“النافذة الخلفية”.. التلصص بين هيتشكوك وسارتر
د. ماهر عبد المحسن
عندما أخرج ألفريد هيتشكوك فيلم “النافذة الخلفية” Rear Window عام 1954، كان يقدّم تحديا جديدا لنفسه قبل جمهوره، مثلما حدث مع أفلام أخرى مثل “الحبل” Rope و”الطيور” Birds The و”نفوس معقدة” psycho. فقد اعتاد هيتشكوك تقديم الغريب والمثير من أجل تحقيق أكبر قدر من التشويق.
وهيتشكوك ليس مجرد مخرج لأفلام الجريمة، لأن الجريمة عنده وسيلة لتحقيق الإثارة والتشويق ومن ثم جذب انتباه المتفرج منذ البداية وحتى النهاية، غير أن مسألة الإثارة والتشويق تتجاوز المتعة الحسية التي يصل إليها المشاهد، لتصل إلى عقله وفلسفته التي على أساسها يدبر حياته، كما تمتد لتصل إلى عملية الإخراج نفسها التي تتحول إلى مغامرة يكون هيتشكوك نفسه جزءا منها.
بهذا المعني لن يكون من الإنصاف النظر إلى أفلام هيتشكوك على أنها مجرد أفلام بوليسية تستنفد الغرض منها بمجرد تحقيق التشويق والإثارة لدى الجمهور، خاصة أن هذه الأفلام مازالت هدفا للمشاهدة من جانب محبي السينما، وموضوعا خصباً للكتابات النقدية من قبل النقاد المعاصرين بالرغم من مرور سنوات طويلة على إنتاجها.
ينطبق هذا الكلام على معظم أفلام هيتشكوك، وينطبق أكثر على فيلم “النافذة الخلفية”، الذي قام على فكره بسيطة ومبتكرة لكن لا تخلو من الدلالة الفلسفية العميقة، وهي تصوير الأحداث من منظور شخص مقعد اعتاد على مراقبة الجيران من النافذة الخلفية لبيوتهم. فالفكرة تثير الكثير من التساؤلات الفلسفية الوجودية حول علاقة الأنا بالأخر، ودور “النظرة” في تحديد طبيعة هذه العلاقة.
من هذا المنطلق، اخترنا بعض الأطروحات التي قدمها سارتر في كتابه “الوجود والعدم” لتكون مدخلا لقراءة فيلم “النافذة الخلفية” على صعيد فلسفي يمكن أن يساعد في الكشف عن الأبعاد الفكرية الأكثر عمقا، والتي تتجاوز المنحى البوليسي للفيلم.
تدور الأحداث حول المصور الصحفي جيف (جيمس ستيوارت) الذي أصيب في ساقه وأقعدته الإصابة لمدة سبعة أسابيع في المنزل، فوق كرسي متحرك. وإزاء حالة الملل التي يشعر بها في سجنه المنزلي، لم يجد سوى الانشغال بمراقبة الجيران للتخلص من هذا الشعور بالرتابة المتكررة التي جعلت أيامه متشابهة تبعث على الضجر.
التحدي الذي واجه هيتشكوك هو أن يصور الجيران من منظور جيف، بمعنى أن المُشاهد، مثل جيف، يرى حركة الجيران وتصرفاتهم من بعد، أي من دون أن يسمع أصواتهم، وهنا ينبغي على المُشاهد أن يسلم بالتفسير الذي يقدمه جيف على اعتبار أن ثمة توحداً بين المُشاهد وبطل الفيلم، فأنت تشاهد الفيلم وكأنك محبوس مع جيف في شقته الضيقة المطلة على نوافذ الجيران.
علاقة جيف بالآخرين لا تكون من خلال النظرة فقط، لكن من خلال الحوار كذلك، فهناك شخصيات تزوره يوميا وتتبادل معه الحديث وترتبط معه بعلاقات. والمفارقة هي أن كاميرا هيتشكوك تجعل المُشاهد لا يتلصص على جيران جيف فحسب، لكن على جيف نفسه وعلاقاته بزواره أيضا، خاصة ليزا (جريس كيلي) عارضة الأزياء التي وقعت في حبه وتسعى إلى الزواج منه. يؤكد ذلك حركة الكاميرا التي تمضي ببطء، كأي متلصص يسترق النظر، لتمسح البيوت التي تطل عليها نافذة جيف، ثم تواصل حركتها ورؤيتها المدققة، الساقطة على التفاصيل، حتى تصل إلى نافذة جيف، وتدخل إلى شقته لترصد أشياءه المبعثرة وملامح الفوضى البادية من حوله.
إن “النظرة” عند سارتر فعل وجودي، من شأنه أن يجمد الأشخاص ويحيل ذواتهم إلى موضوعات، فالذي يقوم بفعل النظر يجعل الآخرين جزءا من عالمه، ويصير هو مركزا لهذا العالم، وبنفس المعني يمكننا أن نفهم موقف جيف، فهو مركز العالم عندما يتلصص على جيرانه ويمنح نفسه الحق في تقييمهم وإصدار الأحكام عليهم، لكنه في الوقت نفسه يكون جزءاً من عوالم أخرى مركزها أناس آخرون يتطلعون إليه ويقتحمون خصوصيته مثل زواره الذين يترددون على شقته ويمنحون أنفسهم الحق في التدخل في حياته تحت مسمى الحب أو الصداقة أو الواجب.
العلاقة مع الآخرين، كما يشرحها سارتر، لها بعد معرفي، لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا من خلال الرأي الذي يكونه عنه الآخرون، وهو يتصرف على هذا الأساس، وتتضح هذه المسألة في علاقة جيف بإستيلا (تيلما ريتر) السيدة التي تقوم بتمريضه كل يوم، وتنجح في الكشف عن شخصيته من خلال الحوار المدعوم بمنطقها البسيط، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة، وهي علاقة وجودية أيضا يطرحها الفيلم على هامش علاقة جيف بالجيران.
وتظل علاقة الأنا بالآخر، لدى سارتر، ذات بعد إشكالي لأنها تجعل الإنسان المرئي من قبل الآخرين مهددا دائما بمشاعر سلبية من شأنها أن تفقده قدراً كبيراً من حريته وقدرته على الحركة مثل مشاعر الخوف والخجل. وهذا الرأي يفسر لنا الانفعالات النفسية المختلفة التي يمر بها جيف وهو جالس فوق كرسيه المتحرك. فهو يشعر بالأمان عندما يتلصص على الآخرين دون أن يكون هو موضوعا لتلصص الآخرين عليه، لكنه ما يلبث أن يفقد هذا الشعور بالأمان عندما يشعر بأن ثمة أعيناً أخرى تراقبه وتضبطه متلبساً بفعل التلصص. فهو يشعر بالخوف كلما تلتقي عيناه بعيني ثورولد (رايموند بور) تاجر المجوهرات الذي يشك في أنه قتل زوجته، وكان يشعر بالخجل كلما لاحظ أن بعض الجيران يغلقون نوافذهم في وجهه عندما يشرعون في ممارسة علاقاتهم الحميمية.
يؤكد هذا المعنى حرص جيف على إطفاء الأنوار في شقته في الوقت الذي تكون فيه نوافذ الآخرين مضاءة، وهي حيلة ماكرة تجعله رائيا دون أن يكون مرأيا، أي أن يكون مسيطرا على العالم المحيط به، دون أن يكون هو موضوعا للسيطرة.
إن استخدام جيف للعدسة المقربة في مراقبة الجيران إنما يعني رغبته في إشباع المزيد من الفضول والرغبة الدفينة في إحكام السيطرة على المشهد الحياتي اليومي، الذي يبدو في معظم الأحيان، مسرحية مثيرة ومسلية في آن. يتضح ذلك في اللقطة التي تعمد فيها ليزا إلى إسدال الستائر على نافذة جيف من الداخل قائلة: “يكفي هذا”، معلنة عن بداية عرض ستكون هي بطلته أمام جيف، ما يعني أن الفضول هو أقوى غريزة تحرك الإنسان، وأن الرؤية هي الأداة الأكثر فاعلية لإشباع هذا الفضول.
ولأن الجحيم ليس دائما هو الآخرون، كما في مسرحية ” الجلسة سرية”، فإن سارتر يعترف بأهمية الآخرين في حياة الفرد، فهم الذين يساعدونه على إعادة اكتشاف نفسه، وهم الذين يمنحونه التقدير والشعور بالأهمية، وفوق كل ذلك، هم الذين يقدمون له الدعم ويتعاونون معه في تحقيق أهدافه ورؤاه، مهما بدت مستحيلة أو خيالية، إذا ما آمنوا به وتوحدت رؤيتهم مع رؤيته.
جيف يشك في وقوع جريمة قتل في منزل تاجر المجوهرات، من خلال مراقبة تصرفاته على مدار أيام متتالية حتى يتأكد من أنه القاتل، غير أن الأدلة المادية تنقصه، فيستعين بصديقته ليزا، وممرضته إستيلا، وصديقه المحقق بول (ويندل كوري)، للإيقاع بالجاني، وفي هذا الموقف لم يكن هناك بد من الوقوف إلى جانب جيف ومشاركته التلصص على الجيران للكشف عن الحقيقة، وهنا يتحول الوعي الفردي إلى وعي جمعي، فيصبح هناك فريق يراقب، وفريق مراقب.
غير أن المسألة لم تكن لتمضي هكذا دون ضابط أخلاقي، فقد جاء الحوار بين فريق جيف القائم بالمراقبة ليطرح قضية التلصص على الآخرين من زاويتها الأخلاقية والدينية، خاصة عندما ينجح بول في تفنيد مزاعم جيف حول وقوع جريمة القتل، وبدت المسألة كنوع من العبث بأسرار الجيران. فتتساءل ليزا عن ذلك الشعور المحبط الذي انتاب الجميع لاحتمال أن تكون الزوجة المقتولة مازالت على قيد الحياة، وعن العقوبة القانونية التي تقع على من يتلصص على جيرانه. ولم يكن لدى جيف إجابة لعدم معرفته بقوانين المدينة، لكن ليزا كانت لديها الإجابة الدينية التي وردت في الكتاب المقدس: “أحبوا جيرانكم”.
وربما كانت هذه هي الرسالة الأقوى للفيلم، فالجيران أو الآخرون هم الوعي اليقظ الذي يمكن أن نعتمد عليه عندما تلم بنا أزمة أو يحيط بنا خطر، يتضح ذلك في مشهدين مهمين، عندما صرخت واحدة من الجيران لموت كلبها، وعندما صرخ جيف قبل أن يسقط من النافذة، ففي كلتا الحالتين يخرج الجيران وهم أشباه عرايا، في ملابس النوم، استجابة لطالب الإغاثة.
وفي النهاية يختم هيتشكوك الفيلم بمشهد معبّر، تعود فيه الحياة إلى سيرتها الأولى بعد القبض على الجاني، فتضج النوافذ بالحياة وتشتري الجارة كلبا جديدا، ويعود الحبيب المسافر، ويعزف الموسيقي مقطوعته الأثيرة، وتتحرك الكاميرا فوق جيف النائم في سبات عميق بعد أن رقدت قدماه الاثنتان في الجبس، إشارة إلى أن فترة احتجازه في المنزل ستستمر لأشهر أخري، غير أن مشهد ليزا الجالسة أمامه وهي تقلب بعض المجلات، إنما يعني أن جيف لن يكرر فعل التلصص مرة أخرى، ولكن سينعم بالعزلة في ظل وجود من يرعاه ويبذل له الحب.
وفي لقطة أخيرة نرى ستارا ينزل من أعلى الشاشة يحمل اسم شركة بارامونت منتجة الفيلم، ليؤكد هيتشكوك على أن فن السينما برمته إنما هو نوع من التلصص يقوم به المشاهدون والمخرج وشركة الإنتاج على حياة الآخرين، لكن بحب.
وبهذا المعني، يمكن أن تُفهم عبارة “أحبوا جيرانكم” على أنها دعوة عامة لحب الحياة والفن والناس.