الفيلم المغربي “وليلي” كيف تسخر من الفقراء وتعاقبهم

يعد فيلم “وليلي” لفوزي بن سعيدي من تلك الأفلام التي يصعب على المشاهد أن يفهم أويستوعب ما يريد أن يقوله. أو على الأقل، أن يمسك برأس الخيط، للوصول إلى صلب موضوعه.

يحاول الفيلم أن يقدم نفسه كفيلم عاطفي، لكن الحقيقة أن الفيلم موضوعه اجتماعي متدثر بالصبغة العاطفية. ويقسم شخصياته إلى قسمين/ طبقتين، بورجوازية تتمتع بالذكاء واللباقة: محمد مشغل عبد القادر وزوجته والحاجة مشغلة مليكة.. الخ، وكادحة: عبد القادر وزوجته وصديقه وعائلته.. الخ.

 ولا يحتاج الفيلم إلى كثير الجهد ليكشف انحيازه للطبقة البورجوازية، حتى المشاهد المبطنة بالعاطفية، يتضح فيها هذا الانحياز: مشهد عبد القادر ومليكة في مباني وليلي، يرسمان أحلامهما وتطلعاتهما البريئة والساذجة، إلى درجة تثير السخرية، في إمتلاك سيارات. فينقلب الحوار بسرعة إلى معايرات بالغباء.

أما لقطة رداء مليكة، الذي يغرق في المسبح، بعد أن رمته بعصبية شديدة احتجاجا على ما تعرض له زوجها عبد القادر من مشغله محمد. والذي يعبر عن موقف مناقض للموقف العام للفيلم، فيعد من هفوات وأخطاء الفيلم. إلى جانب نصائح عبد القادر لصاحبه بعدم تناول الوجبات التي تحتوي على مواد حافظة، لأنها مضرة بالصحة، بينما هو يدخن.

عبد القادر الموظف في الشركة الأمنية، يخطئ في حق زوجة محمد صاحب الشركة، ويعاملها على قدم المساواة مع مرتادي المحل التجاري. لكن أسلوبه فظ ويفتقر إلى اللياقة. يتلقى ضربا عنيفا وقاسيا من رجال مشغله محمد بعد أن تعرض لواحدة من أبشع صور الإهانة الآدمية في مشهد كان مفاجئا وصادما جدا. وكان أقسى مشاهد الفيلم. ولا نشاهد مثيلها، إلا في أفلام الإعتقالات السياسية.

يقوم رجال محمد بتقييد يدي عبد القادر، ويثبتون خده أمام محمد فيصفعه خمسة عشر صفعة. يصمم عبد القادر على الإنتقام من محمد بسرقة وثائق من منزله. لكن رجاله يلقون عليه القبض وينهالون عليه بالضرب حتى يفقد وعيه وينتهي الفيلم بقدوم زوجته مليكة وتنقده بتهريبه.

فوزي بن سعيدي

عندما تحدث المخرج فوزي بن سعيدي عن فيلمه في وسائل الإعلام، وصفه بالعاطفي، وغذى هذا الوصف بتوظيف أغنية «أنا لك على طول» لعبد الحليم حافظ، وأغنية «يا حبيبي تعالى الحقني» لاسمهان،  لكن من ناحية الشكل، الفيلم يعج بمشاهد الصراع الطبقي، ومشاهد العنف الدموي والمطاردات البوليسية. ومن ناحية المضمون، الفيلم لا يضعنا أمام قصة حب. لأنه يضعنا أما صراع طبقي بين الفئة الفقيرة والغنية.

من المشاهدة، لا يمكن الإستنتاج إلا أننا أمام فيلم من نوعية الدراما الإجتماعية ممزوج بالنوعية العاطفية والنوعية البوليسية. فالمعروف عن الفيلم العاطفي أن له ميزتان أساسيتان: أنه يحكي قصة حب، وأنه يضع البطلين في موقف تراجيدي يجعل المشاهد يتعاطف معهم. كما هو معروف في الأفلام المصرية، وعلى سبيل المثال، أبي فوق الشجرة. أوفي الأفلام الأمريكية كفيلم قصة حب «love story». البطل في هذه الأفلام وغيرها، شخص لبق ومحبوب لذى المشاهد، ويستحق التعاطف. بينما البطل في فيلم وليلي، العكس، تجتمع فيه العديد من الصفات القدحية والمذمومة، التي تدفع المشاهد إلى الأنفه والنفور منه، وأحيانا السخرية.

يتركز مضمون الفيلم، حول شخصيته عبد القادر الغليظة والفجة، باعتباره شخصية محورية ورئيسية، بما يوحي إليه هذا الإسم، من القدرة البدنية التي يتباهى بها، بكيفية إستعراضية مراهقة. خاصة أنه يتميز ببنية جسمية قوية، لكنها تفتقر كثيرا للنباهة والذكاء. ينتقل بنا الفيلم في ثلثه الأول تقريبا، عبر مشاهد تحليلية لشخصية عبد القادر، لنكتشف تلك الصفات السلبية التي تكدست فيه. فإما ساذج أو أرعن أو متزمت أو عنيف أو خشن يفتقر إلى اللباقة في التعامل مع الناس.

هذه المشاهد التمهيدية، توضح بجلاء موقف الفيلم من شخصيته المحورية والرئيسية ـ ولا أقول البطل ـ على أنه موقف سلبي جدا إجتمعت فيه كل تلك الصفات السلبية لتجعل منه شخصا غبيا. فهو غبي لأنه يرفض أكل المواد الغذائية التي بها مواد حافظة، وغبي أيضا لأنه يفكر في التضامن العربي، بحيث يرفض المنتوجات الأمريكية ويدعو إلى مقاطعتها. وغبي أيضا لأنه ملتزم بتجنب ما يحرمه الإسلام. فيشك في أن المنتوجات الأمريكية حرام، لأن بها قدرا من لحم الخنزير الذي يحرمه الإسلام. ويرفض رائحة الخمر. وفي نفس السياق، هناك سائق سيارة الأجرة المتشنج، الذي ينتقد بعصبية شديدة الإحتفالات برأس السنة. ويسأل لماذا لا يحتفل الغربيون أو الصينيون بعيد الضحى؟ ويتمنى تسونامي بأمواج 300 متر لتمحو الأمة كلها لأنها تحتفل برأس السنة. تصحح له مليكة بأن الاحتفال هو برأس السنة. وبعصبية شديدة أيضا يرفض مجرد سماع صوتها لأنها إمرأة.

ويدفع الغباء والتزمت عبد القادر إلى الجرأة على شاب وشابة إختليا لوحدهما ليلا في سيارة. ويهجم عليهما هو وصديقه الغبي الآخر. ويطردهما وهو يوبخهما: واش تسحابو روسكم فالسويد؟ ولأن الفيلم يتخذ موقفا معاديا من الأغبياء، يأخذ صديقه من الشابة هاتفها، وهو ينظر إليها بإعجاب. ويغتر بنظراتها اللطيفة. تتصل به من بعد، وتجره إلى مصيدة بنتها مع أصدقائها، فينهالون عليه ضربا حتى أصابوه بإعاقة.

نحن إذن أمام مجموعة من الشخصيات الغبية، وتفتقر كثيرا إلى الذكاء. وتنتمي كلها إلى الطبقة الكادحة. وعلى رأسها عبد القادر، الشخصية المحورية في الفيلم.

إذا ذهبنا إلى أهم ما تتسم به الكتابة السينمائية في كل أفلام فوزي بن السعيدي، نجد أنه عنصر الذكاء. وقد ظهر هذا مند أول أفلامه ألف شهر. رغم انه كان فيلما مهووسا بالقضايا السياسية وحقوق الإنسان التي سيطرت على النقاشات في المغرب بعد نهاية سنوات الرصاص. لكن حضور هذا العنصر كان واضحا. وفي فيلمه الثاني كم هو جميل هذا العالم، ارتفع منسوبه بشكل أكبر بكثير.

كانت الكتابة السينمائية في هذا الفيلم، تتسم بذكاء كبير، لكنه إعتمد عليها لوحدها بشكل شبه كلي، فأفقدته متعة المشاهدة. لأن عناصر الفرجة السينمائية الأخرى غائبة. والمعروف عن هذه النوعية من الكتابة السينمائية، أنها تفرض على المشاهد التركيز الشديد حتى لا يضيع منه الخيط الرابط بين الأحداث. وغالبا ما توصف هذه الأفلام، بأنها متعبة للذهن. وأذكر أنني شاهدته في القاعة السينمائية مع ما يقرب من عشرين فردا فقط. وعندما خرج خالي الوفاض بعد عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش، عبر المخرج عن إستيائه الكبير من ذلك. ووجه انتقادا ولوما صريحا وواضحا لرئيس لجنة التحكيم أنذاك المخرج الأمريكي البولوني الأصل، رومان بولانسكي. واعتبره مخرجا كلاسيكيا ومتجاوزا، لا يتوقع منه أن يعجب بفيلم يتسم بذكاء في الكتابة السينمائية، كفيلم كم هو جميل هذا العالم.

لقطة من الفيلم

هذا المعطى يضعنا أمام المعطى الأساسي في فيلم وليلي، وهو أن المخرج فوزي بن سعيدي الذي يلتمس في نفسه الذكاء الفائق، يقدم لنا في الفيلم شخصيته الرئيسية الغبية. فعبد القادر إذا حللنا علميا تركيبته النفسية والذهنية في الفيلم، سنجد أنه يعاني من مشكل خلقي، يتمثل في بطء الفهم، وعدم النباهة والإنتباه، وعدم القدرة على المجارات السريعة للتغيرات. وبدافع رغبته الساذجة في تحقيق المساوات وضبط التنظيم للناس، فهو يستحق الخمسة عشر صفعة. وفي النهاية يسخر منه ومن غبائه بأن يصب الماء على بطنه. في مشهد الحمام حيت يصب عليه صديقه الماء على بطنه. وهذه اللغة السينمائية يستعملها المغربي الذكي شفويا: (كب الما على كرشك)، عندما يكتشف الغبي بعد فوات الأوان أنه خدع.

عندما تأتي الصفعات الخمسة عشر على يد المخرج فوزي بن سعيدي ذو الملامح الضحوكة والعيون الناعسة وحركات جسده، تلك القسمات والنظرات القاسية أو القسوة التي ينتظر أن يتصرف بها بصفته محمد. فإن ذلك قد يحمل رسالة منه إلى الممثل الذي قبل القيام بذلك الدور. عن طريق إختراق عدسة الكاميرا.

اختراق عدسة الكاميرا هو أن يخلع الممثل قميص الشخصية التي يتقمصها في الفيلم، ليرتدي قميصه هو. فما شاهدناه حقيقة في مشهد الصفع: هو المخرج بن سعيدي يصفع الممثل مالزي.

وليست هذه المرة الأولى التي يخترق فيها المخرج فوزي بن السعيدي العدسة، فقد قام بذلك في فيلمه السابق موت للبيع، عندما ألقى القبض على الشاب وصديقته وقادهما في سيارة الشرطة، وفي السيارة يتبادلان القبلات بإيماءات خفيفة جدا من الشرطي/ المخرج. فلم نعد نتابع الشرطي يقود مقبوضيه، بل المخرج يوجه ممثليه.

على غرار باقي أفلام فوزي بن سعيدي، يتميز فيلمه وليلي بكتابة سينمائية ذكية. قادرة على المراوغة والتمويه. وهذه العناصر تحرك كثيرا مخيلة وتفكير المشاهد، ويمكن أن يستقطب جمهورا غفيرا لمشاهدته. لكن تحيزه لشخصياته البورجوازية، ضد الشخصيات الكادحة، من الصعب أن يجعل هذا الجمهور متمسكا بحبه للفيلم، إن لم نقل يجعله ينفر منه. وحتى وليلي المعلمة التاريخية والحضارية المغربية، يمر منها الفيلم مرور الكرام فلا علاقة لها بجسد الرواية والسرد في الفيلم.

 والمشهد الذي تم تصويره في وليلي يمكن تصويره في أي مكان آخر ولا يتغير شيء في رواية الفيلم. فمن يسمع العنوان وليلي، سيعتقد أن للفيلم بعد ثقافي وربما تاريخي عميق، على إعتبار أن وليلي معلمة تاريخية حضارية مغربية. وحضورها في السينما باعتبارها ممارسة ثقافية، سيخلق لديه توقعات ثقافية وتاريخية كبيرة. لكن مشاهدة الفيلم تكشف الغطاء عنه وتخيب التوقعات مع الأسف.

Visited 235 times, 1 visit(s) today