بؤس الأفلام أم أفلام البؤس؟

من بين الملامح البارزة التي تميز معظم ما ينتج على ساحة الفيلم الوثائقي في العالم العربي حاليا، ذلك النزوع إلى تصوير البؤس الإنساني في مستوياته الأدنى، والتركيز على قصص وحكايات البشر ممن يعيشون على هامش المجتمع، بحيث أصبحت تجربة المشاهدة من فيلم إلى آخر، تبدو متكررة، وكأنها تجربة “موحدة”، عمادها رغبة دفينة لدى صناع هذه الأفلام، في سبر أغوار الواقع، بدعوى أن الفيلم الوثائقي هو “فيلم التعبير عن الواقع” في مقابل الفيلم الروائي الذي هو – بالضرورة عند هؤلاء- تعبير عن الخيال السينمائي.

وبدعوى التعامل مع الواقع، يبحث معظم مخرجي الأفلام الوثائقية العرب عن مواضيع لأفلامهم، تتشابه مع بعضها البعض، ليس فقط في طبيعة الشخصيات التي تظهر في هذه الأفلام أو تدور الأفلام نفسها عنها، بل في تكرار الأسلوب نفسه الذي يقوم بصفة أساسية، على إجراء مقابلات من وراء الكاميرا مع تلك الشخصيات الهامشية المستبعدة من دائرة الوجود الاجتماعي، وهي مقابلات لا يعرف المخرج أين وكيف يديرها، أين تبدأ وتنتهي، وما الذي يمكنه أن يستخدمه منها وما يستبعده، بل يبدو أن هناك ولعا خاصا بتسجيل وعرض كل ما ترويه تلك الشخصيات البائسة، باعتبار أن شهاداتها أكثر صدقا وتأثيرا من الصور التي تنقل وتترجم وتعبر- عادة- بلغة السينما، عن موضوع الفيلم وطبيعته وقضيته.

مقاعد وحوارات

لا يهتم المخرجون العرب الشباب، بالصورة وبتركيب الفيلم وبنائه والتعامل معه باعتباره وسيطا ديناميكيا يملك إيقاعه الخاص وجمالياته الخاصة، يمكن أن يضارع الفيلم الروائي في تشويقه وجاذبيته، بقدر اهتمامهم بما تقوله الشخصيات التي تجلس أمام الكاميرا، والكاميرا نفسها تبدو مهتزة تتأرجح يمينا ويسارا بحيث تربك عين المتفرج، التي تتأرجح معها أيضا، وذلك تحت دعوى أن تلك هي الواقعية، وأن السينما المسواة المصقولة أي المصنوعة جيدا، تخون الواقع ولا تعكس حالة البؤس الاجتماعي كما تعكسها الصورة المهتزة.

هذه الأنماط من الأفلام الوثائقية لا يصح ان نطلق عليها أفلاما، فهي عبارة عن مزيج بين “التقرير التليفزيوني (الريبورتاج) وبين البرنامج التليفزيوني الحواري.

وإذا كان بعض صناع هذه الشرائط يستخدمون أحيانا بعض الصور الحية المصورة من الواقع نفسه، من الحياة، من الشارع، ومن شتى الأماكن، إلا أن التركيز الأساسي لصانع الفيلم يكون على المقابلات، لأن الاعتقاد السائد أن المقابلة المصورة يمكن أن تكون أكثر بلاغة في التعبير عن القضية. والمشكلة أنهم بهذا الاستسهال يجعلون صنع الفيلم عملية “عشوائية” يمكن أن يقوم بها أي إنسان، دون أن يكون لديه أصلا مخطط واضح لفيلمه: موضوعه، تكوينه، بناؤه، إيقاعه، مفرداته، لقطاته.

إن تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك “القيد” الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع الذي يناقشه أو يعرضه. فالكاميرا ليست هي التي تصنع الأفلام بل يصنعها السينمائي الذي يقف خلفها، تماما كما أن القلم (أو الكيبورد) ليس هو الذي يكتب للكاتب مقالاته.

ومن أبرز المشاكل التي نشاهدها في هذا النوع من “أفلام البؤس” إذا جاز التعبير- أنها تبدو بلا بناء ولا حبكة ويغيب عنها الترابط المطلوب في أي عمل فني، أي أن الفيلم يمكن أن يستمر لساعات أو ينتهي بعد دقائق، فلا إحساس بالزمان ولا بالإيقاع هناك، لأن المخرج عادة ما يقع في غرام كل ما يكون قد صوره، وخصوصا أن اهتمامه الرئيسي ينصب عادة، على إبراز “الموضوع” و”القضية” وليس بناء عمل سينمائي متماسك يملك الجدة وقوة التأثير بالفن وليس بالشعارات. والملاحظ أن هذا النوع من الشرائط المصورة انتشر انتشارا كبيرا بوجه خاص، بعد ظاهرة الانتفاضات والثورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تحت تصور أن الواقع المتغير الملهتب، يوفر مادة ثرية يكفي تصويرها وتعليبها في فيلم أو شريط، لكي تكتسب قوتها من تلقاء نفسها. ومن المؤسف أيضا أن كثيرا من المهرجانات، سواء التي تقام في العالم العربي أو الخارجي، تسعى وراء ها النوع مما تطلق عليه “أفلام الثورات والربيع العربي” وتمنحها الاهتمام أو حتى الجوائز بغض النظر عن مستواها، فقد أصبحت بمثابة “موضة” رغم أن التليفزيون بتقاريره اليومية، يسبقها كثيرا في تغطية مثل هذه الأحداث. ولاك أن الاهتمام منبعه سياسي وليس فني أو جمالي، غير ان صناع هذه الأفلام يشعرون بغبطة خاصة لاختيار أفلامهم في المهرجانات كأنها تقدم مفهوما جديدا للسينما!

البؤس والواقعية

الملحوظة الأخرى التي تتبدى في معظم أفلام “الواقع” كما يحب صناعها أن يطلقوا عليها، هي سمة البؤس والكآبة والمغالاة الشديدة في تصوير البؤس بحيث لا يعد هناك أي مخرج للإنسان من وضعه الاجتماعي، وكأن البؤس حالة سرمدية قدرية مغلقة لا يملك المرء أمامها سوى الاستسلام أو التباكي عليها.

لم تكن فكرة الواقعية أن ننقل البؤس دون أن ننير الشاشة ببصيص ضوء وأمل في إمكانية التغيير. وهناك فارق كبير لاشك، بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الانسان، أما الواقعية فتهتم أساسا، بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه. ولعل من المهم هنا أيضا أن نؤكد أن فكرة تصوير الواقع كما هو لا تمت بصلة إلى الواقعية، بل هي فكرة ثبت بالتجربة، مدى سذاجتها، فليس هناك فيلم يمكنه أن يزعم أنه “يصور الواقع”، بل إن أكثر الأفلام مباشرة، تعكس “رؤية” المصور والمخرج لما يراه في الواقع، فزوايا التصوير والمونتاج وتركيب الصوت والمؤثرات والتعليق.. كلها تتدخل في “صياغة” واقع آخر يشاهده المتفرج، هو واقع الفيلم وليس واقع الحياة.

وليست الواقعية في النهاية، هي الشكل الوحيد للفيلم الوثائقي. من الضروري أن يستمد الفيلم الوثائقي مادته من الواقع ومن الحياة، ولكن في الحياة الكثير جدا من الأشياء غير الفقر وحياة الهامش والتدني الاجتماعي والأخلاقي والبؤس والكآبة، بل ويمكن أيضا القول إنه من جوف الصورة التي تعكس البؤس يمكننا أيضا أن نرى قوة الإرادة والرغبة في الاحتفال بالحياة، شريطة أن يعرف السينمائي أساسا، كيف يقتنصها وكيف يعبر عنها، بدلا من تلك الرغبة الدائمة، في صدم العين.. وصفع المجتمع!

Visited 29 times, 1 visit(s) today