المدرك الحسي والمجاز في السينما

الأفلام التي تتحرر من عنصر الحبكة والتشويق هي من نوعية الشرائط السينمائية الأكثر نضجا واقترابا من حالة الكمال السينمائي، وهي الأفلام التي تتيح للمشاهد حرية الادراك والتأمل. الفيلم هنا يرصد سلوك وتصرفات الانسان، بشكل حسي، حيث يتضمن اشارات سردية وبصرية مليئة بتناقضات الانسان، ليظهر الانسان كما هو في الشريط السينمائي، وتكون العناصر الاخري من الخيال والدراما، والحكاية السينمائية في خدمة الادراك الحسي للفيلم، بمعني ان تستخدم كتقنية للسرد أو كإحدي روافد الفهم الفيلمي، وليست هي الاساس، حتي تنكشف العقد البشرية والاجتماعية والأخلاقية كما هي.

وقد نجحت كثير من الأفلام العظيمة في تحقيق المدرك الحسي لدي المشاهد، ومنها كثير من الافلام صاحبة الحكاية السينمائية البسيطة، فكان التركيز اكثر علي تفاصيل الانسان والواقع المحيط به، ليتراجع  بذلك الجانب التأويلي والفكري الصرف للفيلم، ومنها مثلاً الفيلم التركي “البيات الشتوي” الذي يرصد تفاصيل شخص مثقف، يعاني من تناقضات الانسان مع الواقع المختلف عنه، وايضا صراعات هذا الشخص مع اخته وزوجته، فالثقافي هنا ينتاقض مع الآخر غير الثقافي، هذه النفسية الصراعية يرصدها المخرج نوري بيلج جيلان في الفيلم، ويشعر المشاهد، حسيا بهذا التناقض، الذي يدور حوله الفيلم، الذي يمتلئ بالتفاصيل والحوارات السردية، التي تريد ايصال موضوع الفيلم عبر المدرك الحسي، دون أن يحدث تفكيرا كبيرا في الفيلم.

المدرك الحسي والمدرك العقلي

المدرك الحسي أحد ادوات المعرفة ومكونات الوعي الانساني، وهناك فرق في المفهوم الفلسفي، لشقي الادراك، الادراكية المعقولية، والادراكية الحسية، والسينما في قوتها ورونقها، تحيل اكثر إلى الادراكية الحسية، لأنها تتميز بالذائقة الجمالية، والبصريات المدهشة، واستفزاز المشاعر والخيال، بجانب الاحالة الي الادراكية المعقولية، ولكن عبر الادراكية الحسية، بشكل مؤكد، فلا يمكن أن يكون اداة توصيل الفيلم للمشاهد عبر العقل بشكل مجرد، لأنه يصبح بذلك مثل الكتاب او الرواية، وهذا لا يمكن أن يحدث بأي حال. فليس هناك فيلماً بدون صور، وخيال سنيمائي، وابداع بصري، والحكي بالايهام، او اللايهام، بمعني ان الاداركية الحسية هي صاحبة نصيب الاسد، هي مكنونة في كل لحظة مشهدية، هي حاضنة اللحظات والثواني الفيلمية.

المدرك الحسي السينمائي ووعي المشاهد

كما أن ما يظهر في الصورة، هو اشكال تدرك بالحس، خلافا للسيناريو والحديث والحوار، فمثلا حركة الجسد، والمشاعر المتبادلة من حب وكره، انتقالا الي مراحل الصراع، ونظرات العين، وصور المكان، وحركة الزمن، كل ذلك يذهب مباشرة الي المدركات الحسية، فالداخلية بمكوناتها في الفيلم كلها تدور في فلك الادراكية الحسية.

وفي المفهوم الفلسفي، الادراك الحسي ينشط الوعي في حالة اليقظة، والانتباه للحياة، كما يؤكد علي ذلك الفيلسوف الانجليزي برتراند رسل، الذي أكد على تلازم الوعي مع حالة اليقظة، وبمعني فلسفي أخر، نطاق تأثير الادراك الحسي علي الوعي مرتبط بمساحات ضيقة منها الحالة الزمنية والمكانية، والعقلية والحسية ايضا، فالانسان في لحظة الوعي الواحدة مرتبط بشئ ما محدد، ومغلق في ذاته، عكس السينما التي تحوي خطابات اثارة الخيال والمدرك الحسي بشكل مكثف، وعالي مقارنة بالواقع.

لقطة من فيلم “المرآة”

وخير دليل علي ذلك فيلم “المرآة”، للمخرج الروسي اندرية تاركوفسكي، حيث كانت هناك حالة من الادراك الحسي تفوق كل شئ، ويصنف هذا الفيلم كأعقد فيلم في التاريخ، فالفيلم تجاوز الرمز، والاشارة، والعلامات، وبني نفسه كليا في كثافة مجازية مدهشة، فليس هناك تصنيف تقليدي للمجاز في هذا الفيلم، فالمجازات المختلفة تدور في فلك المشهدية في كل  لقطة، وذلك بالاختلاف مع المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس في فيلمه “تحديقة عوليس” حيث نجد في المشهدية هناك مجازات متعددة، وهناك هدوء نسبي في المجاز، فيجد المشاهد بعضا من الراحة البصرية والذهنية.

ولدي الفيلسوف هنري برجسون، والفيلسوف الآخر ميرلو بونتيي، نظرة الي حد ما سينمائية، تجاه تأثير المدرك الحسي علي الوعي، حيث يعرف هنري برجسون الوعي بأنه يعتمد علي الصيرورة في الزمن، ويتضمن جميع العمليات السيكولوجية الشعورية، وهذا الوعي لا يقترن بأي طابع نسبي أو ذاتي، حيث أنه دائم الحضور في حياة كل إنسان، لا يقبل القسمة إلى لحظات شعورية مرتبة بشيء ما، أو موقف معين، بحيث تتدفق و تنساب عبر الزمن حتى يصعب التمييز بين لحظاته.

وهذه الرؤية هي الأقرب الي فيلم “المرآة”، لتاركوفسكي، حيث التكثيف المجازي للوعي والصيرورة في الزمن، وتدفق الاشياء عبر الزمن بأنواعه الثلاثة ( الماضي- الحاضر- المستقبل). ويأتي المدرك الحسي في تكوين هذا الوعي، ليشمل براح هذا المدرك، في الزمن والمكان، بل انه يتجاوز ذلك اذا تعلق الامر  بالسينما، فعل الحركة، والحريات المتاحة للتلاعب الزمن في المادة الفيلمية يتيح كثير من حرية المدرك الحسي.

المجاز الشعري في الفيلم

وعند تكثيف هذا المدرك الحسي، تصبح السينما شاعرية،  حيث يتمكن الفيلم من الوصول لشعور المشاهد عبر المكون البصري المتكامل، والمجاز الشعري، ويحاول المقال الوصول الي ذلك المعني، عبر فيلمين، الأول للمخرج الفرنسي جودار، والثاني للمخرج اليوناني ثيو انجلولوبس.

 فوكو وجودار يفككان اللغة والتواصل بين البشر

تتنوع أفلام جان لوك جودار، ما بين السينما الثورية، يعني الملتزمة بالكفاح الثوري، والسينما الفلسفية المتعددة، والسينما التي تدرس وتحلل الانسان والتاريخ، وفي فيلمه الأخير “وداعا للغة”، المنتج عام 2014، هو يقترب فيه من السينما الشخصية، كأن الفيلم تجربة شخصية ذاتية، لذا يكون مدلول المدرك الحسي في علوه، بجانب استخدامه فكرة المجاز، في سرد الأحداث، فهو يلمح ولا يصرح، فهناك شاعرية بالغة الدلالة، للحديث علي استمرارية وعنفوان الطبيعة أمام ضعف واختفاء الانسان، أو بمعني اصح لغة الانسان، تعلن نهايتها، ويبتعد جودار عن السرد المبسط والتقليدي للفيلم، ويتضمن الفيلم مستويات متعددة من الأحداث، مستخدما المنهج التجريبي.      

يتطرق الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الأشياء والكلمات،  في فصوله الاولي إلي موت عنصر الشفافية والتشابه في اللغة، وفي علاقة الكلمات بالاشياء، والعكس، وذلك خلال العصر الكلاسيكي في الثقافة الغربية، لتصبح اللغة اعتباطية، وغير مستقرة، تسير في الحواف، وتبتعد عن الوضوح والنقاء الذي كانت تتميز به فيما سبق، وهذا ما يناقشه جودار في فيلمه، الذي يعرض خلاله أحداثا تاريخية سياسية واقتصادية وثقافية خلال القرن العشرين عانت أو ادت الي زوال اللغة، وفقدان التواصل بين البشر. وهذا هو الشق والتمهيدات النظرية التي يبدأ بها بالفيلم، ثم ينتقل الي قصة سينمائية بسيطة حول قدرة رجل وامرأة علي التواصل فيما بينهما، ومن خلال حوارات طويلة تتضمن القصة التي يقول عنها جودار نفسه “فكرة بسيطة”. إمرأة متزوجة ورجل أعزب.. يلتقيان، يقعان في الحب، يتشاجران، ترتفع قبضات أيديهما في الهواء، كلب شارد بين البلدة والريف، تتعاقب الفصول، يلتقي الرجل والمرأة مجددا، يجد الكلب نفسه بينهما، الآخر في واحد، والواحد في الآخر، ويصبحان ثلاثة. الزوج السابق يحطم كل شيء. الوضع كما كان في البداية. لكنه ليس كذلك. من الجنس البشري نمضي إلى المجاز. وينتهي هذا بالنباح، وصرخة طفل”!ويظهر الكلب كحل وطريق للتغير ، والقدرة علي التواصل.

جان لوك جودار

ويقسم جودار الفيلم الي مجاز نظري ومجاز قصصي، ونجد  الصعوبة والابداع اكثر في المجاز القصصي، حيث يتسع المخيال البصري والسردي الحكائي ليفسر المضمون الفيلمي بوعيه الي وعي المشاهد، عن طريق المدرك الحسي والمدرك العقلي.

هذا التبعثر اللغوي لدي فوكو، نجده بغزارة في فيلم جودار. فوكو ينبه الي وجود عنصر أخر قادر علي التشابة والتواصل اللغوي، شئ آخر يساعد في ذلك، وهذا ما نجده في المجاز القصصي في الفيلم نفسه في فكرة الكلب، فالكلب كائن وعنصر في الكون لديه الحل في التواصل، استطاع جودار بعقله الفلسفي، ان يصل الي هذا الشئ المكمل للغة، والأمل الاخير لعدم ضياع اللغة بشكل كامل، فعنوان الفيلم “وداعاً للغة”، هو عنوان الكوميديا السوداء، وليس عين الحقيقة، فاللغة تحاول بالفعل الاندثار بشكل كلي، ولكن هناك شئ ما يجعلها تستمر، لذا الحياة مستمرة واللغة مستمرة.

ايضا حالة الانفصال بين الرجل والانثي، بشكل مجرد وقوي، حيث المجاز هنا كثيف ويجعل المشاهد يتلقي البصري بشكل حسي، ليصبح شاعرا بالحالة الفيلمية، التي تعني ان اللغة اصبحت منغلقة، هي خطاب في ذاتها، تتحدي نفسها في مزيد من الانغلاق، وهو ما يشير اليه فوكو حيث يرجع لتشريح كينونة اللغة في القرن السابع عشر، الكلاسيكي، ويعود اكثر من قرنين من جودار في فيلمه، فيصف اللغة والكتابة والاشياء بالتفكيك والتأويل، حيث اللغة لن تكون سوي حالة خاصة من التمثيل، وأن الانتماء العميق للغة وللعالم، يجد نفسه محلولاً، فقد فقدت اللغة كثيرا من التشابه والتواصل والتفاعل البنيوي، وفقدت ايضا من كيانها أي من الخام البدائي في شكله البسيط.

الكلب في فيلم جودار “وداعا للغة”

والصورة والمونتاج والحكاية هي خطاب خاص عند جودار، بالمقارنة بالمخرجين الاخريين، حيث هناك ما لم يقله جودار ويريد للمشاهد أن يقوله، وهو تأمل فكري منتظر لدي المتلقي، والمونتاج حاد وقاسي وذلك كعادة جودار في افلامه الاولي، حيث التقطيع غير مترابط بشكل جزئي، فالترابط الكلي موجود في الحكاية والصور والبصريات المدهشة، وذلك بالاضافة الي الطابع الثقافي للاقتباسات من مكونات ثقافية مثل احداث لهتلر، افكار داروين، ومن الفيلسوف جاك إيلوي، وهي احداث تاريخية وفلسفية.   

المجاز الشعري في تحديقة عوليستتميز سينما المخرج اليوناني ثيو انجيلوبولوس، بالذاتية، وتأثير تجاربه الشخصية علي منحي الفيلم، حيث التماثلات بينه وأبطال أفلامه قريبة وعدي، سواء في التجربة المهنية والحياتية أو في علاقاته مع عائلته ومحيطه. والعديد من ذكريات الطفولة تتحوّل إلى مشاهد سينمائية، يقول أنجيلوبولوس، “كل أفلامي هي جزء مني  وتعبير عن سيرتي الذاتية وعن حياتي  والتجارب التي عشتها والأحلام التي حلمت بها. بعض أفلامي أقرب إلى اهتماماتي الفكرية  والأخرى أقرب إلى أحداث في حياتي الواقعية”. وذلك ما ينعكس علي الملمح الثاني لافلامه، وهي استعانته بالصورة المجازية الشعرية المكثفة في سرده للفيلم.  وفي تحليل فيلم “تحديقة عوليس”، نري السرد الحكائي والبصري، يتبني مجازات شعرية مكثفة، فالبصريات تسرد الحكاية، والحكاية السينمائية تحكي البصريات، هناك قطع مجازية مثل (مجاز شغف الناس بالسينما وشغف البطل بالبحث عن اول فيلم- مجاز عدمية الحب- مجاز الحنين- المجاز الحميمي العائلي) وذلك يوضح كالآتي: 

المجاز الاول: الشغف بالسينما:

البحث عن أول فيلم علي الأطلاق في اليونان ومنطقة البلقان، هو الجث عن التحديقة الاولي والشفافية الاولي للسينما، طفولة البصريات، والحنين والولع للمشاهد. صناعة السينما، فيلم داخل فيلم، نظرات الي الي المراكب الشراعية والسفن، للبحث عن البكرات الثلاثة واللقطة الأولي والمشهد الأول.

يبدأ الفيلم بشغف الناس بالسينما، بقيامهم بمشاهدة فيلم في العراء، تحت المطر، هذا الفيلم الذي يصنع شغفا وهستريا عالمية به، يأتي مخرج هذا الفيلم ليشارك في عرضه، وهو نفسه من يبحث عن التحديقة الاولي للسينما. يسير في المدينة ويتذكر ايام شبابه، ويري مثل الطائر الحزين، امرأة لما يقابلها منذ عدة سنوات ماضية.

الحلم والحنين يتفاعلان مع مجاز فيلمي مدهش، العطش الصوفي والتظاهرة السينمائية، والسلطات تفرض ارداتها علي المواطنين، هذه مكونات تفاعلية مشهدية تصيب المتفرج بالارق العقلي، والاجهاد البصري.

المجاز الثاني: عدمية الحب   

يسافر المخرج، لكي ببحث عن اللقطة الاولي في المؤسسات الرسمية في دولة اخري، دون جدوي، ويقابل أنثي تعشق كلماته حتي الجنون لتقول له “انقذني.. المسني”. ليبكي في حضنها، في لحظات الوداع، ويعترف لها بأنه لن يستطيع أن يحبها مطلقا، ليلعن بذلك فقدان القدرة علي الحب، فقد اصبح خالي الشغف بالأنثي.

المجاز الثالث: الحميمية العائلية

يدخل في حلم طويل، حيث يري نفسه يذهب الى بوخارست، ويقابل عائلته البعيدة عنه، ويري والدته وجده، ويبدأ مشهد الحنين والذكريات في ابداع بصري زمني، لا مثيل له، حيث يتداخل الوعي بالحاضر باللاوعي الماضي، وترقص العائلة مع بعضها البعض في مشهد ملئ برقصات حميمية غير مفزعة، ليأتي افراد السلطة للاستحواذ علي البيانو مصدر الموسيقي ومحفز الرقص.

المجاز الرابع: نهاية الايديولوجية

بطل الفيلم الباحث عن اللقطة الاولي يركب سفينة، تحمل تمثال لينين، في شكل اجزاء مترابطة، يعني تأكيد خروج الشيوعية من دول اوروبا الشرقية، حيث الناس تودع لينين علي جانبي النهر.

لقطة من فيلم “تحديقة عوليس” 

المجاز الخامس: عودة الحياة والنشوة

 يذهب الباحث عن اللقطة الاولي الي باريس، ويرقص ويعربد مع صديق قديم، ويشرب نخب الصداقة والماضي، وتظهر عليه الفرحة لأول مرة منذ بداية الفيلم، حتي يلتقي بإمرأة أخري في صربيا التي سافر اليها من باريس باحثا عن البكرات الثلاث، وتظهر تشققات وحدة المرأة، وبؤس حوائط المنازل. ورغم ذلك تعود الحياة مرة اخري لبطل الفيلم. حيث تدله هذه المرأة علي مكان البكرات في سيرايفو، ليعطيها الحب سريعاً ويذهب.

المجاز الأخير: نهاية الرحلة والبحث

يذهب لسراييفو ويجد رجلاً لديه البكرات الثلاث، ويتوه في تفاصيل المكان والبحث، ويتوه اكثر بين تفاصيل الحرب الاهلية في سراييفو، ويحاول في معالجة الكرات الفيلمية وتفاصيل الحرب تسير معه، ويشاهد مسرحية بين ركام الاماكن والعمارات، وسط الجليد ويرقص مع فتاة دون هدف، كل شئ مجازي للغاية.

 ينتهي الفيلم بحديث صاحب رحلة البحث عن نيته في الرحيل في ملابس رجل أخر، وقيامه بقص حكايات جديدة عن ليالي طويلة، وعن نداءات العشق، وقصة البشر جمعاء، القصة التي لا تنتهي، هذه ابيات شعر وكلمات نثرية رائعة تختتم الفيلم والبحث عن التحديقة الاولي.    

Visited 77 times, 1 visit(s) today