بازوليني: عن الجمالية والدعابة في أوديب ملكاً
السينما، إذن، لابد أن تكون طبيعية.
في الواقع، سوف أمضي إلى مدى أبعد لأقول: “لو رغبت في التعبير عن زبّال من خلال وسط السينما، فسوف ألتقط زبالاً حقيقياً وأعيد إنتاجه.. جسداً وصوتاً”.
ألبرتو مورافيا يقول ضاحكاً: “نعم السينما طبيعية، بالطبع. إذن هي طبيعية. لكن السينما هي صور. فقط عندما تصور زبّالاً بلا كلمات (بالتالي، بأناقة) بإمكانك أن تنتج سينما والتي هي، بطريقة أو بأخرى، ليست طبيعية”.
قلت رداً على ذلك: “ليس تماماً. السينما هي على نحو سيميولوجي، تقنية سمعية – بصرية. بالتالي، الزبّال يكون هناك بلحمه وعظمه وصوته”.
عندئذ يهتف مورافيا: “آه، آه.. يا للواقعية الجديدة”.
فأقول: “نعم، عندما أنتج سينما – لا أعني واحداً من أفلامي تحديداً – بل السينما عموماً، ويتعيّن عليّ أن أجسّد زبّالاً فإنني أجسّده عبر التقاط زبّال حقيقي بتعبيرات وجهه الحقيقية، بجسده، وباللغة التي يستخدمها”.
هنا يتدخّل برناردو برتولوتشي: “أوه، لا.. هنا أنت ترتكب الخطأ. لم تجعل الزبّال يلفظ ما قد يصدر عن نفسه؟ أنت تستخدم فمه لكن يتعيّن عليك أن تضع فلسفة داخل هذا الفم”.. (بالطبع برناردو هنا يحتذي حذو جودار).
هنا يصل النقاش إلى نهايته. لا أحد يقدر أن ينصح مورافيا بالعدول عن اعتقاده بأن “السينما هي صور”، في حين تكون في الوقت نفسه، بذاتها وبمعزل عن الأشياء الأخرى، طبيعية. ولا أحد يقدر أن يجادل برتولوتشي عندما يفرض على الزبّال أن يتكلم مثل الفلاسفة.
لكن دعونا نفترض بأن الجمهور يشاهد زبّالاً صامتاً: زبّال في فيلم معيّن. زبّال صامت، مصوّر على نحو رائع.. بالتالي هي صورة. كيف يتعرّف عليه الجمهور؟ لأنه في الواقع زبّال.. معاد إنتاجه. إنه الرجل، في شخصه، الذي يتعيّن عليّ أن أستخدمه إن رغبت في تجسيده.. حتى في شكل الصور.
والآن، دعونا نفترض أن هذا الزبّال يتحدث مثل هيجل. حسناً، هو زبّال يتحدث مثل هيجل. لم لا؟ في الواقع، مهما تكن الحالة استثنائية وفريدة، ألا يمكن أن يوجد زبّال يتحدث مثل هيجل؟ الزبّال الذي يتحدث عن مراحل العملية الديالكتيكية، هو مثل الزبّال الذي يتحدث ببذاءة، مجرد شخصية في الحياة اليومية، والسينما تعيد إنتاج كليهما كما هما تماماً.. بهذا المعنى، تكون السينما طبيعية على نحو محتوم.
لكن من أين ينشأ كل هذا الخوف من الطبيعية؟ ما الذي يخفيه هذا الخوف إن لم يكن الواقع نفسه؟ أليس المثقفون البورجوازيون هم الذين يخشون الواقع؟
عندما أقول الواقع فإني أعني العالم الفيزيائي والإجتماعي الذي فيه كلّ منا يعيش. كل من يعبّر عن نفسه، عبر أي نظام من العلامات، يستطيع في التحليل الأخير أن يفسّر ويؤول هذا الواقع (إما من خلال رموز – علامات أو رموز مجازية) تاريخياً فقط، أي واقعياً.
ما هي هذه الصورة الخالصة والمحضة لزبّال صامت؟ إنها الفكرة الجمالية لزبّال في ذهن بورجوازي والذي في الواقع ليس له علاقة بذلك الزبّال. الزبّال الآخر، الذي يتحدث عن المنطق وأصوله، هو مشكوك في صحته وصالح لأن يكون مثلاً أو نموذجاً: هو أيضاً في خدمة بورجوازي ليس بينهما أي شيء مشترك. أعني، بين البورجوازي والزبّال لا يمكن أن يوجد إلا رباط من التعاطف المتبادل كذلك الذي قد يوجد بين الإنسان وكلبه. نحن البورجوازيين جميعنا عنصريون.. مع أنني لا أتمنى أن أكون عنصرياً. أنا أريد أن يكون الزبّال زبّالاً، وليس مجرد صورة نموذجية قد أجدها سارّة ومرْضية، أو مجرد أداة نقل للفلسفة التي أجدها مثيرة للاهتمام.
إذن الزبّال في السينما هو نفسه الزبّال في الواقع: وبما أن السينما تقنية سمعية – بصرية، فإن الزبّال في السينما يعرض نفسه ويتكلّم تماماً كما في الواقع.
لكن ماذا عن الزبّال في فيلم معيّن؟
السينما هي تعاقب لا نهائي للكادرات (لابد أنني قلت هذا عشرات المرّات). إعادة إنتاج على مقياس لا متناه في شروط مثالية أو فعلية. جهاز غير مرئي يعيد إنتاج إيماءات وأفعال وكلمات شخصٍ من اللحظة التي يولد فيها إلى اللحظة التي يموت فيها.
الزبّال في “فيلم معيّن” هو زبّال ميت، بخلاف الزبّال في “السينما” الذي هو حيّ. في الواقع، في لحظة موته، يحدث ذلك التركيب السريع للمدّة التي عاشها. آلاف من الأفعال والتعبيرات والأصوات والكلمات تكون مفقودة إلى الأبد، لا تنجو منها غير عشرات أو بضع مئات منها. العدد الهائل من الكلمات التي لفظها كل صباح، كل ظهيرة، كل ليلة من حياته، تكون ضائعة في هاوية لامتناهية وصامتة. لكن بعضاً من هذه الكلمات تتريّث، تتباطأ، على نحو إعجازي. إنها تنطبع في الذاكرة مثل مجموعة من القصائد القصيرة أو الحِكم. هي تبقى معلّقة إلى الأبد في ضوء صباح ما، أو في الظلال العذبة لمساء ما. عندما تتذكّره زوجته أو أصدقاؤه فإنهم يذرفون دمعةً.
في “فيلم معيّن” هي هذه الكلمات التي تمكث وتبقى. بالطبع، إنه لمن الطبيعي أن تختار زبّالاً بلحمه ودمه، حقيقي كما أي واحد منا حقيقي في هذه اللحظة التي نكون فيها أحياء، بكلماته الخاصة، لغته الخاصة، طريقته الخاصة في النطق. لكن مهمتنا أن ننتقي الكلمات المناسبة، ذات الصلة الوثيقة، تلك التي بالمصادفة نجت من الكارثة.
أوديب ميت. الموت قد كرّس رواية كاملة، والتي هي الآن معدّلة لما كانه أوديب ذات مرّة. الموت هو الشرط الضروري “لتحقيق قصة عن حياته”، وبالقدر نفسه لـ “تأليف” فيلم عن حياته.
ما هي المعايير التي استخدمتها لانتقاء اللحظات الكشّافة، المعبّرة، في حياة أوديب.. شكل الموت الذي لم يكن حيّاً أبداً؟
أنا أيضاً، مثل مورافيا وبرتولوتشي، بورجوازي.. في الواقع بورجوازي صغير، روْثٌ، مقتنع أن رائحتي المنتنّة ليست عطراً فوّاحاً فحسب، بل أنها في الحقيقة العطر الوحيد في العالم. بالتالي، أنا أيضاً موهوب بالصفات المميّزة للجمالية والدعابة، الصفات النموذجية للمثقف البورجوازي الصغير. هذا ليس اعترافاً عادياً بل، على نحو محض وببساطة، تصريحاً بالحقيقة، ليس عفوياً تماماً، إن شئت، بواسطة جماليتي ودعابتي. من جهة أخرى، لابد من الاعتراف بأن البورجوازي الصغير ليس أكثر، ليس أقل، من إنسان: ومن الإنسان هو ورث فكرة الزمن.
إنها خرافة، فكرة الزمن هذه، التي على أساسها هو لا يبني فقط حياته – ازدهاره، بصيرته، قيمه الأخلاقية، سمعته الطيبة، الخ الخ – لكن فنه أيضاً.
المسيح كان يهدر وقته حين نصح بأن ليس ثمة حاجة للتفكير في الغد. إن فكرة الغد وفكرة الأمس هما النقاط الراسخة الوحيدة في أذهاننا نحن البورجوازيين. الغد يبرز بوصفه تحقيقاً لجميع أحلامنا عن النجاح (الذي تجاهه نحن حساسون جداً، شديدو البخل، عنيدون، محترسون، حذرون، حكماء ووضيعون). الأمس يبرز بوصفه أساساً للأعراف، التقاليد – القوانين كلها – التي نحن نستخدمها كنقطة انطلاق للوصول إلى أهدافنا الرفيعة (كل هذا يحدث في أوقات السلام التي لأجلها، نحن المؤيدين للسلام والرافضين للعنف، دوماً نحارب).
لكن لنعد إلى السينما. السينما – تعاقب لا نهائي يعيد إنتاج، من وجهة نظر معينة، الوحدة الكاملة للواقع – هي إذن مبنية على نحو محكم على مفهوم الزمن. إنها بالتالي تعمل وفق القوانين ذاتها كما الحياة نفسها: قوانين وهْم ما. في التعبير عنها بالكلمات، هي تبدو غريبة، لكن علينا أن نسلّم بهذا الوهم.. لأن كل من ( كإنسان أو شاعر، وليس كقديس) لا يقبله ولا يسلّم به، عوضاً عن الانتقال إلى مستوى ذي واقع أعلى، يفقد الإحساس بالواقع تماماً. بالتالي، فلا شيء يؤلف الواقع غير وهْمه.
إذن الجمالية والدعابة كانتا تشرفان على اختيار لحظات نموذجية في حياة أوديب، تلك التي ازدادت قيمةً أو جمالاً بعد موت البطل. إنها تتبع الواحدة الأخرى، طوعاً ومن غير إكراه تقريباً، في الترتيب الزمني ذاته كما في حياته، لكن عبر وقت أقصر على نحو غير متجانس – أو بالأحرى، من خلال تأملات الفنان والإجراءات المونتاجية المتاحة – في وحدة كاملة مركّبة من التجربة.
في هذه الحالة، أنا ركّبت الكادرات بطريقة أكثر سينمائية مما هو معتاد أو مألوف (لا أعرف ما إذا هي صارت جميلة أو قبيحة، لكن ما كنت أحاول فعله هو أن أجعلها تبدو جميلة، أن أحصل على “تكوينات جميلة”).
وقد وظّفت أيضاً تقنية الإنفصال عن الأحداث المصوّرة (خذ على سبيل المثال عينيّ أنجيلو فيما هو مبتسماً يراقب السفينكس (أبا الهول) – الكائن الخرافي الذي له جسم أسد ورأس امرأة، في الميثولوجيا الإغريقية – وينتهك قدسيته بطريقة هزلية تقريباً.. لكن في الوقت نفسه، عيناه تجعلنا ميّالين إلى الشك، وعلى نحو فعّال تحرمنا من أي شعور بالإستغراق في عناصر الأسطورة(.
نحن من نتاج سرفانتس وأريوسطو (شاعر وكاتب مسرحي)، إضافة إلى مانزوني. والتراجيديا؟ ألم أرغب في إعادة تراجيديا أوديب إلى الحياة؟ المأساة الساحقة تماماً؟
خاصية المأساة موجودة، على الرغم من كل شيء، بما أن القاسم المشترك للجمالية والدعابة معاً هو الخوف من الموت. هكذا، بوسع البورجوازيين دوماً أن يعتبروا أنفسهم، على نحو غير شرعي، مسيحيين حتى عندما ينسون المسيح ولا يفكرون إلا في الغد.
إلى أي مدى نجحت في المحافظة على الحالة الذهنية الضرورية للجمالية (الرغبة في المضي مبتسمين، أياً يكن الأمر، رغم أن أعيننا تكون ملآى بالألم(.
السبب الآخر لتصوير الفيلم بـ “جمالية ودعابة” هو أنني لم أعد مهتماً كثيراً ببحوث فرويد وماركس. لم أعد على الإطلاق منهمكاً بجدية في المستنقع الأكاديمي الذي يحوّل أوديب إلى سارية تنصبها النظريات الفرويدية أو الماركسية والتي إليها يُشدّ ويُجلد. صحيح أن فرويد، في نهاية الفيلم، يبدو رابحاً لنقاط أعلى من ماركس، إذ يمضي أوديب ليفقد نفسه في حقول الخشخاش الخضراء وقرب النهر حيث كان يرضع وهو صغير. لكن الأكثر من فرويد، مسرحية “أوديب في كولون” هي التي توحي بفكرة مماثلة: أو على الأقل، في الخليط الاعتباطي للإيحاء الفرويدي والسوفوكليسي، يظهر الأخير بوصفه الأقوى.
لنكن واضحين في هذه النقطة: شخصياً أعتبر مسرحية “أوديب في كولون” من أقل تراجيديات سوفوكليس جمالاً وتناسقاً. في الواقع، أظن أنها خرقاء على نحو لا جدال فيه. مع ذلك هي تحتوي على شذرتين أو ثلاث والتي لا يمكن وصفها إلا باعتبارها رفيعة وسامية. هذه الشذرات هي التي كنت أشير إليها.
في ما يتعلق بفرويد، هو لا يعود يحمل ثقلاً في الفيلم أكثر مما قد يمنحه أي هاوٍ. لنأخذ، على سبيل المثال، علاقة أوديب بتريزياس: هو يعرف تريزياس سلفاً، عندما يقوده ذلك الرسول، الذي سوف يظهر في ما بعد في شخصية أنجيلو (دوره، ثانوياً، هو تماماً دور الوسيط بين تريزياس وأوديب – المبتدئ في العرافة – تريزياس). هذا هو الموضع الذي عنده تلتقي اللحظات الماركسية والفرويدية، اللحظات الملوّثة والطفولية حسب اعتقادي
.
آنذاك، مرة أخرى، ينتصر فرويد في مشهد أوديب مع إبي الهول، وهو الشيء الوحيد الذي قمت بتغييره جذرياً (بصرف النظر عن وضع أنجيلو محل أنتيجونه(.
أبو الهول أو السفينكس، في الحقيقة، لم يعيّن لغزاً، بل يسأل أوديب مباشرةً ليوضّح هذا، على مسؤوليته ومن غير إرشاد، اللغز الذي يحتويه داخل نفسه. وأوديب يرفض أن يفعل ذلك، بل يدفع الوحش إلى الوراء، نحو الهاوية التي خرج منها في الأصل.. على نحو هزلي بعض الشيء.
في الحقيقة، أوديب كان يعرف أنه، بدفع الوحش نحو الهاوية، سوف يكون قادراً أن يتزوج أمه: نحن لدينا إذن حالة سمعية – بصرية من الإزاحة أو الاستبدال.
أريد أن أؤكد حقيقة أنني، الآن وأنا في الخامسة والأربعين من العمر، قد انبثقت من بريّة العقيدة(dogma) الفرويدية والماركسية. لكن إلى أين وصلت؟ يقيناً، لم أحلم قط بأني أمارس الحب مع أمي. ربما ينبغي أن أحيل من بقي معي من القراء حتى هذه الصفحة إلى بيتين من قصيدة لي بعنوان “عندليب الكنيسة الكاثوليكية”:
… الحلم الذي فيه تنزلق
أمي نحو بنطالي.
إذا كان لابد من الاعتراف، حلمت بأني أمارس الحب مع أبي (قبالة خزانة ذات أدراج في حجرة النوم الصغيرة، البائسة، التي كنت أتقاسمها مع إخواني) وربما مع أخي أيضاً. وقد حلمت بأني أمارس الحب مع نساء من حجر. بالطبع أنا لا أحصي الأحلام التي كانت تتكرّر عدة مرّات طوال حياتي، حيث كنت أرتقي درجات موحشة، لا نهائية، من السلالم في منازل موحشة وكئيبة.. كنت أبحث عن أمي التي اختفت. لكن، مع ذلك، فقد مضى زمن منذ أن رأيت مثل هذه الأحلام.
سيلفانا مانيانو (الممثلة) ربما لديها الأريج نفسه من زهر الربيع الذي كان ينبعث من أمي عندما كانت شابة، لكن بالتأكيد ليس ثمة ما هو مشترك بيني وبين فرانكو شيتي (الممثل)، باستثناء عظام وجنتيه البارزة قليلاً. ولأنه مختلف عني تماماً – حتى في مركّبات النقص وعقد الشعور بالذنب – فقد اخترته لدور أوديب. إن ما يؤديه ليس دراما شخصية جداً بل تراجيديا. الأحداث، بالتالي، تحرّكها قوى خارجية: على مسرح عالم غامض وملغّز، لكن حقيقي. أوديب يعيش مأساته في جهالة تامة: هو ضحية بريئة لكن عدوانية.
نستطيع الآن أن نقول بأن السينما هي وسط آلي، ميكانيكي، والذي يحصد أو يجني الواقع ويخزنه (في حقيبة، إن جاز التعبير). من جهة أخرى، “في فيلم معيّن”، الواقع يكون ميتاً ومقذوفاً نحو الماضي، حيث يتم جمعه ولملمته في فكرة، في مثال، في تركيب ما.
في خلق مثل هذا التركيب، قمت بتصوير 70 ألف متراً (227 ألف قدم) من الفيلم الخام، مع إنني في الواقع كنت أحتاج إلى 70 ملياراً. بعدئذ، وقبل تقليص هذا العدد إلى حوالي 2800 متراً (أي 9100 قدماً)، تركت التراجيديا حرّة في اتخاذ مسارها الطبيعي. لكن كان هناك مقدار غامض وملتبس فيما يتعلق بوضعي: الجمالية والدعابة، اللتان سمحت لهما بقيادتي، لم تكونا أصيلتين أو موثوق بهما، بل كانتا من العناصر الفاضحة والمخجلة نظراً لكونها نابعة من مثقف بورجوازي. لكن، في الوقت نفسه، هما كانتا، في الواقع، حقيقيتين وجديرتين بالتصديق لانتسابهما إلى إنسان يروي أشياء كانت في ذلك الحين عميقة في الماضي.
لنعد الآن إلى المعضلات التي كنا نناقشها بوصفنا لغويين وسيميولوجيين هواة.
دعونا نفترض أن مورافيا ربما يريد أن يصف سيلفانا مانيانو، كشخصية في واحدة من رواياته، كما فعل أرباسينو مع دوميتا إيركولاني. بالتأكيد سوف ينجز مورافيا تحوّل مانيانو إلى شخصية قصصية بكياسة، برهافة، بموضوعية، بوضوح أكثر مما فعل أرباسينو. مع ذلك، سوف لن يستطيع مورافيا أن يفعل أكثر مما فعله كتّاب آخرون. كان سيضطر إلى استخدام منظومة من الرموز المكتوبة/ المنطوقة (بلغتنا الإيطالية الأثيرة)، مكيّفاً إياها وفق أيديولوجيته الشخصية. كان سيضطر أن يصوغها في نظام أسلوب، أليس كذلك؟ إن الرموز التي يستخدمها مورافيا هي علامات بطبيعتها.
ما هي العلاقة بين التجربة الحقيقية التي يملكها مورافيا عن سيلفانا مانيانو (ومانيانو نفسها في الواقع) وهكذا نظام من الرموز – العلامات؟ هذه هي المعضلة الكبيرة، وهناك شيء واحد فقط أستطيع أن أقوله بهذا الشأن، والذي أنا واثق منه: إن قارئ أعمال مورافيا يشارك في نوع من العملية الكيميائية (هذه دوماً تكون في المتناول عندما يكون التوضيح ضرورياً). هو يحوّل الخاصية العلاماتية للرموز ويعيد بناءها أو تركيبها في مخيلته – أي عبر تجربته للواقع – واقع مانيانو الحي. بالتالي يكون المشهد على هذا النحو: مانيانو في الواقع – تحويل لهذا الواقع في رموز وعلامات – إعادة بناء لمانيانو في الواقع.
هل اللغة، آنئذ، ليست سوى وسيط؟ مورافيا سوف يصف عينيّ مانيانو، وجنتيها الشاحبتين، حاجبيها المرسومين بالقلم، حلقها الذي يعلو وينخفض على نحو إيقاعي، شذا العطر (زهر الربيع) المنبعث منها (وسوف يفعل هذا على نحو رائع): لكن هل كل هذا ليس إلا فعل رجل ساحر قادر أن ينقل تجربته الخاصة بشأن واقع مانيانو إلى تجربة القارئ بشأن هذا الواقع نفسه؟ بالطبع لا ينبغي أن نغفل حقيقة أن العنصر الهام الوحيد في هذا المشهد هي سيلفانا مانيانو نفسها: من خلال اللغة بإمكان المرء أن ينتقل من واقع إلى واقع. يتعيّن على المرء أن يكون براهما (ذات عليا في الفلسفة الهندوسية) لكي يستخدم التجارب المنعكسة للجنس البشري كعوْن له في تأمل الذات.
مرّة أخرى، لنفترض أنه ميكاسMekas أو أي مخرج آخر في السينما (الطليعية) الجديدة (التي أتعاطف معها على نحو شرطي) الذي سوف يصف مانيانو. ذلك سوف لن يُحدث أي فارق على الإطلاق. وأنا أقول هذا لأدحض الحجج والبراهين بشأن هذه الحركة الطليعية الجديدة، التي وعدت بالكثير من التطورات الجديدة.
تخيّل نفسك وأنت تحاول استيعاب الصور المطبوعة على الصفحات المنفصلة للتقويم فيما يتم اقتلاعها على نحو سريع، الواحدة بعد الأخرى. الشيء نفسه سوف ينطبق على ميكاس: من خلال الأغصان الجافة والساكنة، تجاه سماء زرقاء، ينبغي أن ألقي نظرة خاطفة على أطفال يتراشقون بكرات من الثلج، وعلى عشاقٍ شبابٍ مبتهجين يذرعون الشارع الخامس متشابكي الأذرع، وعلى زنجي وسيم يمضي نحو نفق القطار، وعلى أصحاب زوارق فينيسيا (الجندول)، إضافة إلى قسمات مانيانو. الاختلاف أو الفارق سيكون في الخاصية: مورافيا قد يمنح مانيانو الكثير من الواقع والمعنى كشخصية، بينما سوف يتعامل معها ميكاس كما لو كانت شخصية في رواية عن فتيات المدارس.
لكن بصرف النظر عن تأثيرات الموقف الخاص للمؤلف، لابد أن يكون هناك اختلاف بين تحوّل مانيانو المحتمل إلى شخصية عند مورافيا، وتحوّلها عند ميكاس. لقد قلت هذا من قبل مرّات عديدة، غير أن الأمر يستحق التكرار. مورافيا يميّز واقع مانيانو لي كقارئ ضمن بنية نظام لغوي – أسلوبي مؤلف من علامات أو إشارات. ميكاس، من حهة أخرى، يسلّم مانيانو إليّ ضمن نطاق واقعها نفسه. بتعبير بسيط، ميكاس يعيد إنتاجها سمعياً – بصرياً. إعادة الإنتاج السمعي – البصري لمانيانو هي بالتالي ليس إلا إضفاء بعْد رمزي ومجازي عليها.
السيميولوجي – وقد قلت هذا من قبل، لكن كريستيان ميتز، بكياسة، سمّى ذلك حلماً، وسيزار سيْجري، بصفته أستاذاً جامعياً، سمّى ذلك ضداً– لا يصف شخصاً، سيلفانا مانيانو كمثال، بوصفه واقعاً ذا صوت خاص به: مانيانو الحقيقية كلغة.. بالتالي هي لم تصبح بعد فلسفة.
لنفترض أن البروفيسور موريس كانت لديه هذه الفكرة (التي يعتبرها ميتز حلماً ويعتبرها سيجري ومعاونوه ضداً) وأراد أن “يصف بتعبيرات سيميولوجية واقع مانيانو كلغة”، فكيف يمكن لوصفٍ كهذا لواقع مانيانو كلغة أن يختلف لو، عوضاً عن أن تكون مرصودة في الحياة، هي مرصودة على الشاشة، أي كرمز لنفسها؟ سيكون هناك بالتأكيد بعض الفروقات والاختلافات (رائحة العطر مثلاً)، لكن في الجوهر، في سيميولوجيا مانيانو الحقيقية بوصفها لغةً، وسيميولوجيا مانيانو بوصفها رمزاً لغوياً، سوف لن يكون هناك اختلاف.
سيلفانا مانيانو تعيش في زمن محدّد. غير واعية لجمالها، بل وربما تزدريه. هي تكرّس نفسها لمهمات وواجبات يومية متواضعة، لأطفالها وعائلتها، لأمور هي هامة بالنسبة لأي امرأة. كل واحدة من هذه النشاطات والفعاليات لها أمد، في ما يتصل بالثواني أو الدقائق أو الأيام. ما يخطر في الذهن هو التقدم البطئ، المتعذر تغييره أو إلغاءه، والذي يميّز الطريق في اتجاه مرض السل.
إذا كنا نرغب حقاً في التوصل إلى تفاهم مع واقع مانيانو، يتعيّن علينا أن نتوصل إلى تفاهم مع الزمن الفيزيائي الذي فيه هي تعيش مثل أي كائن آخر. صحيح أننا نستطيع أن ننكر كل هذا، مثلما تفعل – أو عاهدت نفسها أن تفعل – الحركات الطليعية المتعددة. هذا يقتضي ضمناً، قبل كل شيء، التدنيس الإبتدائي للفكرة التي نحملها جميعاً عن الزمن. في الواقع، ليس ثمة طريقة للقبول بتسوية والعيش بسلام، مفكرين فقط في الغد، أفضل من استخدام الكلمات لهدم الزمن.
أنت لا تستطيع أن تعتبرني واحداً من أولئك المتبطّلين أو مهرجي البلاط. إني أمضي باسلاً لمجابهة معضلة الزمن كما فعل فلوبير. بكتابة السيناريو، كمعالج لآثار أدبية مختلفة، أنا أقدم جوكاستا من خلال الزمن، رغم أنها شخصية سرمدية: ليس لديها غير الإنغماس في الحسيّة والتصميم على ألا تعرف. لكن كم من غنى وتنوّع نجد في كائنات، مدّة حياتها لا تدوم إلا للحظةٍ! ويا له من ظهور لا يُصدّق، متفكك واستحواذي، في الزمن الذي يتبناه هؤلاء! غايتهم الموت الذي سوف يشذّب حياتهم إلى سلسلة من “لحظات سامية”. سوف يحوّلهم – الموت – إلى ألغاز والتي، في الوقت المناسب، سوف تتعرّج وتتضاعف من غير تنامٍ، مثل قناديل البحر في المياه. هذه تغيّر وتبدّل أشكالها بطرائق عجيبة حتى يجمّدها الموت في شكل محدد (لكن كيف يكون ممكناً أن تموت مثل هذه الأشياء؟ أريد أن يكون واضحاً لدى الآخرين، أنني لا أصدّق أن مخلوقات كهذه يمكن أن تكون فانية(.
عند هذه النقطة – بعد طرحي معضلة العلاقة بين واقع مانيانو بوصفه لغةً في الحياة وواقعها كلغة تخلو من العلامة “في السينما” – ينبغي علينا أن نبدأ في مقارنة واقعها كلغة في الحياة وواقعها كلغة تخلو من العلامة “في فيلم معيّن”: ذلك هو، بقدر ما يتعلق الأمر بي، واقع مانيانو – جوكاستا. (..) لكن، في ذلك الحين، ثمة الكثير من الكلام عن الشخصيات في الأفلام (..) وعن النواحي الرفيعة التي بها يتعامل المخرجون معها.
(1967)