“النمر الملك” وكل هذا الضجيج
يتكون المسلسل التسجيلي “النمر الملك” الذي عرضته شبكة نتفليكس من سبع حلقات، ويسير على نهج برامج تلفزيون الواقع، ورغم أنه لا يمكن اعتباره “تسجيلا” صرفا للوقائع التي يتناولها، فإن الكثير من الشخصيات التي تظهر في المسلسل تقوم بإعادة التمثيل أمام الكاميرا لما تفعله في حياتها اليومية. وقد أقبل الملايين من المشاهدين على المسلسل الذي أصبح “ظاهرة” ومثيرا للكثير من الجدل في الفترة الأخيرة.
يمكن القول إن من أهم الأسباب الرئيسية التي جعلت مسلسل “النمر الملك” (Tiger King) يحقّق كل هذا الاهتمام، أولا، أنه يصوّر تفاصيل داخلية كثيرة في العلاقة بين الإنسان و”القطط الكبيرة”، أي النمور والأسود والفهود وغيرها.
وكانت العلاقة دائما شديدة الجاذبية، فيها الكثير من السحر والغموض، خاصة عندما نشاهد كيف يمكن أن يسيطر الإنسان، ويتعامل عن قرب، مع هذه الحيوانات المفترسة المعروفة بتقلبها الشديد من الوداعة إلى العدوانية والهجومية والتوحّش، بل إننا نشاهد في هذا المسلسل، أكثر من مرة، كيف يفقد أحد النمور صبره على بني الإنسان فيهاجمه ثم يجذب قدمه ولا يريد أن يتركها قط، أو كيف يقضم نمر آخر ذراع امرأة من ضمن العاملين في حديقة الحيوانات الخاصة التي كان يمتلكها الرجل الغريب الأطوار الذي أطلق على نفسه اسم: جو إكزوتيك (ويمكن اعتباره البطل الرئيسي للمسلسل)، الأمر الذي يؤدّي إلى بتر ذراع المرأة. ورغم ذلك تعود إلى العمل في نفس الحديقة، تشدّها قوة غامضة لا يمكن فهمها، إلى هذا العالم. عالم القطط الكبيرة.
النجوم على الخط
من جهة أخرى، يجد الجمهور نفسه مشدودا إلى مسلسل “النمر الملك” بسبب غرابة جميع الشخصيات التي تظهر فيه، فهي لا تبدو سوية تماما بل فيها قدر كبير من الانحراف والجنون، جنون التملّك وجنون الاستعراض والنرجسية أو الولع الشديد بالذات بشكل مرضي.
ويمكن القول إنه لو لم تكن هذه الشخصيات مولعة بتصوير نفسها باستمرار وتصوير أدقّ تفاصيل حياتها عبر المراحل المختلفة، وفي جميع الأوقات، والاحتفاظ بها في عشرات الشرائط، لما أمكن صنع هذا المسلسل. فالمخرجان اللذان أخرجاه وهما إريك غود وربيكا شاكلين، يعتمدان بدرجة أساسية على كل ما توفّر -وهو كثير- من شرائط الفيديو والتسجيلات المباشرة التي توثّق لكل شيء، بما في ذلك المشاجرات والصراعات بل والتهديدات بالقتل أيضا.
وممّا لفت أنظار الملايين من الأميركيين للمسلسل، اهتمام الكثير من الشخصيات العامة والمشاهير من أمثال كيم كارداشيان وغيرها به والتعليق عليه على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم ما أثاره من غضب بعض الذين ظهروا فيه، واتهامهم لصناع العمل بتشويه صورتهم، أو بالنظرة الأحادية عموما، والتعبير عن هذا في الصحف الشعبية. وبوجه عام أصبح “النمر الملك” هو موضوع الساعة في زمن كورونا!
طموح جامح
يبدأ المسلسل من النهاية ويرتد إلى البدايات الأولى، أي من إعلامنا بوضوح أن جو إكزوتيك قد أصبح وراء أسوار السجن، وسنعرف في ما يلي أنه حكم عليه بالسجن لمدة 22 عاما بعد إدانته في 21 تهمة. ورغم ذلك ما زال الرجل قادرا على التحدّث هاتفيا من وراء الأسوار، متوّعدا بأنه سيُوجّه ضربته المضادة ولن يستسلم.
وهذا المدخل لكي يشدّنا إلى عالم هذا الرجل، كرجل عصامي، مهووس بالقطط الكبيرة، وبامتلاكها، استطاع أن يشيّد حديقة حيوانات خاصة في أوكلاهوما، ويجعل منها نقطة جذب تحقّق له الكثير من المال، ثم أخذ يتوسّع مع زيادة أعداد المتردّدين عليها الذين يدفعون مبالغ طائلة، مقابل الاستمتاع بلحظات يقضونها في مداعبة الأشبال الصغيرة من الأسود والنمور.
ولكن هذا الرجل الغريب الأطوار، الذي يتفاخر بكونه مثليا، ويتزوّج ثلاثة من الشباب علانية أمام الكاميرا بعد أن أغواهم عن طريق القطط الكبيرة، بالتفرّغ له والالتحاق بالعمل بحديقته التي يعتبرها دولته الخاصة. وسيصل جنونه إلى أن يصدّق أنه محصّن، وأنه مثل الأسد الذي يقوم باستجلابه وترويضه، أي لا أحد يمكنه أن يصنع له شيئا، بل إنه يمكنه الفوز بالرئاسة الأميركية فيرشّح نفسه، ولكنه ينسحب ليترشّح لمنصب عمدة الولاية.
هذا الطموح الجامح يتسبّب لصاحبه في الكثير من المشاكل سواء مع أصدقائه ورفاقه ومن يعادونه ويشعرون بالغيرة من نجاحه، أو مع السلطات.
الشخصية الرئيسية الثانية البارزة في المسلسل، أو القطب الثاني في الصراع من أجل السيطرة، هي السيدة كارول باسكين، التي تتزعّم جمعية لإنقاذ هذا النوع من الحيوانات، وتزعم أنها ضد استغلال الأشبال والعبث بأجسادهم عن طريق عرضهم للجمهور والسماح للناس بمداعبتهم. ولكنها تقوم بحبس الحيوانات التي تمكّنت من تخليصها، داخل أقفاص، أي إنها تحرمهم من الحياة الحرة، فلا تختلف بالتالي عن جو.
وسيكشف العمل الكثير من التفاصيل التي تتعلق بحياتها الغريبة، وبالأخص بزواجها من ملياردير أميركي هو الذي شجّعها على تربية القطط المتوحشة، لكنهما اختلفا معا بعد أن أصرّ الرجل على نقل نشاطه إلى كوستاريكا في أميركا الوسطى، ثم اختفى تماما.
هذه المرأة لا تكف عن ملاحقة جو إكزوتيك والسعي للاستيلاء على ما يمتلكه من حيوانات يتجاوز عددها 250 حيوانا من القطط المفترسة الكبيرة والثعابين والقردة وغيرها، ويشنّ هو بدوره هجوما شرسا عليها، ويعتبرها العدو رقم 1 بالنسبة إليه ويتهمها علانية بقتل زوجها الثري، وإطعام جثته للنمور. هناك جامع آخر للقطط الكبيرة هو جوزيف مالدونادو الذي يستخدمها كسلاح جنسي لإغواء الفتيات الحسناوات وممارسة الجنس معهنّ. فقد اكتشف أن الفتيات يعشقن مداعبة القطط المتوحشة، وأنها تثيرهنّ جنسيا.
هذا الرجل يتمكّن من تكوين “قبيلة” خاصة به، وينصب نفسه “إلها” على غرار قبيلة تشارلز مانسون، وقد أسّس حديقة حيوانات خاصة يحتفظ فيها بعشرات الأسود والنمور.
يستعين جو إكزوتيك بمخرج تلفزيوني محترف لتصوير كل ما يقوم به من نشاطات في حياته اليومية، والأهم، تصوير وإخراج برنامج تلفزيوني يقدّمه ويبثّه يوميا عبر قناته الخاصة على شبكة يوتيوب، ويجمع من خلاله الكثير من المال، وفي الوقت نفسه يصوّر أغانيه ويروّج لها، فهو يجيد أداء الأغاني الريفية.
قصة صعود وهبوط
الصراع بين جو وكارول سيتطوّر وسيصل إلى الذروة بعد أن يسعى جو لقتل غريمته، ويستأجر شخصا يمنحه 3 آلاف دولار لقتلها. ولكن الرجل يتراجع، ويزعم في المسلسل أنه لم يكن سيفعل أصلا وأنه احتال على جو للحصول على المبلغ.
ويمكن اعتبار المسلسل بأكمله قصة صعود وسقوط جو إكزوتيك كشخصية تراجيدية تصل إلى قمة النجاح، ثم يأتي السقوط المرعب بعد أن يتخلّى عنه الجميع، بما في ذلك “أزواجه” ومساعدوه ومصوّره وشريكه، ولن يبقى بجانبه سوى شخص واحد يعجز عن تقديم شهادته أمام القضاء. فلا أحد يستدعيه أصلا.
يناقش المسلسل موضوعا كان يجب أن يلقى اهتماما أكبر، هو مدى قانونية امتلاك هذا النوع من الحيوانات المفترسة داخل حدائق حيوانات خاصة من الواضح أنها لا تخضع لأي نوع من الرقابة أو الإشراف الرسمي الحكومي. فنحن على سبيل المثال نعرف أن جو الذي كان في البداية مولعا بالقطط الكبيرة، يقوم بقتل النمور بعد أن تتقدّم في العمر ولا تصبح لها نفس الجاذبية السابقة والقدرة على إغراء الجمهور بمداعبتها.
كما يبتعد جو عن الاهتمام بالحيوانات، بعد أن يتصاعد هوسه بذاته، ولجوئه إلى الاختلاس والتحايل والتزوير للحصول على المال لدعم حملته الرئاسية ثم حملة انتخابات عمدة الولاية التي يفشل فيها بالطبع. فلم يعد أحد يأخذه على محمل الجد، ويفقد احترام مساعديه، وتعاطف أصدقائه وأزواجه الذين ينتحر أحدهم بعد أن دفعه جو وشجعه، على الإفراط في تعاطي المخدرات.
في المسلسل شخصيات أخرى كثيرة، منها شخصيات إجرامية ضالعة في الإجرام مثل جيف لو، الذي يوصف في المسلسل بأنه الشخصية الحقيقية لشخصية توني مونتانا، بطل فيلم “الوجه ذو الندبة”، أي تاجر المخدرات الذي يقوم بدوره آل باتشينو في الفيلم الشهير.
فهو مجرم محترف له الكثير من السوابق، يعترف بأنه مارس العنف والسرقة، وهو يتظاهر بأنه ملياردير يمتلك قصرا فخما في لاس فيغاس، وأسطولا من السيارات ويجمع حوله عددا من أجمل الفتيات، ممّا يشجع جو على الاستعانة به كشريك عندما تشتدّ أزمته المالية بعد أن يخسر القضية التي رفعتها ضده كارول باسكين، ويجد أنه مضطرا إلى دفع مليون دولار لها كتعويض.
إثارة وتشويق
لكن بعد أن يكون جو قد نقل ملكية حديقته وكل ما يمتلكه من حيوانات إلى هذا الرجل لكي يتحاشى الاستيلاء عليها من قبل كارول، سيتضح أن جيف لو ليس سوى محتال صغير، استغل جو، ثم استخدم ملكيته للقطط الكبيرة لإغراء آخرين بمشاركته في إنشاء حديقة أكبر في كاليفورنيا، قرب الحدود المكسيكية، دون أن يدفع شيئا.
وموضوع المسلسل هو الفساد الذي ينتج عن الصراع على المال والنفوذ، وضراوة الصراع على الملكية، وكيف يصبح القتل والتزوير والتحريض والاحتيال مبرّرا في هذا السياق، إلّا أن نقطة الضعف الأساسية في العمل، تكمن في كونه يتيح مساحة واسعة لجميع الشخصيات لتقديم وجهات نظرها مستعينة بما في مخزونها من شرائط وصور وتسجيلات، دون أن يتيح مساحة موازية للأطراف الأخرى من خارج هذا العالم (باستثناء ضابط شرطة محلي).
فقد كان مهمّا أن نستمع إلى نماذج من الجمهور الذي يتردّد على مثل هذه الأماكن، وكيف أصبح ينظر إليها بعد أن انكشف الكثير من تفاصيل ذلك الصراع الذي وصل إلى الجريمة.
إلّا أن “النمر الملك” جاء في الوقت المناسب تماما، في فترة العزل الصحي الذي وجد الأميركيون أنفسهم خاضعين له اضطرارا، فأقبلوا على مشاهدة الحلقات السبع التي يصل زمن عرضها إلى خمس ساعات، ففيها كل عناصر الإثارة؛ النمور والأسود وكيف تداعب الإنسان وتسعد بمداعباته لها، وامتلاك الأسلحة، والجنس، والإثارة الجنسية، والانتحار، والجريمة. أليست هذه هي العناصر المثيرة في السينما الأميركية عموما؟