المخرج نبيل لحلو: السينما بلمسة مغايرة
يختلف النقاد والباحثون حول الأسلوب السينمائي للمخرج نبيل لحلو الذي نظمت مؤخرا عروض استعادية لأفلامه (ريتروسبكتيف) ومعرضٍ للصور الفوتوغرافية وملصقات أفلام احتفاء بالممثلة صوفيا هادي (شريكته في الفن والحياة).
قد لا يعترف البعض بأفلام نبيل لحلو ويصنفها خارج السينما إلا أنها تظل راسخة في تاريخ السينما المغربية لأن من يتحدث لا يقدم حججا على ما يقول، فالرجل قد انخرط في الإخراج السينمائي منذ زمن طويل، ولم يفرط في المسرح الذي غادر من أجل عشقه البلاد للتكوين في فرنسا، فعاد حاملا لوعي سياسي وفكري وفني وثقافي مغاير، سرعان ما سيتبلور في مجمل أعلامه السينمائية والمسرحية على السواء، بل لقد أضحى عمله مثيرا للجدل والنقاش في الساحة الفنية نظرا لجرأته وتميز طرحه وتمرده على المألوف والعادي، فعمله لا ينفصل عن شخصه ومزاجه المتفرد.
أنجز المخرج نبيل لحلو عدة أفلام روائية طويلة منها “الموتى” (1975) و”القنفودي” (1978) و”الحاكم العام لجزيرة الشاكرباكربن” أو “الحاكم العام” (1980) و”إبراهيم ياش” (1982) و”نهيق الروح” (1984) و”كوماني” (1989) و”ليلة القتل” (1992) و”سنوات المنفى” (2002) و”تابث أو غير تابث” (2006) و”شوف الملك في القمر” (2011)، وقد أنتج جل أفلامه وكتبها وأخرجها وتقمص دور البطولة في مجملها مما يدل على اقتناعه بأن المنتج المستقل يمكن أن يتحرر من بعض الضغوطات التي يمكن أن يمليها عليه المنتجون الآخرون سيما إذا كانت له أفكار خاصة قد لا يمكن أن تثير اهتمامهم أو لتخوفهم من أسلوب وأفكار المخرج. فالمخرج معروف بجموح الخيال، والميل نحو الخيال (الفانتازيا) ولا تخلو أفلامه من مسحة سوريالية مدموغة بنوع من السحرية الواقعية الراصدة لتناقضات المجتمع المغربي، والكاشفة لمسوخاته وتبدلاته.
منذ أن طالعنا المخرج بشخصية “حميد القنفوذي” في فيلمه الذي يحمل اسم البطل، وهو يراكم تجربة من البحث الفني في التركيبة الاجتماعية والنفسية والحركية لشخوصه الذين يتصفون بمواصفاتٍ ومِيزَاتٍ تحمل بصمة المؤلف الذي يسهر على رسم معالمها منذ الكتابة ويصر على تقمصها وفقا للمقاس الذي يريد كما أن اختياراته للممثلين غالبا ما تكون مكرسة أو غير متوقعة، ففي فليمه “إبراهيم ياش” أبهرنا الراحل الرائع “العربي الدغمي” في واحد من أجمل الأدوار التي تحفل بها الفيلموغرافيا المغربية فضلا عن الأدوار التي شخصتها برفقته الفنانة المتألقة والمتجددة “صوفيا هادي”.
وإذا ما انتبهنا إلى الشخصيات فإنها تكون تخضع لإدارة فنية صارمة يجعلها حاملة للمسة المخرج وجزءا لا يتجزأ عن مجموع أفلامه ذات المسحة الدرامية الميالة إلى الغروتيسك الذي يمزج بين الغريب والمتنافر والأخرق ضمن فضاءات وأمكنة متخيلة وأخرى واقعية لا تخلو من محاكاةٍ أو تناصٍّ فيلمي دَالٍّ ومُنْتَقِدٍ وسَاخِر، ولنا في إحدى مشاهد فيلم “ثابت أو غير ثابت” المستوحى من فضيحة الكوميسير المدوية “ثابت”، نموذجٌ مشهدي يحيلنا على فيلم “الديكتاتور” لشارلي شابلن؛ وفي ذلك أكثر من إشارة ومغزى. قدم نبيل لحلو في هذا الفيلم دورا مثيرا وجريئا، فقد تناول بشكل فني غير مباشر ملف عوالم أحد رجال السلطة ونزواته المكبوتة منتقدا أحوال وأهوال استغلال السلطة في تصريف الشذوذ الممزوج بنوع من القمع المرضي، وتعرية بؤس الإنسان الذي يطغى ويتجبر.
بين المسرح والسينما
يمزج نبيل لحلو في أفلامه مزجا واعيا بين المسرح والسينما، فهو ينتصر للقطة المشهد الذي يتيح للممثل الحركة أمام الكاميرا، ويفتح إطار الصورة ما أمكن على الحدث ليعطي القيمة أكثر لما يقع خارج مجال الصورة، وما لا يمكن قوله، ولكن يمكن تخمينه وتخيله. إنها لعبة فنية للخلط الجمالي بين تقنيات المسرح كما وظفها كبار المخرجين من أمثال شارلي شابلن وأورسن ويلز، مثلا، وانعكاس لتكوين وتجربة المخرج في مجال المسرح، فقد وظف بعض مشاهد مسرحيته “أوفيليا لم تمت” في فيلمه “إبراهيم ياش” محملا إياه وإياها عناصر رؤيته الفنية المدمجة. وهكذا، نكون أمام أسلوب تجريبي يمتح من الفنين ويقدم تصورا للإطار واللقطة والمشهد باعتبار أن كل ما يتم تقديمه يخضع للصرامة الفنية.
يعتبر هذا المخرج من القلائل الذين يقومون بالفعل بممارسة الإخراج السينمائي كرؤية للذات والجماعة، وكأسلوب بصري يحمل دلالات ومعاني، وكنوع من إعادة الترتيب والمراوغة للواقع، فأفلامه ليست مجرد حذلقات تقنية، وإنما هي تجربة تجمع بين الإخراج بمفهومه المهني التقني و”الميزنسين” بمفهومه الفني الشاسع، والممتد إلى فنون العرض وبعض الفنون البصرية الأخرى، وهنا يتميز المبدع في السينما عن غيره، فهناك مخرجون كثر، ولكن قلة قليلة منهم تدرك الفروق الفلسفية المؤسسة لاستعمالات وتوظيفات المفهوم والانتقال به من مجال إلى مجال.
نلاحظ أن الفيلم لدى نبيل لحلو ينبني على رؤية جدلية تشبه الخصام بين المخرج والسيناريو، فلا يمكن التكهن بما سيدخله هذا الفنان عنه من حذف وتعديل وتحوير، فإن لا يتبخر كليا، فإنما تطرأ عليه تغيرات تدخل في سياق “الميزنسين”، وأثناء المونتاج الذي يسهر عليه المخرج بنفسه. يخضع الفيلم السينمائي لدى نبيل لحلو لسلسلة متوالية من البناء، فحواراته محبوكة، قاطعة كشفرة الحلاقة، غير مهادنة لأنها غير منفصلة عن هموم صاحبها الذي يعيش علاقة مسكونة بالتوتر تجاه الذات والجماعة، فأفلامه لا تخلو من قسوة و صرامة، من تهكم وسخرية، من هذيان وجنون، وكذا من نفحات وجدانية وعاطفية تتضمن جرعات من الالتباس الناتج عن تلك الأوهام الساكنة بجوف المبدع، والتي قد لا تتحقق إلا بعد مدة غير يسيرة داخل مجتمعه الذي قد ينتبه فجأة، وبعد فوات الأوان، لذلك الذي طالما ظل يظنه صوتا مزعجا ونشازا، وتلك مهزلة ما بعدها مهزلة
بين التقليدي والتجريدي
يتأسس مفهوم “الميزنسين” لدى نبيل لحلو على مهارات وكفايات فنية وتقنية، مسرحية وسينمائية، تجمع بين الطابع التقليدي والتجديدي، لترتيب الحركة والأشياء داخل الإطار، وإعطاء مكونات الصورة إيحاءات تدخل في سياق منظوره الشخصي للحياة، فالضوء والماكياج واللباس والديكور والأكسسوارات وغيرها خادمة للدراما، وليست مجرد أشياء تؤثث إطار الصورة؛ بل فاعلة في تطور السرد الفيلمي، وباعثة على ضخ شحنات إيجابية للممثل الذي يركز عليه المخرج تركيزا شديدا إلى درجة يحسب المتفرج نفسه أمام دروس في الأداء والتشخيص ترفد سينماه بلمسة خاصة تميزها عن غيرها.
يضبط المخرج حكايات أفلامه على إيقاع يصعب هضمه من لدن غالبية الناس، وهو إيقاع مستوحى من بطء المجتمع ذاته، وبطء إيقاع الشخصيات المستنبطة من الواقع، والذي لا يمكن للمخرج الفنان إلا التقاطه والاستماع لنبضه كي يقدم تصورا فنيا له. وإن حدث وأن ذَعِن لها، فإنما للسخرية منها، والتمهيد لنقدها، وذلك ما تجسده أفلام المخرج نبيل لحلو التي توظف بهارات من السريالية والانزياح عن العادي لفسح المجال أمام الخيال الخلاق الذي يتساوق وكل القرارات التي يتخذها المخرج لصالح الحركة الفيلمية (حركة الممثلين في علاقتهم بحركات الكاميرا) التي لها غاية مضمرة ينبغي فك شفراتها من قِبَل المتلقي.
يحتاج المنجز الفيلمي الذي راكمه المخرج المؤلف نبيل لحلو إلى نفض الغبار عليه وقراءته على ضوء التطورات التي عرفها الحقل السينمائي، وكذا المستجدات الاجتماعية والتحولات الاجتماعية التي عرفها المغرب الراهن خصوصا وأن بعض أفلام نبيل لحلو تنبش في تاريخ المغرب المعاصر بقصدية واضحة لا يمكن اعتبارها اعتباطية، بل ترتبط أشد الارتباط بمقترح قابل للقراءة والتأويل، له جاذبيته وراهنيته التي لا تخلو من استفزاز وقلق فكري وفني.