العلاقة بين الشكل والمضمون في الفيلم السينمائي
من العمليات الذهنية التلقائية عند الإنسان كما هو موجود في علم الاجتماع، إدراكه العفوي وبحثه المستمر عن الأنماط، فبها يعرف نظام/ منهج/ صيرورة الشيء أو تلك الماهية موضع القراءة، وبها يتحقق فعل القراءة، من خلال وجود نمط في البناء مرتبط بموضوع لا يشذ عن أعمدة البناء تلك.
فالقراءة تمر بأربعة مراحل1 (الإدراك – التعرّف – الفهم – التفسير).
فبداية عند المشاهدة، يدرك المتفرج الفيلم، أي يدرك وجوده ويحاول أن يتعرّف عليه، أي يتعرف على ما يثيره هذا العمل الفني، ثم يحاول أن يفهم تلك المثيرات، ومن ثم يحاول أن يفسرها، وفي حالة الفهم، يسبقها المشاهد بأنه قد تعرّف وأدرك النظام الذي يعمل به الفيلم، أي يدرك وجود الشخصيات والأحداث وطريقة عرضها من المُخرج، ثم يحاول أن يتعرف عليها، أي على طريقة المخرج في عرضه لأحداث الفيلم، ومن خلال تعرفه على طريقة العرض، يبدأ في فهم الفيلم ومن ثم محاولة تفسيره وهي آخر خطوات القراءة.
إذا لاحظ المشاهد أن المخرج يصور مثلا في موضع من الفيلم، أحداثا محورية وعصيبة جدا على شخصيات الفيلم بنفس طريقة عرضه للأحداث مع شخصيات ثانوية أو أحداث هامشية في الفيلم، لن يمكنه التعرف على مبرر وجود الأحداث تلك، لأن المخرج لا يبرز قيمتها، أي أن المخرج لم يحاول أن يوظف شكلا مناسبا لموضوع فيلمه، إلا إذا كان يقصد تهميش الأحداث كلها ولكن يجب بالضرورة أن يقدم مبررات.
وفي الأفلام الجيدة، يمكننا التعرف بسهولة على المنهج الذي يستخدمه المخرج في فيلمه للتعبير عن الأحداث من وجهة نظره أو من وجهة نظر الشخصيات، أي أننا لا يمكننا التعرف على الشكل السينمائي بدون محتوى يتناسق معه، ولا يمكننا التعرف على المحتوى بدون شكل يعبر عنه.
في فيلم “Amour” للمخرج ميكائيل هانيكا، يستخدم المخرج مع الشخصية المريضة، كادرا ثابتا دائما إذا كانت وحدها، ويستخدم مع زوجها حركة أفقية من اليسار لليمين “Pan left – Right” دائما، وهو بذلك يحاول أن يثير ويؤكد الشعور بالموت والذي هو عكس الحركة التي تشعر بها الزوجة، ويؤكد أيضاً عدم فهم واستيعاب وتقبّل الزوج لاحتضار زوجته أو محاولتها التخلص من حياتها، لأنها تشعر بالموت أكثر منه، فالكاميرا عندها ثابتة جدا وعنده تتحرك.
لم يخبرنا المخرج علانية بتلك النوايا على لسان شخصياته، ولكننا تعرفنا عليها وفهمناها وفسرناها، لأن المخرج يستخدم منهجا في طريقة عرض الفيلم لنا كمشاهدين، منهج يحقق التآلف والتناسق بين المحتوى أي موضوع الفيلم وبين الشكل أي طريقة عرض الفيلم.
إذ أن مسألة التناسق بين الشكل والموضوع في السينما هي أساسية للعمل السينمائي حتى يصبح جميلا.
في الجزء السابق من الدراسة التي نشرتها عن مصطلح اللغة السينمائية، حاولت تأصيل المصطلح وتأكيد صحة وجود لغة للسينما، وفي نهاية المقال ذكرت إن اللغة، أي لغة، تفترض وجود شيفرة لقراءتها، وانتهيت بأنني سوف أشرحها في الجزء الثاني.
نظام تحويل المعلومات
يعرف دانيال تشاندلر الشيفرة قائلا2 بأنها “الأنظمة الإجرائية التي تتكون من مجموعة من الأعراف المترابطة التي تحدد العلاقات المتبادلة بين الدال والمدلول” ويعرفها رولان بارت بأنها “القوى التي تضع المعنى”.
أي أن الشيفرة هي النظام الذي تتحول من خلاله المعلومات “الدّوال” باختلاف أشكالها “سمعية – بصرية” إلى معلومات أخرى “مدلولات”، والتي توجد في الفيلم السينمائي بأنواعها الزمنية أي التي تتكون منها المعاني والمكانية أي التي تؤسس للأطُر والوُسط التي توجد فيها المعاني، شرط وجود علاقات بين كل المعلومات، لتفادي اعتباطية الوجود لصالح مبرر الوجود، إذ أنه في نظام اللغة، كل شيء مرهون بالعلاقات.
يفترض وجود الشيفرة إذن وجود نظام داخل العمل السينمائي، وبالتالي وجود وحدة عضوية بين عناصر العمل، وحدة بين الشكل والمضمون، بين طريقة التعبير ومادة التعبير، وحدة تكمن في داخل تفاعل عناصرها، الشيفرة التي تتيح فعل القراءة للنص السينمائي، الوحدة التي بإمكاننا من خلالها التعرف على العلاقات بين عناصر الفيلم الفنية ومبررات وجودها ودلالاتها، والتي بدونها، أي بدون الوحدة العضوية، لا يوجد شيفرة، لأن الفيلم حينها سيكون بلا نظام، وبالتالي ستختفي العلاقات بين عناصره ويستحيل قراءته.
بإمكاننا القول إذان، إن على الفيلم أن يتميز أثناء العرض بالرسوخ والصرامة حتى يصبح لغة، والثبات ذلك يأتي من تجانس عناصره التي تكون المادة الفنية وتعرضها.
من فيلم “على آخر نفس” لجودار
“يعتبر المحتوى بدون الشكل، استخلاصا لشيء ليس له وجود” كما يقول هارولد أوسبورن.
لكل من المدارس النقدية المختلفة، تعريف مختلف للشكل والمحتوى أيضا، فشكلوفسكي 4أحد نقاد المدرسة الشكلانية الروسية يقول “ان الطريقة الشكلية لا تنكر الأيديولوجية أو المحتوى في الفن، لكنها تعتبر ما يدعى بالمحتوى مظهرا من مظاهر الشكل”، ويراجعه في قوله آخر ينتمي لنفس المدرسة هو فكتور جرومنسكي قائلا” إننا قصدنا “الإستاطيقي” حينما كنا نقصد “الشكلي”، فإن كل حقائق المحتوى تصبح في الفن ظواهر شكلية”، والعديد جدا من الآراء التي لا يسعنا المجال لذكرها، تؤكد اتساع الهوة بين النقاد والفلاسفة في تعريفهم أو تفريقهم بين الشكل/البنية والمحتوى/المضمون.
ولكن بالإمكان تعريف الشكل بما يخدم أغراض البحث ويعبر عنها بشكل لا يتناقض مع منهاجيته، ويؤكد خصوصية الفن السينمائي واللغة السينمائية أيضاً.
الشكل إذن، سواء كان يتكوّن في ذهن الفنان قبل أو بعد وجود المحتوى، هو طريقة العرض العينية التي تستثمر قدرات المحتوى لتحقيق الغرض الشعوري الناتج عن الإحساس بالجمال، والمحتوى هو المادة الذهنية والشعورية التي يتكون بها الشكل أو يتم إنتاجه منها.
وفي التعريف ذلك لم أهتم بأولوية الفكرة أو شكل الفكرة في ذهن الفنان، حيث مسألة أولوية الشكل على المحتوى أو العكس لا تهمنا، بقدر ما يهمنا ماهية الشكل وماهية المحتوى.
فبعض المخرجين مثلا تكون ذريعة صناعة الفيلم، هي مجرد محاولة لاستعراض قدراته على تكوين أشكال يعتقد بأنها جمالية، لكن الأشكال تلك إذا اختفى أو ضعُفَ المحتوى فيها تبقى أشكالا لا قيمة فنية لها، والنماذج كثيرة.
الشكل في الفيلم السينمائي يتكون من طرق السرد وألوان الفيلم وموسيقاه وكل عناصر السينماتوغراف، والتي تعرض محتوى، يُحوّل الشكل من شيء مُجرّد إلى “علامة” أي إلى عنصر ينتمي لعالم الأفكار، أي يبث فيه حياة، يتمكن المشاهد عندها من التفاعل الشعوري معها، ولكن بشروط!
الوحدة العضوية
لا يمكننا فصل الموضوع عن شكله من ناحية القيمة الفنية لكليهما، لأن الشكل هو أداة للموضوع ومعبر عنه، ولابد من وجود وحدة عضوية بين العناصر المكونة للعمل الفني أي الشكل والمحتوى لكي يكون قابل للقراءة.
الوحدة العضوية إذن، هي الشرط الوحيد لتحويل الشكل أو المحتوى المجرد إلى شكل أو محتوى يمتلك معنى ثقافي يمكن قراءته، أي معنى من صميم العمل السينمائي، فالوحدة العضوية إذا هي مفتاح الشيفرة السينمائية، وهي أولى الأنماط التي يدركها المشاهد لكي يتعرف على ماذا تعني بنية الفيلم الموجودة في طريقة عرضه وماذا يعني محتواه.
والوحدة العضوية ليس معناها تجنب اختلاف الحياة عن الفن، بل تؤكد ان الفن موجه للإنسان الذي يمتلك قدرات ذهنية من البديهي عدم تجاوزها، فاستحالة استيعاب مغزى كلمات متراصة لا تحمل أية ترابط فيما بينها كجملة، نفس استحالة استيعاب فيلم لا ترتبط عناصره المكونة للشكل والمضمون بأية علاقة.
فاتساق محتوى الفيلم مع طريقة التصوير، ضرورة إبداعية للعمل السينمائي، لأنها تكشف قيمة المخرج وأثره بالنسبة لمنتجه الإبداعي، كما أنها تتيح عملية القراءة، لأن القراءة لا تحدث سوى باتحاد الكلمات مثلا لتكوين موضوع.
فالقراءة3 “هي خبرة محددة في إدراك شيء ملموس في العالم الخارجي ومحاولة للتعرف على مكوناته وفهم وظيفتها ومعناها”.
وبسبب التلاصق والتماهي الشديد بين الشكل والمحتوى، لابد من وجود نظام يكشف لنا العلاقات بين عناصر الفيلم ويحولها كما ذكرنا من مجردات إلى علامات، وهي شرط القراءة.
“لكي تتم عملية القراءة لابد أن يتعرف المتلقي أنه أمام نظام سيميائي من العلامات، نظام يتخلل الموجودات” سيزا قاسم
“إن العلامات لا تكتسب دلالة إلا من خلال تحويلها إلى نظام ذي دلالة” إميل بنفنسنت.
هوامش المقال:
1- القارئ والنص، العلامة والدلالة – سيزا قاسم / ص 12
2- قاموس مصطلحات السيموطيقا – دانيال تشاندلر / ص 30
3- القارئ والنص، العلامة والدلالة – سيزا قاسم / ص 192
4- الشكلانية الروسية – فيكتور إيرليتش / ص 16