“بريسيلا”.. التي عاشت حلم اليقظة الرومانسي الطويل مع إلفيس بريسلي

Print Friendly, PDF & Email

هناك جاذبية خاصة في رواية قصص المشاهير من الشخصيات العامة التي شغلت الجمهور طويلا، خصوصا لو كانت هذه الشخصيات من نجوم الغناء والفن عموما، وهو ما أدى إلى ظهور أفلام كثيرة تعيد رواية سير المشاهير، خارج الإطار التسجيلي والوثائقي المعروف.

إلا أن إشكالية تناول أفلام سير المشاهير تكمن في كيفية التعامل معها دراميا، فليس من الأفضل دائما أن يحاول صانع الفيلم رواية كل شيء في حياة الشخصية التي يتناولها في فيلمه، بل الأفضل أن يختار الجوانب المفصلية التي شكلت تلك الشخصية أو جعلتها تتخذ المسار الذي اتخذته في حياتها، وإن كان من الأفضل دائما، استلهام روح الشخصية وتجسيد مأزقها، وهو ما أظن أن فيلم “بريسيلا” Priscilla (2023) نجح في تجسيده.

“بريسيلا” هو الفيلم الروائي الطويل الجديد للمخرجة الأمريكية صوفيا كوبولا المعروفة باهتمامها بشخصية المرأة، ومتابعة نضجها ومسارها في الحياة، وعلاقتها الملتبسة مع الرجل، وتحولها التدريجي من الخنوع إلى التمرد، أو سقوطها نتيجة سذاجة اختيارها. وقد تبدى هذا في فيلمين من أفلامها هما “ماري أنطوانيت Marie Antoinette (2006) و”المغويات” The Beguiled.

براءة الطفولة في عيني بريسيلا

يستند سيناريو فيلم “بريسيلا”، الذي كتبته كوبولا بالاشتراك مع ساندرا هامون، على كتاب “إلفيس وأنا” الذي أصدرته بريسيلا بريسلي عام 1985 عن حياتها كحبيبة ثم زوجة المغنى الأسطوري لأغاني “الروك آند رول” إلفيس بريسلي  لمدة 14 سنة.

على الرغم من شهرة الفيس بريسلي الكبيرة وحضوره الضروري المحتم في الفيلم، إلا أن فيلم كوبولا ليس عن بريسلي بل هو فيلم بريسيلا، أي أنها الشخصية الرئيسية التي تستقطب اهتمام المخرجة، وهي التي نشاهد الأحداث من وجهة نظرها، كفتاة تعرفت مبكرا، عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، على الفنان الشهير، ثم تزوجته وعاشت معه سنوات الشهرة والعمل في أفلام هوليوود، لكنها ظلت دائما، حبيسة دور واحد هو الدور الذي أراده لها.

الفيلم بالتالي يبحث في ذلك الجانب الخفي الذي لا نعرفه في تكوين شخصية الفيس بريسلي، ولكن كما انعكس بقسوة على فتاة أمريكية ريفية بسيطة، بريئة، وقعت فريسة حلمها الخاص، وانبهارها بشخصية ربما لم تكن جديرة باهتمامها الكبير، ولكنها كانت تراها في حلم طويل من أحلام اليقظة، لن تستفيق منه سوى متأخرا.

الممثلة كايلي سباني: اكتشاف حقيقي في الفيلم

من الصحيح أن فيلم “بريسيلا” يصور انتقال تلك الفتاة البريئة من عالم الطفولة إلى الأنوثة، ولكن من دون أن يكون فيلما عن نضج مراهقة بعد أن أصبحت امرأة وأنجبت أيضا ابنتها من إلفيس، بل يمكن اعتباره أساسا- فيلما عن التضحية التي لا يمكن فهمها تماما، وعن الانسياق والخضوع، وعن استبداد الرجل وأنانيته، ونزعته الطفولية بحيث بدا كما لو أن “بريسيلا” أصبحت لعبة في يده، يلهو بها، دون أن يعتبرها شريكة حياة بالمعنى الذي يعرفه كل رجل وكل امرأة.

وقد بدا أن السؤال الذي يشغل بال المخرجة في فيلمها هو: لماذا ينظر الرجل إلى المرأة باعتبارها لعبة، وما الذي يريده منها، وكيف يمكن أن تقبل هي القيام بمثل هذا الدور، وهل هي ضحية أم أنها مشاركة في صنع أزمتها؟ ومتى يمكن أن تصل إلى مرحلة “الوعي” بمأزقها وتسعى للخروج منه؟

يبدأ الفيلم بما يشبه قصة من قصص الأميرة الصغيرة التي تقابل فتى أحلامها الخيالي، عندما يلمح بريسلي “بريسيلا” وقد حضرت مع صديقاتها، حفلا صغيرا أقامه في المنزل الذي كان يستأجره في ألمانيا. وكان هو في ذلك الوقت، من عام 1959، يؤدي الخدمة العسكرية في قاعدة عسكرية أمريكية في ألمانيا الغربية، وكانت بريسيلا تقيم مع أسرتها حيث كان والدها الكولونيل توم باركر، يعمل في نفس القاعدة الأمريكية.

العبور من الطفولة إلى الأنوثة: بريسيلا تضع الرموش الصناعية

ومنذ أن وقعت عيناه عليها، أصبح بريسلي مفتونا بهذه الفتاة الطفلة التي لا تتجاوز الرابعة عشرة، بوجهها الطفولي، وكأنه عثر فيها على البراءة التي يتوق إليها، أو كرفيقة طفولة لم يغادرها قط. وهو يوسط زميلا له لكي يطلب من والد الفتاة السماح لها بالذهاب إلى بيته ومشاركته وباقي أصحابه، في سهرة بريئة. وهو ما يرفضه الأب في البداية ثم يشترط أن يأتي الفيس بنفسه لكي يطلب هذا الطلب الغريب، خصوصا وأن فارق السن بينهما كان 10 سنوات (كان إلفيس وقتها في الرابعة والعشرين من عمره).

سوف تتعدد زيارات بريسيلا إلى منزل الفيس، وسوف يترك هو كل شيء ليختلي بها في الطابق الأعلى، ولكن لكي يلهو معها بألعاب طفولية، فلم يقع بينهما قط ما يشين، بل سيحرص هو باستمرار، حتى فيما بعد، أي بعد أن تنضج بريسيلا وتنتقل للعيش معه في ضيعته الشهيرة “غريسلاند” في مدينة ممفيس الأمريكية، على أن يؤكد لها أنهما لن يمارسا ما ينتظر بين أي شاب وفتاة إلا في الوقت الذي يراه مناسباً.

كان صيت بريسلي قد ذاع كثيرا في تلك الفترة، وأصبح بالتالي محط أنظار الكثير من الفتيات في ألمانيا وفي أمريكا والعالم، وكان قد حقق نجاحا مع أغانيه التي انطلقت في عام 1954، وأصبح انجذاب بريسيلا إليه أشبه بدخولها إلى حلم طويل، جعلها تغض الطرف عن أشياء كثيرة ستقع من جانبه خصوصا بعد أن يتزوجا، ثم بعد أن تنجب ابنتهما “ليزا”.

ينتقل الفيلم في الزمن، من ألمانيا أواخر الخمسينيات، إلى أوائل الستينيات عندما يعود بريسلي الى أمريكا ويظل يواصل الاتصال مع بريسيلا، ثم إلى 1963 عندما تذهب بموافقة أسرتها للحاق به هناك، حيث تتطور الأحداث ولكن من دون قفزات مفاجئة بصريا أو ذهنيا، فكل شيء في الفيلم محسوب بدقة شديدة، والمخرجة لا تحيد قط عن هدفها، وهو رصد أزمة فتاة أمريكية عاشت حلمها الخاص إلى أن أصبح كابوسا، ولم يعد هناك مفر من الخروج منه.

يحرص بريسلي أولا، على أن تكمل بريسيلا تعليمها كما تعهد لوالدها، فيلحقها بمدرسة كاثوليكية، لكنها تعاني من عدم القدرة على الانسجام في الدراسة لأنها دائمة التفكير في فارس أحلامها، ولن تتمكن من عبور المرحلة الدراسية والحصول على الشهادة الثانوية سوى بعد أن تلجأ للتحايل والغش، باستخدام اسم الفيس بريسلي!

بريسلي يدرب بريسيلا على الرماية من دون أي هدف

وعندما يأخذها هو إلى لاس فيغاس حيث السهر واللهو والمقامرة، يجعلها تشترك معه لأول مرة في تعاطي العقاقير المخدرة، وبعد ذلك يعطيها عقارا يساعدها على التنبه في المدرسة نهاراً، وعقارا آخر يجعلها تنام في الليل.

الفيس بريسلي كما نراه في الفيلم من خلال أداء الممثل “جيكوب الرودي”، يخفي حزنا دفينا، يعبر أحيانا عن ارتباطه الكبير بأمه التي رحلت مؤخرا، إلا أنه أيضا خاضع تماما للنظرة الذكورية السائدة إلى المرأة، فهو يريدها – كما يقول “نقية”، وهو ما يعني أن يعزلها عن المجتمع، ويحرص على أن ترتدي الملابس التي يريدها هو، وأن تجلس بين جدران المنزل الكبير الذي يشبه بتضاريسه وديكوراته وألوانه القاتمة وإضاءته الخافتة، سجنا كبيرا، تنتظر عودته. كما يرفض أن ترتبط بصداقات، أو تذهب للعمل ولو لنصف نهار، فهو يريد أن يجدها في انتظاره عندما يعود للمنزل- كما يقول لها. وعندما يلهو مع أصدقائه وأقرانه من الشباب، يبدو حينا مثل طفل مشاكس، وحينا آخر الذي يقوم بتسلية بريسيلا، يريد أن يستولي دائما على أنظارها. إنها تظل عنده لعبة، أو نموذجا في خياله، للعفة والبراءة والطفولة، لذلك تتراجع رغبته الجنسية فيها والجسدية وتذبل.

إننا نشهد أيضا ثورات غضبه وعنفه، خصوصا عندما يكون تحت تأثير العقاقير المخدرة التي يتعاطاها كثيرا. ولكنه يعود باستمرار للاعتذار عن سلوكه. هذا التردد بين الرفض الذي يصل إلى أن يطلب منها ذات مرة أن تتركه وترحل، ثم العودة للتمسك بها، يعكس تشتتا، بين احتياجه إلى امرأة بريئة مختلفة عن “نساء هوليوود”، أي فتاة صغيرة يافعة (من الناحية الجسدية هي أقصر منه كثيرا وأكثر ضآلة) وبين رغبته الخفية التي لا تشبع سوى مع نموذج المرأة المثيرة جنسيا (على غرار آن مرغريت وغيرها). وهذا ما يصل إلينا من خلال ما نراه في الفيلم.

صورة زواج بريسيلا من الفيس في الفيلم مع صورة بريسيلا الحقيقية في ذلك الوقت

رغم حضور بريسلي، إلا أن بريسيلا، هي الحاضرة باستمرار في قلب الفيلم. يغيب الفيس بعيدا، عندما ينشغل بالتمثيل في أحد الأفلام في هوليوود ولا يريد أن يأخذها معه. وعندما يسمح لها بزيارته في موقع التصوير سرعان ما يختلق عذرا يدفعها بموجبه للعودة إلى ممفيس حيث السجن الكبير، وحيث يراقبها باستمرار والده ويحرص على عزلها عن المجتمع العام في الخارج، بل ولا يصبح مسموحا لها أصلا أن تجلس في الحديقة الفسيحة مع الكلب الصغير الذي أهداه لها الفيس.

نحن لا نشاهد ماذا يفعل بريسلي في هوليوود، ولا كيف يتفاعل مع أجواء العمل هناك، ولا نلمح شيئا من مغامراته ونزواته النسائية، بل نعرف عن ذلك فقط من خلال ما تطالعه بريسيلا منشورا في الصحف والمجلات، وهو ما يصيبها بالغيرة دون أن تصل بعد إلى الرفض.

إن موقفها المستكين الخاضع الذي يجعل المشاهد يشعر بالاستياء أحيانا، يرجع غالبا، إلى قناعتها في البداية، بدور المرأة التقليدي كما كان في تلك الفترة، وهو دور شبيه بدور أمها التي رأيناها في الجزء الأول من الفيلم، فأهم وظيفة لها هي إرضاء زوجها والاستجابة لما يرغب. لكن مع تصاعد الشكوك بل وتكرار خياناته لها، ثم مع شعورها بأنها قد أصبحت كائنا مهملا غير مرغوب فيه، يبدأ تمردها. وهذا التمرد لن يكون سهلا لأنها واقعة تماما تحت تأثير حبها وتعلقها الشديد بهذا النجم الساطع المرموق الذي تحلم بصحبته ملايين الفتيات.

يتبدى هذا التمرد في البداية، عندما تمارس هي كل ما رفضه إلفيس لها: الملابس ذات الطرز والألوان التي تختلف تماما عن الملابس التي اختارها لها بنفسه، والأحذية ذات الكعب العالي. وغير ذلك. لقد أصبحت الآن امرأة، تريد أن تكون مستقلة وأن تتحرر من هيمنة من لا يريدها أن تنضج.

وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، يصبح من الطبيعي أن تخرج بريسيلا من السجن، أن تغادر طفولتها، وتودع حلمها الذي لم يعد نقيا، بعد أن أصبح فارس أحلامها محطما بفعل الإدمان الذي سيقضي عليه فيما بعد.  وعندما تخبره باعتزامها الرحيل، يسألها وهو مطرق الرأس حزين: هل فقدتك لرجل آخر؟ فتجيبه: بل فقدتني لحياتي المستقلة”.

المخرجة صوفيا كوبولا لا تستطرد في تصوير ما سيحدث بعد أن تنفصل بريسيلا عن إلفيس، بل تكتفي بما انتهت إليه بريسيلا، بتحررها، إشارة إلى مرحلة جديدة ليس فقط في حياتها بل في حياة المرأة الأمريكية عموما، مع انفجار الثورة على القديم في السبعينيات.

المخرجة صوفيا كوبولا مع أبطال فيلمها

فيلم كوبولا، فيلم هاديء، فهي تعرف كيف تبقي الانفعالات محكومة، تحت السطح، كما تميل إلى التعبير الغير مباشر عن التوتر والقلق والوحدة والاكتئاب، من خلال تفاصيل صغيرة في الصورة: الضوء، الصمت، الرد على الهاتف، الإيماءات الصامتة، الوجود الصغير داخل الديكور الفسيح.

لا يوجد في الفيلم الكثير عن “إلفيس” المغني.. فنحن لا نستمع إلى كثير من أغانيه، بل وعندما نشاهد منها شيئا على شاشة التليفزيون، نشاهد ما يعتبره هو من سقطاته رغم نفاق جوقة الشبان الذين يحيطون به، وبدلا من ذلك تستخدم كوبولا الكثير من الأغاني التي يتناقض بعضها مع أغاني بريسلي المعروفة، وتتقاطع معها، دون أن تتناقض مع الحالة الرومانسية التي تعيشها بريسيلا كحلم ممتد.

فيلم “بريسلا” مثل باقي أفلام كوبولا، مكتمل تماما من ناحية العناصر الفنية، وخصوصا الديكورات والألوان وتصفيفات الشعر وتصميم الملابس واستخدام السيارات الفارهة التي تنتمي للفترة، وكلها عناصر أساسية في بناء الشخصية وخلق الجو الخاص (الحالة النفسية) والجو العام في الخمسينات والستينات، إضافة إلى أجواء المكان داخل “غريسلاند”، وعلى الأخص ديكور غرفة نوم الفيس بريسلي بألوانها القاتمة المزعجة وتفاصيلها المبتذلة.

 إلا أن أهم عنصر من عناصر الفيلم الفنية، هو أداء الممثلة الجديدة نسبيا “كايلي سباني” التي نجحت تماما في تقمص شخصية بريسيلا، سواء في مرحلة المراهقة وهي فتاة صغيرة يافعة، أو بعد أن نضجت وكبرت، لدرجة أن المشاهد قد يعتقد أن هناك ممثلة أخرى قد حلت محلها في القيام بالدور في مرحلة متقدمة. إ

إنها تعايش الشخصية بكل رهافة حس، تعبر بعينيها وصمتها، بتطور مشيتها، ونظرتها إلى إلفيس وكيف تغيرت تدريجيا، ثم كيف أصبحت هي الشخصية الأكثر قوة منه بعد أن أصبحت تراه وهو يعاني من آثار الإدمان وبالتالي التدهور الشديد الذي سيقضي عليه مستقبلا.

صوفيا كوبولا معروفة باهتمامها الكبير بالتمثيل وباختيار الممثلة التي تؤدي الدور الرئيسي في أفلامها، وكما سبق أن ساهمت في دفع سكارليت جوانسون إلى قمة النجومية انطلاقا من فيلمها “سقط في الترجمة” (2003) Graceland ، ها هي تصنع من “كايلي سباني” الصغيرة، ممثلة سيكون لها شأن كبير في المستقبل.

ورغم عدم تشابه الممثل جيكوب الرودي من ناحية الشكل والتكوين الجسدي مع الفيس بريسلي إلا أن أداءه للدور كان مقنعا، بنبرة صوته الخافتة وطريقته في الحديث التي تحاكي طريقة الفيس بريسلي، أو حركات جسده في اللهو وفي المرح، وعينيه الناعستين وحركته البطيئة وحديثه المتقطع المرتبك، بحيث بدا كما لو أنه عاجز عن رؤية الواقع من حوله وهو تحت تأثير المخدرات.

هذا فيلم آخر جيد عن شخصيات نعرفها ويعرفها العالم، لا يمجد ولا يشيطن، بل يحاول أن يكون مخلصا في العرض، في تصوير التناقضات والإحباطات، ولكن من دون إصدار أحكام قاطعة نهائية.

فيديو

Visited 2 times, 1 visit(s) today