“برايتون الرابع”.. المصارعة والمراهنة مع الحياة
يسير المخرج الجورجي ليفان كوجواشفيلي في فيلمه الروائي الثالث “Brighton 4th” أو “برايتون الرابع” على خطى أستاذه جيورجي شينجيليا الذي يعد من أبرز المخرجين الجورجيين في الحقبة الروسية، والتشابه بين الثنائي يظهر من خلال المصارع الجورجي السابق ليفان تيدياشفيلي حيث استعان به المخرج الثاني في فيلمه “Khareba da Gogia” عام 1987 مع بطل الدراجات عمر بخاكادزي كبطلين في هذا الفيلم بدلا من اثنين من الممثلين المحترفين حتى يقدما دوري مصارع وسائق دراجات سابقين.
ويعود ليفان كوجواشفيلي في 2021 ليستعين أيضا بنفس المصارع والبطل الأوليمبي السابق في أحداث أفلامه “برايتون الرابع” الذي حصد من خلاله على ثلاث جوائز من مهرجان ترايبكا، أفضل فيلم روائي وأفضل سيناريو وأفضل ممثل والفيلم يعد الاختيار الرسمي لجورجيا ضمن جائزة أفضل فيلم أجنبي، لكنه لم يصل للقائمة النهائية، وأعتمد المخرج كوجواشفيلي على بطل المصارعة السابق في نفس دوره حيث قدم تيدياشفيلي دور “كاخي” البطل الأوليمبي الجورجي السابق الذي حصل على الميداليات والأوسمة في شبابه.
يبدأ الفيلم بمشهد في صالة مرهانات بالعاصمة الجورجية تيبليسي حيث يصطف الجميع أمام شاشات العرض لمتابعة مجموعة من المباريات في الألعاب الجماعية ككرة القدم وكرة السلة تلك الرياضات التي تعد في عدد من الدول هي الدخل الرئيسي والأساسي لمكاتب المرهانات بل وهناك مسابقات كاملة في بعض الدول ترتكز في دخلها ومسيرتها على المراهانات.
تحدث مشاجرة داخل الصالة بين اثنين تنتهي بطرد أحدهما والذي هو في المشهد التالي يقابل شقيقه “كاخي” ويخبره بأنه خسر شقته بسبب الديون، وبعد الظن في البداية أن الشخص الذي طرد سيكون محور الأحداث لكن تنتقل تفاصيل الحكاية إلى الأخ كاخي الذي يبدو وأنه على النقيض من شقيقه حيث كونه مصارع وبطل أوليمبي سابق فشخصيته أكثر واقعية وقوة وأحيانا غير مبالي بما يحدث حوله على الأقل ظاهريا.
ينتقل الفيلم سريعا أيضا إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يسافر كاخي لزيارة ابنه سوسو الذي يقيم في بروكلين ومن المفترض أنه يدرس الطب هناك، ويترك كاخي زوجته المريضة مع كلبه الذي يبدو أنه أكثر ارتباطا به من الزوجة، وبعد أن قام كاخي بحل أزمة شقة شقيقه جاء الدور في بروكلين ليبدأ في مراحل حل أزمات ابنه مع الديون والمرهانات أيضا.
قد يكون المخرج كوجواشفيلي انتقل سريعا مرتين الأولى إلى الشخصية الرئيسية التي سنكمل معها الأحداث والثانية إلى بروكلين لكنه أراد من هذا المدخل التمهيد بأننا أمام تجربة عن المرهانات في حياة الإنسان وخصوصا المجتمع الجورجي، هؤلاء البشر الذين فقدوا الأمل في كل شئ حتى في العمل لكسب الرزق وأصبحوا سجناء سيطرة المرهانات سواء الذين يعيشون في العاصمة أو حتى في بلاد المهجر بعد ذلك، وهو الانطباع الذي يفسر لماذ أصبح كاخي غير مباليا بما يحدث، لأنه عندما وصل إلى أمريكا ووجد ابنه الغارق في الديون لم يكن الأمر مفاجئا أو غريبا فقد عاشه في شبابه ثم مع شقيقه والآن مع الإبن، كأنها دورة حياة.
برغم انتقال الأحداث إلى مدينة بروكلين الأمريكية إلا أننا لم نشعر بهذا فقد كان الانتقال إلى مجتمع جورجي أيضا يعيشون في تلك المدينة حيث المنزل المكتظ بالسكان الجورجيين من مختلف الأعمار وتديره إمرأة عجوز جورجية تظهر وأنها زوجة شقيق كاخي.
تلك المرأة التي تحلم بالعودة للوطن بعد ان ضاعت منها أفضل أعوام عمرها في الغربة بعيدا عن زوجها، وعدد من النماذج الآخرين لمواطنين من جورجيا يعيشون في أمريكا مثل الطفيليات وتحديدا داخل حي برايتون.
يعتبر حي برايتون معقل معظم الدول المنشقة من الاتحاد السوفيتي على غرار جورجيا وأوزبكستان وكازخستان والغريب في الأمر أن هؤلاء هاجروا من بلادهم سعيا وراء الحلم الأمريكي لكنهم هناك وجدوا أنفسهم داخل دائرة مفرغة في قطعة مشابهة للبلاد التي تركوها.
ارتكز كوجاشفيلي على فكرة المرهانات كأساس لفيلمه على طول الأحداث فقد بدأ المشهد الافتتاحي برهان وانهى الفيلم برهان، وتخلل الأحداث مجموعة من المرهانات البسيطة من الجورجيين المقيمين في برايتون.
وكأن المراهنات إسلوب حياة مواطني جورجيا أو محاولات لتعويض فشل تحقيق أحلامهم في المهجر وضياعها أمام الحلم الامريكي المزعوم، لكن المخرج يصب التركيز الأكبر على رحلة كاخي مع ابنه الذي هو مديون بسبب المرهانات لشخص جورجي أيضا وعلاقة الإبن مع “نينا” وهي فتاة من جروجيا أيضا.
بدأ كاخي في مراقبة الأحداث التي تدور حوله وهو يشعر وأنه لم يترك موطنه الأصلي فالحاضر أصبح صورة كربونية من الماضي ولم يعد الأمر فارقا سواء داخل أو خارج الوطن، ذلك الوطن الذي لم يعد كاخي يحمل له أي مشاعر من الحنين وظهر هذا عندما سألته نينا عن افتقاده لجورجيا وجاء رده بأنه يفتقد كلبه فقط.
يبدو أن كاخي لم يكن لديه الرغبة في العودة برغم الصعوبات التي يواجهها سواء على مستوى العمل أو مع ديون ابنه إلا أنه لا يريد العودة للماضي في العاصمة تبليسي وذكريات الحرب وتحول الوطن إلى جهورية سوفيتية اشتراكية، حتى أن أوقات المجد التي كانت في حياته خلال سبعينيات القرن الماضي كانت تحت مظلة الديكتاتورية الروسية، وكأن جورجيا ستظل على مدار تاريخها تدفع ثمن الرهان على روسيا.
لم يستطع كاخي الانفصال عن الواقع – الخاص بالمراهنات- الذي يدور حوله كثيرا فقد أقدم على المراهنة للمرة الأولى في حياته حينما ترك الشخص الكازخستاني يرحل وراهن على عودته مرة أخرى، وبينما كان الجميع يجلسون ويشربون وهم سعداء إذ بكاخي يشعر بخيبة ويدخل في حالة سكون تام لأنه شعر بأن مراهنته لن تكون الاخيرة، وكان إحساسه صحيحا حيث أقدم على رهان اخر “الرهان الأخير” حيث تحدى الدائن في مبارة مصارعة صحيح بسبب هذا الرهان أزال ديون الإبن لكن فقد حياته.
المصارعة والمراهنة وجهان لعملة واحدة ليس فقط في مسيرة بطلنا كاخي لكن في حياة معظم الجورجيين فهناك من يصارعون مع الحياة لكن الغالبية العظمى منهم جنحوا للمراهنات مع الحياة وكثيرا منهم يراهنون على الحياة نفسها.