الطموح الشكلي في “أبو ليلى” أضاع المضمون
من المؤكد أن الفيلم الجزائري “أبو ليلى” الذي عرض في افتتاح تظاهرة “أسبوع النقاد” بمهرجان القاهرة السينمائي الـ 41، لا يخلو من الطموح الفني، والرؤية السينمائية التي تبتعد كثيرا عما اعتدنا رؤيته في الأفلام الجزائرية عموما، والأفلام الجزائرية التي تتناول ظاهرة الإرهاب بوجه خاص.
في أول أفلامه يبتعد المخرج أمين سيدي بومدين الذي قضى سنوات يعمل على سيناريو فيلمه والتحضير لتصويره، عن السائد والمألوف في لغة التعبير وليس السرد، ويقترب من السوريالية بقدر ما يبتعد عن الواقعية. ورغم البداية الدرامية القوية التي تشي بما يحدث في واقع الجزائر عام 1994 أي في ذروة أحداث “العشرية السوداء”، سرعان ما يقطع الفيلم مسارا شبه تجريدي، لا ينشغل كثيرا بتحليل الواقع السياسي بل يبدو أكثر مهتما بالفردي، الإنساني، الشخصي، النفساني، أي ببطليه اللذين يدخر طبيعة عملهما الى الجزء الأخير من الفيلم الذي يتجاوز زمن عرضه الساعتين.
في البداية: حادث اغتيال ثم تبادل اطلاق النار بين الإرهابي والشرطة، ثم نخرج من المدينة الى الصحراء، بعيدا عن العاصمة حيث وقع الحادث الإرهابي، إلى الجنوب الجزائري بطبيعته القاسية الجافة وجباله الحمراء وصحرائه الممتدة والتي تصنع بيئة بصرية ملائمة تماما لأحد أفلام الويسترن، غير اننا لسنا بالطبع أمام أحد تلك الأفلام، بل أمام ما يقترب من الدراما النفسية التي تتعلق بفكرة الخوف.. من الموت.. من العنف.. ومن المجهول، بل ومما يكمن داخل الانسان نفسه من هواجس ومخاوف وكوابيس تتداعى بفعل تجربة العيش والعمل في مناخ يمتلئ بالقتل والدماء.
رجلان في سيارة يتجهان الى حيث لا نعر وربما هما أيضا لا يعرفان. الهدف المعلن هو العثور على إرهابي خطير الشأن يدعى “أبو ليلى”. لكنهما يصبحان تدريجيا أكثر اهتماما بالعثور على السكينة وهدوء النفس التي لا لا يمكن لها أن تهدأ. الفكرة شبه تجريدية وغن كانت مغلفة بمناخ الإرهاب في الجزائر. والتجسيد الدرامي يعتمد على أداء الممثلين الاثنين: الأول “لطفي” يبدو متماسكا يحاول تهدئة زميله “س” (مقصود ألا يحمل اسمه وكأنه خرج من احدى روايات كافكا أي شخصية لا وجود تاريخي لها في أرض الواقع).. فهذا السيد “س” يبدو مصابا بهواجس مخيفة تسيطر عليه، فهو يرى الدماء ويعاني من هجوم الكوابيس المرعبة عليه في الليل، وخلال ذلك، نعبر الكثير من المشاهد القاسية التي تمتلئ بالدماء والقتل بل والمذابح.. في تقابل مقصود مع فكرة “التضحية” في التراث الإسلامي التي يتعلمها الأطفال في حصص الدين في المدارس الابتدائية، أي كيف شرع سيدنا إبراهيم في ذبح ابنه إسماعيل لولا أن رحمه الله وجعله يذبح خروفا أو “الضحية” بدلا من ابنه. هن مثلا نشاهد الكثير من التقابلات بين ذبح الأضحية وذبح البشر.
كثير من المشاهد التي نراها والتي تستمر على شكل تداعيات تدور في الخيال، تلخص تلك الحالة الهذيانية والشعور بالفوبيا والرعب من الدماء لدى السيد “س” بوجه خاص الذي يبدو عديم الحيلة بينما يبدو زميله لكفي أكثر سيطرة على مشاعره وهو الذي يقبض على المسدس تمهيدا لأن يستعين به إذا ما اقتضت الحاجة.
المخرج يريد ان يصور حالة نفسية وعقلية، لا أن يروي قصة محكمة، لذلك فهو يهتم أكثر ببناء المشاهد المنفصلة التي لا ترتبك ببعضها البعض وهو ما يجعل الفيلم يميل حينا الى تكرار الفكرة حد التخمة، أو الى قدر كبير من الغموض الذي يثير الارتباك لدى المشاهد الذي يريد أو ينتظر أن يعرف أكثر عن الشخصيتين ودوافعهما وماضيهما والى أين يسيران وكيف ينتهي أمرهما. لكن مثل هذه التساؤلات لن يستطيع المرء أن يعثر لها على إجابات، فهذا مخرج يجرب في الشكل، أي أن من الممكن اعتبار “أبو ليلى” عملا تجريبيا، يميل لتغليب الخيال على الواقع بل يرفض الواقعية ويتمرد عليها، وهو طموح جيد دون شك، لكن المشكلة ان الخيط الرئيسي يفلت نته ويجعله يظل يدور حول نفسه. وهو أحد عيوب الفيلم الرئيسية.
بذل الممثلان الرئيسيان جهدا كبيرا بدنيا ونفسيا وتمثيليا في أداء الدورين: لياس سالم (الذي تميز كثيرا في فيلم الوهراني) في دور لطفي، وسليمان بوهواري في دور “س”. ويظل أهم عناصر الفيلم ذلك التصوير البديع للمناظر الخارجية في الصحراء، مع اهتمام كبير بالتكوينات الموحية التي تشي بحالة الاضطراب النفسي والجو الكابوسي العام للفيلم، وباستغلال تفاصيل المكان للمحافظة على سلاسة التدفق في الانتقال بين اللقطات. ويعود الفضل في براعة التصوير الى المصور الياباني المرموق كاناميه أونوياما Kanamé Onoyama..
“أبو ليلى” تجربة شديدة الطموح ربما لم تحقق ما كان منتظرا منها، لكن المأمول أن يتمكن سيدي بومدين في فيلمه القادم، من احكام السيطرة على السيناريو والتمكن من القبض بقوة أكثر على مفاصل الموضوع.