بالسيارة حتى يتابع محدثه وسيده وهو يأمره بما يأمره به.، وكأنه كلب يتقافز في رحاب سيده!
ويستخدم يسري كثيرا حركة الكاميرا، في بناء علاقة وثيقة بين الشخصيات والمكان، ويبرز في الكثير من المشاهد طبيعة المنطقة، ويركز على علاقة سكانها بالخيول، كيف يحتفلون بها على نغمات راقصة، بل وكيف ينشأ أطفالهم أيضا وهم يتعلمون ترويض الخيول وكيفية التعامل معها.. كما يستغل منطقة الأهرامات التي لها سحر خاص لدى العين الأجنبية، لكي يجسد التناقض بين كنوز الآثار ومظاهر الفقر والتدهور الاجتماعي الملحوظة في حياة تلك الطبقة الشعبية التي تقطن المنطقة.
وينتقل يسري نصر الله من اللقطات القريبة الى المتوسطة والعامة، ومن الداخل الى الخارج، وينجح بمساهمة المصور الكبير سمير بهزان، في اقتناص لقطات تنبض بالحياة بألوانها الصاخبة، صخب فوران الغضب والثورة.
استطرادات
لكن الفيلم يعاني من الاستطرادات التي كان ينبغي استبعادها من الفيلم، وأيضا من بعض التكرار والدوران حول الفكرة، خاصة في الجزء الأخير.. الذي ينتهي بانضمام محمود الى الثوار الغاضبين بعد أن ينمو وعيه الاجتماعي والسياسي تدريجيا في ضوء تطور الأحداث من حوله.
وفي مشهد النهاية يجعله يسري يقوم بما عجز عن القيام به طيلة عمره، أي يصعد أعلى الهرم الأكبر وكأنه يهزم الخوف والقهر والتقاعس في داخله، ويتحرر أو ربما يعبر عن تطلع المصريين جميعا للصعود بعد عقود من الجمود.
استقبال الفيلم في “كان” يعتبر استقبالا إيجابيا بشكل عام، فهو الدرس السينمائي الأول عن “الثورة”. والفيلم الاحترافي الكبير الأول الذي يدور حول أهم حدث سياسي مصري في القرن الحادي والعشرين.. حتى الآن على الأقل!