الفيلم السعودي “شمس المعارف”.. حلم لم يكتمل
محمد جمال الروح
تجاوزت قيمة استثمارات صناعة المحتوى في العالم المائة مليار دولار، وهناك أكثر من 300 مليون شخص في تسع دول كبرى فقط، نشروا محتواهم عبر المنصات الرقمية بأنواعها المختلفة.
نحن إزاء مارد يتضاعف حجمه وقوته وتأثيره مع مرور الوقت اسمه “بث المحتوى”، وهناك الملايين حول العالم الآن يجنون المال من بث محتواهم بصرف النظر عن قيمة المحتوى أو خضوعه لأي معايير، فالمحتوى في النهاية سلعة، أكثرها الرخيص الرائج، ونادرها الثمين النافع.
الهدف في كل الأحوال، هو الوصول إلى أكبر عدد من المتابعين، بعد أن مس جنون الشهرة والثراء السريع عقول الشباب والمراهقين الذين تحولوا إلى صانعي محتوى، وظهرت ألقاب مثل يوتيوبر، بلوجر، وتيك توكر، وانفلونسر.. وغير ذلك.
هذا مدخل ضروري لتناول عن الفيلم السعودي “شمس المعارف” عندما نعرف أن صناع الفيلم (الأخوين فارس وصهيب قدس) دخلا عالم السينما من خلال صناعة المحتوي وبثه على موقع يوتيوب، ولهم تجارب عديدة في هذا المجال، ليس وحدهما بل كل أبطال الفيلم بلا استثناء، فقد خرجوا جميعاً من رحم صناعة المحتوى لدرجة أنهم أهدوا فيلم “شمس المعارف” لكل صناع المحتوى في السعودية.
يلتقي هذا مع موضوع الفيلم نفسه الذي يحكى عن شاب يبث مقاطع صغيرة على موقع يوتيوب، ويحلم بتنفيذ فيلم سينمائي مع أصحابه. يدفعنا هذا كله للربط بين ظاهرة صناعة المحتوى وفن السينما: هل أصبحت صناعة المحتوى هي مدخل الشباب السعودي لعالم السينما؟ وهل هذا مؤشر لتغول ثقافة صناعة المحتوى على الفنون عامة والسينما خاصة؟ أم أنها خطوة أولى يخطوها هؤلاء الشباب المحملين بالموهبة نحو السينما؟
كان عام 2010 بمثابة ذروة صناعة المحتوى في المملكة العربية السعودية، حينها ظهر عدد كبير من صانعي المحتوى على موقع اليوتيوب، وأصبحت صناعة المحتوى ملجأ الموهوبين في مجالات التمثيل والكتابة والتصوير والإخراج، في ظل احتكار المنتجين لوسائل الإعلام الرسمي والقنوات الفضائية.
مثلت الكوميديا الاتجاه الرئيسي لهذه المحتويات، نظراً لأن المسلسلات التليفزيونية الكوميدية كانت هي النموذج الناجح الذي شكل وعي هذا الجيل فنياً وأثر فيه لسنوات لاحقة، مثل مسلسل “طاش ما طاش” الذي ظل يعرض لمدة 15 عاماً بداية من منتصف التسعينيات (الفيلم بالمناسبة يهاجم المسلسل بشدة ويتهم شخصياته بالعنصرية).
ومع تطور الحياة وسرعة إيقاعها وتنوع مصادر الإبهار وجذب الانتباه، تمرد هؤلاء الشباب على القوالب الكوميدية القديمة، وأسسوا قوالب كوميدية جديدة من خلال قنوات اليوتيوب التي تطورت وأصبحت كيانات إنتاجية ضخمة تجمع هؤلاء الشباب وتنتج لهم أعمالا يتم بثها بغزارة لتحصل على مئات الملايين من المشاهدات. وتطور الأمر فتحول هذا المحتوى إلى أفلام سينمائية، حتى أن شبكة نتفلكس استغلت هذه النجاح وبثت بعض هذه الأفلام ضمن محتواها مثل فيلم “الخلاط” وغيره.
صهيب وفارس قدس هما من أبناء تلك المنظومة حيث قدما برامج ناجحة حازت على مشاهدات كبيرة ولمع نجمهما من خلال محتوى “تلفاز 11 “على اليوتيوب. تخصص فارس في الإخراج والمونتاج، بينما برع صهيب كممثل كوميدي، ولهما سوياً فيلم سينمائي قصير بعنوان “ومن كآبة المنظر” عام 2017 ثم قدما تجربتهما الطويلة الأولى “شمس المعارف” الحاصل على دعم مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي كخطوة واثقة نحو الانتاج السينمائي.
فتاة في مدرسة البنين
يدور “شمس المعارف” حول “خالد” (براء عالم) وهو طالب في المرحلة الثانوية يكره الدراسة رغم إلحاح والديه، هوايته تصوير مقاطع كوميدية مع زميله “معن” (إسماعيل الحسن) ونشرها على اليوتيوب. يصور خالد تلك المقاطع داخل معمل الفيزياء، فيكتشف الأستاذ عرابي “صهيب قدس” صاحب الشخصية الهستيرية، ما يفعلانه، ونكتشف بدورنا تلك الشخصية التلقائية المضحكة الشغوفة بالفن التي أثرت الفيلم بأداء كوميدي ابتعد عن الافتعال والابتذال، بالتعاون مع إسماعيل الحسن صاحب الحضور الكوميدي المميز.
ينضم إليهم زميلهم “إبراهيم” (أحمد صدام مغني الراب الشهير)، ويتعاون الجميع في تصوير فيلم رعب مستوحى من صفحات كتاب “شمس المعارف”. ولا يجد هذا الفريق المبتدئ غير المدرسة لتصوير مشاهد الفيلم لدرجة أنهم يقومون بتهريب ممثلة إلى داخل مدرسة البنين الثانوية، ومن هنا تنتج المفارقات والاشتباكات بين الشخصيات التي تشكل الوقع الكوميدي للفيلم، علاوة على الاشتباك مع مدير المدرسة الأستاذ “مصلح” (نواف الشبيلي) الذى أجاد تقديم دور المدير الغشوم كاره الفن وقاتل المواهب.
الفيلم يتعرض بالنقد المبطن للمؤسسات التعليمة وطرق إدارتها، كما يتعرض لمشكلة الوصاية الأبوية التي تقتل الطموح وتئد الأحلام.
الفيلم والظاهرة
خصوصية الأسلوب هي أهم ما يميز المخرج السينمائي لأن السينما هي حالة خاصة من الفن، تحمل رؤية وبصمة صاحبها الذى شكلها في خياله أولا قبل أن يطبعها على شريط الفيلم، والفيلم الحقيقي هو فيلم مقاوم للزمن كلما مرت عليه الأيام زادته بريقاً، أما صناعة المحتوى الفني تحديدا فلها فلسفة وأهدف أخرى، فهي عملية مغرضة بالأساس، هدفها الانتشار والوصول إلى قطاع عريض من المشاهدين باستخدام خلطات متوازنة مضمونة التأثير، لكنها تقلص مساحة التجريب، وتحجم الخيال ولا تشتبك مع المحظور، لأن هدفها الربح التجاري المضمون.
وعلى هذا الجيل الرائع الذى كتب وأخرج وصور وألف فيديوهات اليوتيوب أن يعي أن فن السينما، إن أراد اقتحامه، هو ضوء محمل بالعمق والرؤية والفلسفة والنضج والمجاز البصري. والكتابة للسينما بكل ما تحمله من فنيات وألاعيب ومهارات وتطوير للأفكار، ليست ككتابه “سكريبت” المحتوى الرقمي، بل إن الجمهور الذي يذهب للسينما في طريقه إلى فن يعشقه ويحترمه، ليس كجمهور اليوتيوب الذي يشاهد محتواه وهو متكئ في فراشه.
نلمح بهذا حتى لا تضيع الفرصة الثمينة التي أصبحت واقعاً ملموساً فالسينما في المملكة الآن، بما نراه من اهتمام رسمي ودعم مؤسساتي، جديرة بأن تتواجد على المشهد السينمائي العالمي ولا نستطيع أن ننكر وجود تجارب جديرة بالاحتفاء قدمت تجاربها بالفعل.
تجربة “شمس المعارف” تجربه مقبولة كتجربة أولى رغم التأثر الواضح بتقنية وشكل أفلام بوليوود الحديثة جداً، وكان من الأفضل أن يختزل الفيلم في ساعة ونص فقط، نتيجة ترهل السرد بعد الساعة الأولى من الفيلم وتكرار مشاهد تصوير الفيلم بكل ما فيها من مترادفات بصرية، ومشاهد النهايات المرتبكة الممطوطة خاصة في مشاهد الصراع على عرض الفيلم في حفل التخرج، واختناق الشخصيات درامياً داخل الفيلم رغم أن الفرصة كانت متاحة لتطوير الشخصيات والفكرة معا.
فارس قدس مخرج موهوب، أراد أن يضع كل شيء في فيلمه فضاعت الخصوصية وزادت نسب الخلطة. أعتقد أن فيلمه القادم سيحمل بصمة واضحة لمخرج واعد. وصهيب موهبة كوميدية كبيرة طاغية الحضور، و”براء عالم” نجم ينتظره مستقبل مشرق .
“شمس المعارف” فيلم مبهج ومسلي، يراهن على جمهور السينما لكن قلبه ووجدانه مع جمهور اليوتيوب!