المقدس والدنيوي في فيلم “المجمع المغلق”

يمنحنا فيلم “المجمع المغلق”Conclave  لمخرجه الألماني إدوارد برجر، فرصة اختلاس النظر إلى ما لا يمكن رؤيته، والاطلاع على الوجه البشري للمقدس. فمن المعروف أن انتخاب البابا الكاثوليكي يجري باقتراع سري مغلق لا يمكن للعلمانيين حضوره ولا للناخبين مغادرته إلا بعد الوصول لأغلبية الأصوات المطلوبة. يفترض بتلك الإجراءات أن تتم تحت الرعاية الإلهية ـ إن كنت مؤمنًا بهذا ـ ومع ذلك فالإرادة البشرية هي ما تحرك الأحداث. الكنيسة الكاثوليكية بعدد أتباعها المليارين، وطقوسها العائدة لقرون ماضية، ولغتها اللاتينية، تقوم أساسًا على التقليد، أي الحفاظ على ما تم استلامه من رسل المسيح من إيمان وشعائر دون تحريف أو تعديل. لكن، هل هذا جيد بالضرورة؟

يركع الكرادلة الأربعة بملابسهم السوداء حول فراش البابا المتوفى، هم الأقرب إليه في حياته بحكم مناصبهم والأقرب لخلافته بعد موته.

الكاردينال/ العميد توماس لورانس (رالف فاينس) الذي نرى الأحداث من زاوية رؤيته، والقائم بإدارة الاقتراع المغلق، الكاردينال ألدو بيلليني (ستانلي توتشي) التقدمي والمرشح المرجح من قبل الصحافة، الكاردينال الأفريقي الواثق أداييمي (لوسيان مساماتي)، والكاردينال تريمبلي (جون ليثجو) الذي يثير وجوده شعورًا بعدم الارتياح من الوهلة الأولى.

يلتقي سيناريو بيتر ستروجان الحاذق بخبرة الأداء لتلك النخبة من الممثلين، فندرك بسهولة الصفات النفسية والعقلية لكل شخصية دون الوقوع في فخ التنميط.

معاناة لورانس (فاينس) من ثقل مهمته وإخلاصه لها في الوقت نفسه، قلق بيلليني (توتشي) من عودة الرجعية إلى كرسي البابوية، قوة الشخصية القيادية لأداييمي (مساماتي)، وانتهازية تريمبلي (ليثجو) المكيافيللية.

يصل كلٌ من تيدسكو وبينيتز إلى الفاتيكان تباعًا، الأول كاردينال إيطالي متعجرف وأصولي يصبو إلى الجلوس علي الكرسي الخالي، والثاني هو كاردينال كابول الذي لم يعرف أحد بوجوده من قبل، وهو من أصل مكسيكي. كما تصل الأخت آجنس (إيزابيللا روسيليني) مع راهباتها بغرض إعداد الطعام وخدمة الموائد، يسرن في مجموعة كبيرة مسرعاتٍ، صامتاتٍ، في محاولة للبقاء خفياتٍ قدر الإمكان.  

مع انسياب الأحداث سنتعرف إلى أسباب التنافر والتحالف بين الكرادلة، بأسلوب اتضاح اللغز التدريجي السائد في فئات التشويق والتحقيق البوليسي، يعززه إلحاح الموسيقى الموَتِّرة للألماني الحائز على الأوسكار ڤولكر برتلمان. كما يحسم حوار بين بيلليني ولورانس ما قد يدور تلقائيًا في رأس المشاهد من تساؤل لا مفر منه: هل يؤمن هؤلاء الرجال حقًا بفاعلية ممارساتهم؟

بيلليني: “أخبرني البابا بأزمة إيمانك.. كان لديه شكوكه أيضًا”.

لورانس: “البابا لديه شكوك تجاه الله؟!”

بيلليني: “لا، ليس تجاه الله أبدًا، ما فقد الإيمان به هو الكنيسة”.

لاحقًا سنعرف أن أزمة لورانس تخص جدوى الصلاة، وأن البابا كان لديه ما يبرر ارتيابه، وأنه راقب كل كرادلته حتى أولئك المقربين منه.

تفاصيل نزع القداسة عن رجال الكنيسة تبدأ مع استقبالهم في كنيسة سيستين لبدء عزلهم عن العالم الخارجي، في لقطات سريعة لوجوههم المكفهرة العادية، تدخينهم الشره للسجائر في الساحات المفتوحة، تجريدهم من هواتفهم المحمولة وتفتيشهم بأجهزة كشف المعادن، كأنهم طلبة مدرسة داخلية لا قادة روحيين لشعوبهم. إمعانًا في حجبهم عن أي إشارة تأتي من الخارج توضع أجهزة تشويش لتعطيل الاتصالات وتُعتَّم النوافذ. لذلك تدور معظم مشاهد المواجهات في غرف مزدوجة الأبواب وقاعات مغلقة وطرقات شبه مظلمة، توحي بما يسيطر على الأجواء من توجس وشكوك واتهامات متبادلة.

كل الأمراض الإنسانية حاضرة داخل المجمع/ الكنيسة. بعضٌ منها لا يمكن أن يخلو منه مجتمعٌ ما؛ مثل الرشوة وشراء الأصوات والكذب والوقوع في “الخطايا” الجنسية، وبعضٌ منها ارتداد مزري لعنصرية متطرفة، ترتدي مسوح المنطق الواقعي والحفاظ على الأصالة. فما يبدأ كملاحظة موضوعية من تيدسكو عن ميل المتحدثين باللغة نفسها للجلوس إلى مائدة واحدة، ووجوب استمرار اللاتينية كعنصر تميز للكنيسة يجمع أفرادها، ينتهي إلى أحقية الإيطاليين دون غيرهم في الجلوس على عرش الفاتيكان!

“اليقين هو العدو القاتل للوحدة، اليقين هو العدو القاتل للتسامح.. مع اليقين فقط دون شك لن يكون هناك غموض، وبالتالي لا حاجة للإيمان، لنصلي حتى يعطينا الله بابا قادر على الشك”.

تلك العظة القصيرة التي يلقيها لورانس على الكرادلة قبيل الاقتراع هي خلاصة إيمانه المتذبذب والحي مع ذلك، ما يحارب لإثباته في تلك الأيام الفارقة، لنفسه قبل الآخرين. تيدسكو لا يملك سوى اليقين الخالص الذي يتميز به المتطرفون، لذلك لا يمكن أن يصير البابا.

تمضي مع أيام الاقتراع لعبة الكراسي الموسيقية، يتقدم أحدهم في عدد الأصوات يومًا لينسحب في اليوم التالي لتجنب فضح ماضيه غير النقي. يطيح الفساد والتآمر بأبرز المرشحين، ليتبقى في السباق الأخير لورنس الزاهد في البابوية بمواجهة تيدسكو. مستهدفًا منع الأخير من ارتقاء العرش البابوي يتقدم لورنس مضطرًا ليضع اسمه في صندوق الاقتراع، وهو يتطلع إلى سقف سيستين المزين بلوحات الكتاب المقدس، كأنه يطلب من الله التدخل قبل فوات الأوان.

في تلك اللحظة يدوي انفجار عظيم بالخارج يتسبب في تحطيم النافذة العليا قرب السقف، ومع الحطام المتطاير في القاعة المغلقة ينتشر أيضًا النور كأنه يسقط من السماء على لورانس الممدد على الأرض، في لوحة تحاكي الرسوم المحيطة بهم. لقد أقحم العالم الخارجي نفسه في عملية اختيار البابا رغم العزلة المفروضة على الكنيسة، حل الدنيوي بفجاجة في عمق المقدس ووجهه.

ذلك العمل الإرهابي أزال كل شك في طبيعة شخصية تيدسكو وفضح انحيازاته بأقبح طريقة ممكنة، إذ راح يصرخ منددًا بالتساهل مع المسلمين والتخلي عن الحرب المقدسة ضدهم، مصرحًا أنهم بحاجة إلى “قائد يحارب أولئك الحيوانات”.

يمكننا استدعاء حالة مشابهة من الماضي القريب جدًا لقب فيها أحد القادة أعداءه بال “حيوانات بشرية” ليبرر إبادتهم، لنشعر أن عالمنا لم ينضج قط كما نحب أن نتصور، ولم يتخط تلك العنصرية اليمينية حتى في أكثر بقاعه ادعاءً للتحضر. ستظل هناك تحت الجلد لتخرج كقيح مزمن في الأزمات، لتلوم الأقليات والمختلفين على كل شيء؛ من البطالة والغلاء وانتشار الأمراض وحتى الإرهاب.

“وَهُوَذَا آخِرُونَ يَكُونُونَ أَوَّلِينَ، وَأَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِين (1)

“الكنيسة ليست التقليد، الكنيسة ليست الماضي، الكنيسة هي ما سنفعله في المستقبل”.

المصرح بهذا الإعلان التقدمي في مواجهة تيدسكو هو الكاردينال المكسيكي بينيتز، آخر المنضمين إلى المجمع، القادم من أسوأ المناطق اشتعالًا بالحروب، والمرشح الذي لم يخطر ببال أحد حتى اللحظات الأخيرة. المرشح المثالي لهذا العالم المضطرب بالاستقطاب، ربما بدرجة صعبة التحقق في الواقع. فهو يرى بوضوح أهمية الحرب على الكراهية نفسها وليس على البشر المرضى بها. بل إنه تجسيد عبقري لعدم امتلاك اليقين بشكل حرفي؛ فإذا كنت لست واثقًا تمامًا – ولا تهتم في الحقيقة – إن كنت رجلًا أم امرأة، ما الذي يمكن أن يضيق صدرك به أو تدينه بضميرٍ راضٍ؟

لا أعرف إذا كان السيناريو قد التزم برواية روبرت هاريس، التي أخذ عنها الفيلم، في ذلك الجزء الخاص بالهوية الجندرية لبينيتز، لكننا ندرك أهميته على أي حال حين نتذكر أن ذكورة الكاهن كانت شرطًا لا يقبل المساومة طوال قرون، منذ السلالة الأولى للاويين (2) وحتى يومنا هذا. إننا نناقش الآن ما ظل بدهيًا، يقينيًا، ويستحق الموت لأجله إن تطلب الأمر ذلك.        

 قبيل الاقتراع الأخير نرى الكرادلة من زاوية مرتفعة مقبلين في الاتجاه نفسه، حاملين جميعًا مظلات بيضاء متطابقة، توحي باتفاقهم أخيرًا على شخص البابا القادم. وفي داخل القاعة بينما يكتب كلٌ منهم اسم مرشحه، يلاحظ لورانس اهتزازًا طفيفًا في الأوراق، إذ لا زالت النافذة المحطمة بأعلى تسمح بمرور الهواء إلى الداخل. هل هو الإرشاد السماوي يرعاهم أم أثر الفراشة القادم من العالم الدنيوي؟

============================================================================================================

(1) إنجيل لوقا ١٣: ٣٠

(2) اللاويين هم سبط الكهنة في العهد القديم من بين الأسباط الاثنى عشر

Visited 63 times, 1 visit(s) today