بدايات فرنسوا تروفو: ابن الواقع وعاشق التشويق
عد فيلمه الروائي الأول ” 400 ضربة ” 1959 الذي تناول حياة مراهق ضائع ومشرد والذي نال عنهُ جائزة أفضل إخراج في كان في العام نفسهُ انتقل المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو أحد رواد الموجة الفرنسية الجديدة في فيلميه اللاحقين ” أطلقوا الرصاص على عازف البيانو ” 1960 ، و”جول وجيم” 1962 إلى موضوع العلاقات العاطفية المعقدة وجموح الإنسان وتقلباته ومعاناته لتحقيق طموحاتهُ وأهدافهُ في الحياة وسط العقبات الكثيرة.
لقد تناول في فيلميه هذين عالم الموسيقيين والمثقفين والكتاب بواقعية شديدة وإحاطة ومعرفة كبيرة بشخصيات مجتمعهُ وسبر عميق لبواطن نفوسها وأهوائها وأسلوبها في الحياة، فشخصية تروفو الناقد تطغى أحياناً كثيرة على شخصية تروفو المخرج ، فنراهُ يعرف كيف يقدم شخوصه في فيلميه هذين لذلك نرى الناس فيهما حقيقيين جداً، يعرفون ماذا يفعلون ولماذا، ومتى يتحدثون ولمن، فتروفو الذي يحركهم هو شخص متمرس في الحياة ومصقول بشدة ، يفهم لغة الشارع الباريسي بشدة لأن معظم وقتهُ قضاه على أرصفتهُ والجزء الأكبر من وقته قضاه في صالات سينماته الكثيرة، وماتبقى في مقاهيه وباراته.
إن شخوص فيلميه هذين ليسوا سوى أناس تلك الأماكن نفسها وليست بالغريبة عنها لذلك معظمها من الفنانين والأدباء والنادلات ومن الطبيعي أن تكون كلها من تلك البيئة لأنها هي التي شكلت تروفو الفتى الضائع اللا منتم لمنزل يحتضنهُ والتواق للسكينة والاستقرار كشخصيات أفلامهُ لكنهُ مثلهم جميعاً لم يستطع الاستقرار والهدوء والعلاقات السليمة مثلهُ مثل “إدورادو سارويان” في (أطلق على عازف البيانو) أو كـ “كاترين”المرأة الجامحة والمتقلبة المزاج لحد الجنون في (جول وجيم) أو مثل “جيم” في نفس الفيلم والذي يظهر أنه أكثر توازناً من كل الشخصيات التي حولهُ لكنهُ في الحقيقة أكثرهم ضياعاً من الداخل!
أطلق على عازف البيانو
شارلي كولير (شارل أزنافور) عازف البيانو المهذب والخجول جداً والذي يتكلم في سره أكثر مايتكلم بلسانه، مُلاحق من قبل لصين أخوه الأكبر متورط معهم ويريدون أن يصلوا إليه عن طريق شارلي والذنب الوحيد للأخير أنهُ أخوه ، ولينا (ماري دوبيز) نادلة الحانة التي يعزف بها تحب شارلي وهو يشعر بالإعجاب نحوها لكنهُ لايستطيع مصارحتها فخوفهُ وخجلهُ أقوى من استطاعته على البوح لذلك يقضي وقتهُ في محاورات داخلية معها وتحليل تصرفاتها معهُ فتريحهُ لينا وتبادر هي تجاههُ وتكون المفاجأة الكبرى لهُ حين تخبرهُ بأنها تعرف ماضيه ومن يكون وأن اسمهُ ليس شارلي وإنما إدواردو سارويان عازف البيانو الشهير وينتقل الفيلم في هذا الجزء إلى ماضي شارلي أو إدواردو العازف الفقير الذي أحب تيريز (نيكول برغر) نادلة المقهى الحنونة والطيبة وتزوجا لاحقاً وأحبا بعضهما كثيراً ثم ساعدهُ زبون غني كان يجلس في المقهى الذي تعمل به تريزا وأصبحَ إدواردو مشهوراً وبدأ اهتمامهُ بتريزا يضعف عن بداية العلاقة وكل وقته وتركيزه أصبح على حفلاتهُ الأمر الذي يدفع تيريزا في النهاية – في مشهد لاينسى أثبت أن نيكول برغر أهم ممثلات عصرها لكن عمرها القصير لم يسعفها – أن تقول لهُ أنها لم تعد تحبهُ ولاتريده وكأنها بدأت تخاف من فقدانهُ بعد أن أصبح مشهوراً فتبادر هي قبل أن يتخلى عنها هو.
لكن إدواردو فوجيء بموقفها هذا وكعادتهُ ارتبكَ وصمت وخرج من الغرفة بدل أن يذهب إليها ويضمها ويهدئ مخاوفها فيكتفي بمونولوج داخلي لهذا الفعل دون أن ينفذه في أرض الواقع وبعد أن خرج ذهبت تيريزا الحزينة ورمت نفسها من النافذة ماتت منتحرة الأمر الذي يحزن إدواردو كثيراً ويؤثر به كثيراً لدرجة أنهُ تخلى عن كل شيء بعد موتها حتى اسمهُ الذي يصبح شارلي كولير بدل إدواردو سارويان ويقرر بدء حياة جديدة ويعمل كعازف بيانو في حانة وفي هذه الحانة يتعرف على لينا الندلة ويحبها وتموت لأجلهُ آخر الفيلم ! وكأن قدر هذا الرجل ألا يحب سوى النادلات ويمتنَ من أجله جميعاً.
لم ينجح الفيلم جماهيرياً لكنهُ لاقى حفاوةً نقدية وكان الفيلم الروائي الطويل الثاني لتروفو وكان تجريب إبن الموجة الجديدة واضح في هذا الفيلم وخصوصاً في الأشكال المونتاجية الجديدة في الشاشة المنقسمة واللغة البوليسية تغلب على كاميرا عاشق هيتشكوك فتبقى متحركة ولاهثة معظم أوقات الفيلم وتكون محمولة معظم الوقت والتصوير كلهُ في الأماكن الحقيقة والشوارع فتلميذ روسليني رائد الواقعية الايطالية الجديدة كان حراً بكاميرتهُ الفرنسية هو ورفاقهُ متمردي الموجة الجديدة ، وتأثر تروفو بهيتشكوك يظهر كثيراً في هذا الفيلم من حيث التشويق والمطاردات.
لقطة من فيلم “جول وجيم”
جول و جيم
جول النمساوي (أوسكار ويرنير) يأتي إلى باريس للدراسة عام 1912 فيتعرف على جيم (هنري سيري) الفتى الباريسي الطيب وتنشأ بينهما صداقة قوية وعلاقة متينة ويلهوان معاً ويتنزهان في شورارع باريس ويرتادان مقاهيها وباراتها لتأتي اللحظة التي يلتقو بها مع كاترين ( جين مورو ) ويلهون معها ويمرحون هم الثلاثة فيقع جول الفتى الطيب بحب كاترين الشابة الجامحة والمتقلبة المزاج بشدة لكن جول رغم معرفتهُ بطباعها الصعبة هذه يقرر أن يتزوجها فحبهُ تجاهها كبير وإعجابه بها أكبر فيتزوجان وينتقلان للعيش في ألمانيا ويبقى جيم صديقهم العزيز في باريس مع عشيقتهُ جيلبرت.
تبدأ الحرب العالمية الأولى وتدخل بها فرنسا ويلتحق جيم في جيش بلاده الذي الذي يحارب ألمانيا وطوال تلك الفترة أثناء وجودهُ في الجبهة ييفكر هل سيقتل صديقهُ الحبيب جول الألماني بنيران مدفعيتهُ الفرنسية دون أن يدري ياترى فهو ليس كذلك ولايستطيع أن يكون كذلك فصداقتهُ مع جول أهم وأسمى من كل حروب الدنيا التي يخوضها البشر الجشعين فما جمعهم هو انسانيتم لاجنسياتهم وأوطانهم لكن سرعان ماتتبدد تلك المخاوف بعد أن أن تنتهي الحرب ويسافر جيم إلى ألمانيا لزيارة جول وكاترين التي تستقبلهُ مع ابنتها سابين في محطة القطار وتأخذانه إلى منزلهم الوادع في الريف ويكون جيم أثناء مروروه بالمدن الألمانية يكتب عن حالها بعد الحرب ويرسل مقالاته إلى جريدة فرنسية.
يسعد جيم بلقاء جول بعد كل هذه المدة والأخير كذلك ويلفتهُ حياتهُ الهادئة السعيدة التي يحيياها بسلام مع كاترين وابنتهما سابين في هذا الريف الساحر لتتبدد أوهامهُ هذه لاحقاً حين يخبرهُ جول عن تصرفات كاترين المرأة الجموحة والمتقلبة التي تتحول فجأة إلى شخص آخر وجموحها الذي يقودها في كل مرة إلى عراقة غرامية جديدة ثم تعود إلى منزل جول من جديد بعد أن تمل من علاقتها الجديدة لكن جول المسالم والهادئ كالأطفال لايتذمر من أفعالها هذه فحبهُ لها حبا خالصاً متحررا من كل الأهواء الأرضية فوجوده معها يكفيه وهولايريد أكثر من هذا “لهذا هي باقية معك لأنها تحب هذا البوذي الذي فيك” هكذا يقول لهُ جيم حين يحكي لهُ جول عن كاترين.
جول إذن أصبح بالنسبة لكاترين كالطفل مثلهُ مثل ابنتهم سابين وليس مستغرباً أن نراهُ حين يكون برفقة سابين يقضي وقتههُ باللعب معها أكثر من الاهتمام بها لأن كلاهما أطفال يعيشون تحت ظل كاترين التي يعني وجودها لهم الأمان والطمأنينية وكاترين تعرف هذا الشيء جيداً لذلك نراها متعاطفة مع ماهية جول ولايزعجها وجوده لذلك نراها لا تتضايق من وجوده وتعرف طبيعتهُ ونشأتهُ الحزينة جيداً “أردتُ أن أحرره من مخاوفه” هذا ماتقولهُ لجيم عندما كانا يتنزهان في الغابة وفعلاً هذا ماحصل بعد معرفة جول بكاترين، لأن جول الارستقراطي الذي تربطهُ علاقات بنساء متعددات في بلده الذي أتى منهُ والذي يبدو أنهُ ذو فكر حر ومنفتح ظاهرياً لكنهُ في الحقيقة يحمل أفكاراً عدوانية ومتطرفة ضد النساء نكتشف من الحوار الذي دار بينهم بعد خروجه هو وكاترين وجيم من العرض المسرحي الذي شاهدوه في بداية معرفتهم بكاترين ونقاشهم حول العرض فكان أكثر ما شغل بال جول هو أن النص لم يتطرق إلى عذرية البطلة وأخذ يتفوه بعبارات حقد ضد النساء.
وهناك مشهد آخر يحيلنا إلى اكتشاف أفكار جول الماضية حين تحدث كاترين جيم عن طباع أهل جول السيئة واعتراضهم على زواجه بها واحتقارهم لها فنصل إلى نتييجة مفادها أن جول تربى في بيئة معقدة غذته بأفكار عدوانية تجاه المرأة لكنَ طبيعتهُ الطيبة جعلتهُ ينقاد نحو الخلاص والتحرر بفكره ووجد خلاصهُ هذا على يد كاترين التي أحبها حباً نقياً متحرراً من كل سيطرة أو تملك فباتت بالنسبة لهُ أسلوب حياة ورؤيا يحيا وفقها ، لكن كاترين لم تكتف ِ بكل نزواتها السابقة وكانت نزوتها هذه المرة تجاه جيم الذي عشقتهُ أثناء إقامتهُ عندهم وعشقها هو أيضاً وكانت نهايتهُ على يدها حين رمت السيارة التي كانت تستقلها وإياه من على المنحدر أثناء مشاهدة جول للحدث وماتت هي وجيم وجاء موقفها الانتقامي هذا رداً على قطيعة جيم لها وعودته لجيلبرت فلم تحتمل كاترين المرأة الساحرة التي لايستطيع أحد الافلات من حبها هذه الهزيمة فقررت أ، تنهي حياتها وحياة جيم ويبقى جول وحيداً في هذا العالم بلاصديقه الوحيد وحبيبتهُ!
رغم موضوع الفيلم الاجتماعي والرومانسي إلا أنهُ يحمل طابعاً تشويقياً ومفاجأت منذ الدقيقة الأولى حتى المشهد الأخير رغم أن هذا التشويق أخف من أطلق على عازف البيانو والكاميرا أهدأ قليلاً إلا أن تروفو يعود ويؤكد في هذا الفيلم أ، التشويق هو العصب الرئيسي لأي فيلم.
* ناقد من سورية