“الطالب” الروسي في كان.. هوس التعصب الديني يبلغ الجنون
من أهم ما عرض من أفلام في قسم “نظرة ما”، وهو القسم الموازي في أهميته للمسابقة الرئيسية بالمهرجان، الفيلم الروسي “الطالب” (المعنى الحرفي للفيلم بالروسية هو “الحواري”) للمخرج كيريل سربرينيكوف. إنه تراجيديا هائلة عن السقوط في مستنقع التعصب الديني، من خلال دراما سينمائية مكتملة تكشف كيف يمكن أن يستند الهوس بقوة على ما جاء من تعاليم في “الكتاب المقدس”، تماما على غرار التعصب الإسلامي الذي يصل حدّ الهوس ثم يفضي إلى العنف
.
الفيلم الروسي البديع مقتبس عن مسرحية للكاتب الألماني ماريوس فون ماينبرغ (سبق أن قدمها المخرج نفسه على المسرح في روسيا)، وهو يستخدم الهوس الفردي بالدين، لكي يكشف التعصب الكامن تحت سطح القشرة الخارجية لمؤسسات المجتمع الروسي فيما بعد انهيار التجربة الاشتراكية، أي في ظل غياب الأيديولوجيا السياسية، وظهور حركات التعصب القومي ذات الغطاء الديني، ليس فقط في روسيا بل في كافة أرجاء الإمبراطورية السوفييتية.
بطل الفيلم هو “فينيامين” (أو فينيا).. شاب مراهق طالب في المدرسة الثانوية، يكتشف في تعاليم الكتاب المقدس ما يعتقد أنه يحقق تفرده وسط أقرانه الذين يعتقد أنهم غارقون في التفاهة إن لم يكن في “الخطيئة” باسم التحرر والعصرية. ويبدأ الفيلم برفض فينيا ارتداء ملابس السباحة التي يعتقد أنها محرمة بموجب تعاليم الدين، ويدخل بالتالي في جدل طويل مع أمّه التي تولت تربيته بعد انفصالها عن أبيه، والتي تعتقد أنه ربما يكون قد أدمن المخدرات، أو يخشى أن يراه الآخرون وعضوه الجنسي في حالة انتصاب، بينما يصر هو على أنه متمسك بما جاء في “الكتاب المقدس”. نلاحظ هنا أننا إزاء مفارقة بين جيلين: جيل الأم الذي عاش في زمن الشيوعية العلمانية التي لم يكن موضوع الدين حاضرا على سطح المجتمع، أو فكرة تشغل الناس، وجيل الابن الذي ولد “بعد السقوط” وفي ظل تغوّل قوانين السوق واستيراد كل معالم الثقافة الغربية من الغرب بما فيها حرية المثلية الجنسية التي كانت تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون في الاتحاد السوفييتي.
تدريجيا يزداد تعصب “الطالب” وتمسكه الحرفي بما ورد من تعاليم مسيحية، إلى أن يصل به الهوس حد الاعتقاد في كونه أحد المبشرين بالدين، أي أحد الحواريين، ويتخذ من صبي معاق، لديه ساق أقصر من الأخرى، فأر تجارب، يمارس عليه قدراته المزعومة في شفاء المرضى، فيقنعه بالانصياع له والخضوع للتلقين الديني وضرورة ترك “الإيمان” يتسلل إلى أعماقه، ويحاول استدعاء معجزة الشفاء، طالبا من الله أن يطيل من الساق القصيرة عند رفيقه الذي سرعان ما سيكتشف أن سر انجذابه به ليس في الواقع سوى كونه من المثليين أي “الشواذ”، أي أن الفتى يتحمل سخافات فينيا لأنه معجب به ويريده حبيبا له، بينما يصرخ فينيا بقوة مقتبسا من آيات إنجيل لوقا (وكثيرا ما يستخدمها في الفيلم لتأكيد أفكاره) ما يدين الشذوذ الجنسي.
لكن الأمر لا يتوقف فقط عند المثلية الجنسية (مؤلف المسرحية بالمناسبة من دعاة التحرر الجنسي وقد رفض زيارة روسيا لحضور العرض الأول لمسرحيته هناك عند تقديمها على المسرح، احتجاجا على الموقف الرسمي من المثلية الجنسية في روسيا أي مقاومة إصدار تشريعات تمنع حريّة المثليين وحقهم في الزواج.. الخ). فما سيحدث أن فينيا سيندفع في اتجاه رفض التصنيع ورفض نظرية داروين وتحدي معلمة الأحياء أمام الطلاب بطرق شتى تصل إلى حد السوريالية في بعض المشاهد كما يحدث عندما يظهر في الفصل الدراسي وهو يرتدي فراء يجعله يشبه القرد ويقفز فوق المقاعد في احتجاج وسخرية من نظرية التطور الداروينية التي يرفضها، أو عندما يتعرّى تماما أمام الطلاب.
يلقى تعصب الفتى ترحيبا من جانب راعي الكنيسة الأرثوذوكسية، الذي يريد أن يستقطبه لكي يصبح أحد الدعاة، على أن يخضع لتعاليم الكنيسة التي هي جزء من مؤسسات الدولة التقليدية المحافظة. ولكن تطرف فينيا يجعله يرفض دخول ساحة التدين الرسمية (تماما مثل الإسلاميين أو دعاة الإسلام السياسي).
وستفضي تلك التحديات التي يواجه بها فينيا معلميه، إلى تعاطف كل المسؤولين في المدرسة مع أفكاره، والكشف عمّا لديهم من تعصب ضد المثليين واليهود والنساء والنظريات الحديثة في الفلك والعلوم والطب بدليل أنهم يرضخون له ويقبلون بتدريس نظرية الخلق التي وردت في الإنجيل جنبا إلى جنب، مع النظريات الحديثة في خلق الكون. الشخصية الوحيدة التي ستتصدى له هي “إيلينا” مدرّسة العلوم التي ترفض تماما الرضوخ والتسليم بالهزيمة أمامه حتى النهاية.
يستخدم المخرج كتابة الآيات الإنجيلية على الشاشة كلما وردت على لسان “فينيا” لكي يصبح كل ما يستند إليه موثقا، مسندا إلى التعاليم الدينية التي يجري تفسيرها بالطبع بشكل حرفي حسبما وردت في النص. كما يستخدم الحركة الدائمة داخل المشاهد، سواء حركة الشخوص أو حركة الكاميرا، وكأننا أمام حلبة مبارزة بين الأفكار، ويكشف في مشاهد شديدة السخرية عن تهافت ما يطرحه بطله الصغير، عندما يكشف ضعفه ونفاقه أمام الجنس، ويصور كيف يصل به هوسه بالدين إلى القتل.
وكما يعتمد الفيلم على التكوينات التي تتمتع بإضاءة خافتة وألوان قاتمة، يتميز الفيلم أيضا بالأداء التمثيلي الرفيع لجميع الممثلين وعلى رأسهم الممثلة فيكتوريا إيسافكوفا في دور إيلينا، وبيتر سكورتسوف في الدور الرئيسي.