“باربي”.. إعادة النظر في التفاهة

حسام الخولي

“ما الجميل؟ ما القبيح؟ ما العظيم؟ ما القوي؟ ما الضعيف؟ من هو الفنان وما هو الفن؟ لا أدري، لا أدري”.

يتساءل جورج ريمون في كتاب “رسائل الحرب” الذي كتبه أثناء فترة مضطربة في التاريخ، في زمن الحرب العالمية الأولى، فهو لم يعد يؤمن بالفن أو بالفنانين، “لم يعد يؤمن بالإنسان”، كان ذلك نتيجة استقبالات خاطئة للفن، كانت المرة الأولى التي تتغير فيها قيمة الأشياء ورموزها، ويختلف المعنى بين العمق والتفاهة ربما نتيجة العدمية التي خلّفتها الحرب.

قد تبدو اللحظة الحالية شبيهة نوعًا ما، إذ يرتدي نصٌ ما، حُلّة التفاهة ليخبرنا أعمق تصوّر عن الإنسان المعاصر، بينما يدّعي نصٌ آخر عمقا وهميا من الكاتب، وتبدو هذه الأزمة واضحة في غالبية التعليقات التي صدرت على فيلم “باربي” Barbie الذي اتهمه البعض بالتفاهة المطلقة، وقال آخرون إنه واحدٌ من أعمق الخطابات التي أدانت الحركة الرأسمالية الحالية.

منذ الإعلان عنه، دخل الفيلم في مساحات جدل لا ينتهي بإمكانية إتاحة عرضه ورفض بعض الدول العربية لهذا العرض نتيجة ترويجه لأفكار “غير أخلاقية”، بينما يستنكر كل متفرج تلك النظرة الغريبة بعد المشاهدة، وربما تسبب هذا المنع في سعي الجمهور العربي أكثر من غيره للمشاهدة.

هذا الاستقطاب عزّز من الرغبة في المشاهدة، وجعل فيلم “باربي” يحطّم الرقم القياسي للأرباح، إذ وصلت إيرادات الفيلم حتى الآن فقط إلى ما يزيد عن المليار الدولار وبعد عشرة أيام فقط من طرحه في صالات العرض، وحققت مخرجته جريتا جيرويج، الرقم القياسي لأرباح الأفلام النسائية (أي تلك التي أخرجتها نساء) بعدما أعلنت شركة “وارنر بروذرز” المنتجة للفيلم، تحقيق 459 مليون دولار من دور السينما في أمريكا الشمالية، و572.1 مليون دولار على مستوى العالم ليتجاوز إجمالي الإيرادات أكثر من مليار دولار.

نصف قرن من تكرار باربي

فيلم “باربي” من إخراج جريتا جروينج، وهي التي كتبت له السيناريو مع زوجها نواه بومباخ، ومن بطولة مارجو روبي ورايان جوسلينج وأريانا جرينبلات وكينجسلي بن أدير، وويل فيرل كأفضل ممثل في العمل. يروي الفيلم قصة الدمية باربي، التي تكتشف أنه يتعين عليها عبور حياتها الخيالية في “باربي لاند” والذهاب إلى العالم الحقيقي لملاطفة الفتاة التي كانت تمتلكها في العالم الحقيقي، ويجعلها هذا الأمر تكتشف أمورا خفية عن حياتها وحياة الآخرين.  

كانت فكرة الدمية باربي قد ظهرت قبل أكثر من نصف قرن في السينما، جمعت منذ ذلك الوقت معجبات من كل دول العالم ومن مختلف الأعمار، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف الولع بالدمية باربي كفتاة مثالية مذهلة، في صورة “الجسم النحيف المثالي”، وهي صورة حاول الإعلام الغربي تصديرها منذ عشرينيات القرن الميلادي الماضي.

جسّدت باربي حصانا رابحاً لدى الخطاب الرأسمالي منذ وجودها، باعتبارها فتاة كاملة الأوصاف والهيئة، تجعل الفتيات الأخريات يسعين بكل الطرق للتشبه بها ظاهريًا، وأنتج هذا التصوّر نمطية في النظرة للمرأة التي تحتاج إلى التعديل المستمر في شكلها للتشبه بتلك المرأة الخيالية العظيمة.

مع مرور السنين، كتبت بعض الفتيات ما يمثل تعارضا مع تلك النظرة التسليعية للمرأة المعاصرة التي لا يجب أن تعتمد على شكلها فقط، وربما تقاطعت تلك النظرة مع مخرجة الفيلم جريتا جيرويج التي قدمت مخاوفها ورغباتها كسيدة في العديد من الأعمال التي شاركت فيها. فقط علينا تتبع خطوات جريتا جيرويج وزوجها نواه بومباخ لنطرح تصورا مختلفا في استقبال فيلمهما عن طريق إعادة تفكيك التفاهة والعمق وأشياء أخرى.

نقد إجتماعي لباربي السلعة

في عام 2012 قدم الاثنان معًا فيلم “فرانسيس ها” الذي يبدو في أعمق تأويل له شبيها بالطرح الذي قدمه فيلم “باربي”، سيناريو متحرر تمامًا من الجنس والطبقة والنوع، يعبّر عن مخاوف إنسانية أصيلة متجذرة في عقل زوجين أذكياء تمكنا من تقديم أفكارهما العميقة في أبسط شكل ممكن ليفهمها الجميع.

يقدم فيلم “باربي” تصوّرا معكوسا للحياة التي كانت تعيشها بطلة فيلم “فرانسيس ها “كفتاة تقرر أن تعيش حياتها بأبسط إمكانات ممكنة، ففي باربي لدينا قصة تبدأ من وجهة نظر الدمية باربي التي تعيش في عالمها الخيالي الكامل وتصل إلى ذروتها مع احتكاكها المباشر مع الحياة الواقعية.

تتحطم كل تصورات الدمية لا السيدة التي تحملها، مع الاحتكاك بالحياة الطبيعية، وتحاول الدمية تقبل ضعفها وحيرتها ومحدودية قدرتها، وتساعدها السيدة التي كانت تملكها في تخطي ذلك باعتبارها تخطت العجز في مرحلة سابقة. “هل للأمر علاقة بالموت؟” هكذا تتساءل باربي في كل مرة، أن العجز يبدأ من هذا السؤال للجميع.

تقول المراهقة ساشا (أريانا جرينبلات) ابنة البطلة لباربي إنها “تجعل النساء يشعرن بالسوء تجاه أنفسهن منذ أن اخترعت، لقد أعدتِ الحركة النسوية 50 عامًا للوراء أيتها الفاشية!”. بعيدًا عن إنقاذ العالم، يبدو أن باربي ساعدت في خلق ديستوبيا حيث “ينظر الرجال إليّ كشيء كامل وسلعة جنسية”- حسبما تقول.

في المقابل تعترف باربي بكل إدانات قدمها أعداء الحركة النسائية، السيطرة المفرطة من كل الأطراف، والعالم النسائي الذي يستبعد الرجال الذي تمثله بأنانية موازية بأنانية الرجال الذي يستبعدون النساء من عالمهم، يدين الفيلم من خلال باربي النظرة المتطرفة من الجانبين بشكل تهكمي ساخر.

كل هذا النقد الإجتماعي والثقافي مرتبط بأحد أكثر المنتجات شهرة في الوجود كمنتج رأسمالي استهلاكي، يمثل النجاح الذي يتمتع به الفيلم، زيادة أسعار أسهم شركة ماتل المنتجة، كما يؤكد على حقيقة أنه من المستحيل إلى حد كبير احتضان الفن دون احتضان النفاق، لا تبتلع الرأسمالية دائمًا الفن بالكامل، وفي بعض الأحيان تزدهر على الرغم من ذلك، أو كما يعلق ديفيد فير بالقول إن الفيلم يمكن أن يكون أكثر الأفلام تخريبية في القرن الحادي والعشرين حتى الآن.

درة مشروع قديم لزوجين

تخرج كل تلك الأفكار في شكل تعليقات سريعة على الأحداث الهادئة الساخرة تمامًا، ويبدو الفيلم طفوليا بينما تمثّل النظرة العامة إدانة لكل شيء في الفيلم، للسعي النسائي للسيطرة من خلال الكمال التي تمثله باربي، والسعي الذكوري للتملك المعتمد على القوة الجسدية، ويبدو الجسد هو الموضوع الأساسي للعمل عمومًا، الحقيقي والمتخيل، الرجل والمرأة، كلاهما يتعين عليهما إعادة النظر إلى محورية النظرة للجسد، وربما تجاهل تلك النظرة التي تضر بكليهما.

نتساءل من خلال هذا الفيلم: ما الذي يدعو إلى وصف عمل ما بالتفاهة عمومًا؟ هل يبدو ذلك لمجرد تقديم الفكرة في قالب طفولي بسيط؟ لقد تحرر فيلم باربي من فخ النسوية والذكورية وخاض في مساحة أكثر عمقًا للإنسان المعاصر بشكلٍ عام.

في لحظة مشتتة تحمل من الغضب المبرر لكل طرف تأويله الفردي، والاستسهال الإجباري في تناول الأعمال الفنية مرة بعد أخرى، واتهامات التفاهة والتفاهة المضادة التي باتت تقذف ببساطة دون تريث، وتدرج الاستيعاب باختلاف الطبقات ومدى فهمها للعالم المعاصر المعقد، ومحدودية التجربة البشرية التي تمنع أحيانًا من استيعاب الأيدلوجيات، ما يمنع من تذوق يسريالية متجاوزة للجنس والطبقة والموقع في نص يمثل أقسى وأقصى حوار مع نظام عالمي عاجز ومعجِّز، يبدو فيلم باربي درّة مشروع زوجين يحاولان معًا الكتابة عن مخاوفهما، للنظرة العالمية للرجل والمرأة دون إدانة أحدهما على الآخر.

Visited 2 times, 1 visit(s) today