“الطاقم”.. اقتراب من السينما وأهلها
فيلم “الطاقم” -الذي لسبب غامض يعلمه صنَّاع العمل خرج اسمُهُ بلغة أجنبيَّة هي اللغة الإنجليزيَّة هكذا “The Crew”- فيلم تسجيليّ مصريّ أنتج عام 2018. الفيلم فكرة رامي جمال، وسيناريو وإخراج إسلام رسمي، حوار أمجد مصطفى. الهدف الواضح والمُعلَن منه هو تقريب فنّ السينما إلى المُشاهد العربيّ البسيط. وإذا غضضنا النظر عن هدف الفيلم مرحليًّا؛ فإنَّ الفيلم الذي يدور في ساعة من الزمن ليس بسيطًا كما يبدو، بل هو فيلم مبنيّ بناءً متوازنًا، وتجربة تستحق الاهتمام.
الفيلم قائم على حشد عدد كبير من صُنَّاع الفنّ السينمائيّ الحاليِّين وإعطائهم الفرصة لينقلوا للمُشاهد تقديم العمل السينمائيّ كلّ على حسب تخصُّصه. من خلال أسئلة يوجِّهها مُحاور لا يظهر أبدًا، ومن الواضح أنَّها الأسئلة نفسها التي يوجهُّها لكلّ شخص، والتي من الممكن تلخيص توقُّعها من مُجمل الإجابات في الأسئلة الآتية: ما هو مضمون عملك؟ ما هو تفسيرك لفلسفة العمل (في التخصصات التي بها آفاق متعددة مثل التأليف والإخراج والموسيقى)؟ ما هي الصعوبات التي تواجهها في العمل؟ وكيف ترى المهنة الآن؟
وقد اتَّجه صُنَّاع العمل إلى ملمح فنيّ حيث بدأوا براوٍ (السيناريست تامر حبيب)، وانتهوا به أيضًا؛ فكأنَّ الفيلم كلَّه يدور في سياق روايته وأحلامه التي أطلعنا عليها في روايته عن تجاربه الأولى مع فنّ السينما. كما عضَّد المخرج هذا التوجُّه الفنيّ بوجود الراوي في دار عرض سينمائيّ، واستخدام الشاشة في إدخالنا إلى الفيلم ومُجرياته، وعودتنا إلى هذا الراوي في آخر الفيلم بابتسامة على وجهه تبدي رضا عن مُجمل ما قِيلَ، وكذلك بانتقالة بين الراوي وبين أوَّل المُتحدِّثين (مدير التصوير أحمد المُرسي). كلُّ هذه الاستخدامات عزَّزت الملمح الفنيّ الذي يجنح ناحية الدراميَّة، والذي يعبِّر بدوره عن محبَّة صُنَّاع العمل لعملهم السينمائيّ العامّ وإطاره.
وقد قسَّم الصانع فيلمه إلى نوعَيْن من المَشاهد؛ الأولى وهي الغالبة طوال دقائقه وفيها يظهر ضيوف العمل -كلٌّ منهم جالس على كرسيّ- الذين يقومون بمشاهد حواريَّة واضح فيها استحضار الفكرة -أيْ عِلمهم بالمضمون العامّ للأسئلة المُوجَّهَة إليهم-، وحُريَّة التعبير التي تترك لهم العنان ليقولوا ما يريدون بغضّ النظر عن قيمته التعبيريَّة عن مضمون العمل المُراد تقديمه من كلّ، وعلى حسب مهارة كلّ منهم في التعبير والإقناع، وفهمه من الأساس لحقيقة عمله. فهذه المَشاهد تقترب كثيرًا من كونها مشاهد إدلائيَّة؛ يُدلي كلٌّ منهم بدلوه.
النوع الآخر من المَشاهد اعتمد على مشاهد مُستحضرة من تصوير أفلام سابقة مَحفوظة لدى مُنتجيها أو من أعمال كانت تجهَّز ساعتها قاموا بتصويرها لإكمال الصورة؛ ومُهمتها هي مُصاحبة حديث المُتحدِّث لتُوضِّح للمُشاهد ما يقوله عمليًّا، وتطلعنا على قيمة الذي نسمعه على أرض الواقع. وقد كان صُنَّاع الفيلم مُحقِّين حين اقتصروا في استحضار هذه المشاهد على الأعمال غير المعروفة فقط من المُشاهد العاديّ -وهو المُستهدف من الفيلم كلّه-؛ فلمْ يفعلوا ذلك مع الكتابة ولا الإخراج ولا التمثيل، بل أضافوه للإنتاج والتزيين والمُعدَّات والملابس وغيرها مِمَّا لا يراه المُشاهد من صناعة العمل الفنيّ. وما يُميِّز هذه المَشاهد هو اختصاصها بالموسيقى التي أدارها “أحمد الصاوي” بمهارة معهودة عنه، وكذلك امتازت بتحرُّك الكاميرا عددًا كبيرًا من تحرُّكاتها على خلاف النوع الأوَّل الذي ناسبته الكاميرا الثابتة.
الفيلم موضوعًا مُقسَّم إلى قسمَيْن كبيرَيْن: الأوَّل وهو الأطول اهتمَّ بتعريف كافَّة مراحل صناعة الفيلم السينمائيّ منذ أنْ كان فكرةً في عقل كاتب أو مُخرج إلى لحظة رفعه من دور العرض. مرورًا بعديد المِهَن التي أستطيع تقسيمها -تسهيلاً- إلى عمليَّات ما قبل التصوير، وهي عمليَّة إيجاد الفكرة، وكتابة السيناريو ومراحله، ورؤية المُخرج التي تضاف إليه، والرسم الأوليّ للعمل كُليَّةً وبنائه، وللشخصيَّات وتصوُّرها. وعمليَّات التصوير التي اهتمُّوا فيها بالتجهيزات الإنتاجيَّة، والتحضيرات العمليَّة لأماكن التصوير -إداريًّا وفنيًّا-، والتصوير نفسه والتسجيل الصوتيّ. وعمليَّات ما بعد التصوير التي اهتمُّوا فيها بالموسيقى والمُؤثِّرات البصريَّة، والهندسة الصوتيَّة، والتوزيع.
أمَّا القسم الآخر فكان مُخصَّصًا لبعض المُشكلات التي تواجه العمل السينمائيّ في مصر. والتي ركَّزوا فيها على قضيَّة تراجع الفنّ السينمائيّ المصريّ عامةً مُقارنةً بما كان سابقًا في بدء انتشار الصناعة السينمائيَّة في العالَم، ومُشكلات الإنتاج عمومًا وتأثيرها على مسيرة الجانب الفنيّ سلبيًّا في إخراج العمل السينمائيّ، والمُشكلة التوزيعيَّة المُتمثِّلة في ذوق الجمهور وانتشار دُوْر العرض السينمائيّ وتوزيعها على مناطق الجمهوريَّة المصريَّة وتأثير هذا على رؤية الصانع وعلى قبول مدى أوسع من أعمال، كذلك التنافسيَّة التي تخوضها الأفلام المصريَّة مع الأفلام الأجنبيَّة التي تُعرض في دور العرض نفسها وبسعر التذكرة نفسه. وقد أثار “وحيد حامد” مُشكلة خطيرة هي دور العمل السينمائيّ وصناعته في تشكيل المُشاهد السينمائيّ.
هذا كان تحليلاً مُختصرًا لفيلم “الطاقم”. أمَّا عن قيمة هذه التجربة فيتمثَّل في مُحاولتها التقريب بين الفنّ السينمائيّ وبين مُشاهده العامّ الذي لا يعرف شيئًا عن السينما إلا أنَّه يراها في دور العرض أو التلفاز. وكذلك الكشف عن كمِّيَّة التفاصيل التي تكمن وراء صناعة شريط سينمائيّ واحد، في ظلّ وجهة نظر تلقٍّ لا يكشف له الإعلام إلا عن أسوأ ما في هذا الفنّ وهو بعض العناصر التي تفرض ظهورها على المُجتمع عنوةً ويغتصبون التعبير عن اسم وقيمة رفيعة هي “الفنّ السينمائيّ” وهُم عاطلون عن كلّ ثقافة أو موهبة أو سلوك قويم حتى.
وتتمثَّل الإيجابيَّة الأخرى في هذا العمل في الاهتمام بمُهمَّشِيْ الصناعة السينمائيَّة بعُمَّال الإضاءة والصوت والكاميرا، بل تعدَّاهم الفيلم حتى أعطى فرصة لسائقي عربات التصوير وعمَّال التجهيز والمطعم لعرض عملهم. وهذا وحده أمر يستحقون الإشادة به؛ لأنَّ هؤلاء لا تُسلَّط عليهم الأضواء أبدًا فيبقون في الظلّ، وكذلك لإدراك صُنَّاع الفيلم لأهميَّة هذه الأدوار في الصناعة.
لكنَّ الفيلم لا يخلو من سلبيَّات. قد يبدو أهمُّها في أن الفيلم اعتمد على ما يعبِّر به كلّ صانع عن تخصُّصه وهذا بدوره يعتمد اعتمادًا رئيسًا على مدى فهم كلٍّ لعمله وآفاق عمله وفلسفة عمله -في التخصُّصات التي بها آفاق-، وكذلك على قدرته التعبيريَّة والإقناعيَّة التي تريد منه إفهام المُشاهِد -بل لمس مشاعره- في مشهد أو مشهدَيْن أو عدد من الجُمَل. وبالقطع هُناك من استطاع إدارة الأمر بشكل بارع وأبلغهم هُم: أحمد المُرسي (مدير تصوير)، أحمد حافظ (مونتير)، هشام نزيه (مؤلف موسيقى فيلميَّة). وهُناك مَن تمَّ اقتطاع كثير من جوانب حواره الهامَّة فلمْ يُعطَ كامل الفرصة كالمؤلف البارع “وحيد حامد”. وهناك مَن كان مُقصِّرًا وإنْ حاول كجانب التمثيل على سبيل المثال.
كما أنَّ الفيلم قد قام بتعريف الفنّ السينمائيّ بما يُسمَّى في الفلسفة بمذهب الاختزال: وهو تعريف الشيء بمجموع محتوياته وأجزائه. لكنَّ الفيلم لمْ يهتمَّ أنْ يعرِّف المُشاهد بالسينما فنًّا كُلِّيًّا أيْ بطريقة ماهويَّة -أيْ تهتمّ بالوصول إلى حقيقة الشيء الكُليَّة- لا بمجموع أجزائه. فليست السينما تصوير من كاميرا، وعزف من آلة، وأقوال وحركات يؤدِّيها شخوص، بل هذه هي صناعة السينما لا الفنّ السينمائيّ، ولا السينما فلسفةً وفنًّا. وبالعموم ليس هذا إعمالاً للقسوة في الفيلم، بل دعوة للتعريف بهذه الطريقة في أعمال قادمة.
كما أنَّ الفيلم أغفل دور “الدعاية السينمائيَّة” ولمْ يظهر -ولو بكلمة- رغم أهميَّته. ولا يردُّ على هذا باهتمام الفيلم بالصناعة الداخليَّة فقد تعرَّض للوجهة التسويقيَّة والماليَّة التجاريَّة بشكل رئيس، ولا شكّ أنَّ الدعاية السينمائيَّة من دعائم السينما صناعةً وتجارةً.
ومن حيث الآراء التي قِيلت في الفيلم فيستوقفني رأيانِ للتعقيب؛ الأوَّل هو رأي أحد المُنتجين بأنَّ صدامًا بين سيَّارتَيْن رخيصتَيْ الثمن -سمَّاهما- لا يعني شيئًا، في حين أنَّ صدامًا بين سيَّارتَيْن فارهتَيْن -سمَّاهما أيضًا- هو الذي يهمُّ المُشاهد ويستجلب اهتمامه. وهذا رأي عجيب أشدّ العجب، يغفل مبدأ الدراما ويُعرِّيْه عن العمل السينمائيّ، ويتعامل مع الفيلم السينمائيّ تعامُل الإعلان التجاريّ، بل يغفل أيضًا عناصر عديدة هي الأساس في تحديد قيمة الموقف الذي حكاه منها: عنصر التمثيل، ونوع العمل ففي الكوميديا مثلاً -وفي غيرها- توظَّف قيمة كلّ سيارة بشكل يخدم عنصر بناء الشخصيَّة وعنصر الموقف المُفرَد نفسه. وكذلك يُغفل عوامل ما قبل أيّ اصطدام وما بعده، وهل كان هذا الاصطدام نتيجة أو سببًا، وعناصر أخرى كثيرة. ولا أظنُّ أنَّه كان رأيًا مُوفَّقًا لنُشكِّل به ذائقة عامَّة المُشاهدين ونلقيه على أسماعهم.
الرأي الآخر هو رأي أحد كُتَّاب السيناريو حينما قال إنَّ الثقافة لا تلزم المُمثل! بل تغوَّلَ إلى حدّ بالغ ليدَّعي أنَّ الثقافة لا تلزم المُخرِج! ثمَّ حصر إلزامها على المُؤلف فقط! .. وهذا الرأي أيضًا يدخل في باب العجب أكثر من دخوله في أيّ باب. وإنَّ إشاعة هذه الآراء هي التي أنتجتْ لنا ما نراه الآن في واقعنا السينمائيّ من طرح لمعيار الثقافة لمَن يدَّعي على نفسه لقب “فنَّان” اكتفاءً بمعيار الموهبة. ويطول تفنيد هذا الرأي -بل يحتاج إلى عمل منفصل- لكنْ باختصار أودُّ التنبيه إلى أنَّ المُركَّب الغامض الذي يُسمَّى “المَوهبة” -والذي يظهر عمليًّا فقط- لا ينفصم عن تكوينه وإثرائه أبدًا رافِدُ الثقافة، كذلك لا ينفكُّ تصوُّرُ الفنّ عمومًا، وفنّ السينما خصوصًا عند أيّ مُمثِّل أو مُخرج عن هذا المِعيار الثقافيّ. كما من جهة ثالثة أنَّ المُمثِّل المُثقف قادر على صناعة نطاقات أوسع مدًى من غير المُثقَّف. هذا ليس ردًّا بالقطع -فالردُّ يطول جدًّا- لكنَّه بعض ما أسعفني به الخاطر في تقويم هذا الرأي بالغ البُطلان والفساد.
في هذا الفيلم تظهر أحد ظواهر الثقافة السينمائيَّة العربيَّة وهي ظاهرة “التغريب”. وليس أدلَّ على ظهورها من أنَّهم جعلوا عنوان الفيلم بالإنجليزيَّة! مُغفلين كتابة الاسم العربيّ تحته حتى، وكذلك عرَّفوا كلّ الشخصيَّات التي ظهرت كتابةً على الشاشة بأسماء مكتوبة باللغة الإنجليزيَّة، وأسماء المِهَن مكتوبةً بالإنجليزيَّة أيضًا! ومن جهة أخرى نرى اللغة الإنجليزيَّة فاشيةً على ألسنة كثير مِمَّن ظهروا في الفيلم خاصةً الأجيال الجديدة. كلُّ هذه الظواهر التغريبيَّة تعرض لنا هذا الاتجاه أو المَيْل العامّ للمهنة في السنوات الماضية.
ولا أدري سببًا يجعلنا نكتب أسماءنا وأسماء مِهننا بلغة أجنبيَّة في فيلم غرضه الرئيس تعريف الجمهور العربيّ بالسينما وتخصُّصاتها ومِهنها! .. وللأسف شاعتْ هذه الظاهرة عند جماعة الصناعة الفنيَّة جدًّا وصارتْ علامةً منهم على الامتياز، بل صاروا يكتبون غالب رسائلهم وملحوظاتهم بلغة أجنبيَّة أو لغة هجين تُسمَّى “الفرانكو”، والأعجب أنَّهم صاروا يستهجنون تعريف أحدهم للمهنة أو العمليَّة الفنيَّة الجُزئيَّة باسمها العربيّ المعروف! وهذا مرض من أمراض الحضارة وليس مرضًا جُزئيًّا نستطيع رؤيته في نطاق ضيِّق. ولعلَّ هذا الفيلم يجذب اهتمام أحد علماء الاجتماع ليُحلِّله اجتماعيًّا من عدَّة جوانب يعرفها أهل هذا العلم. ونتمنى أنْ يهتمّ صُنَّاع السينما بإنتاج أفلام كهذه تتلافى هذه السلبيَّات، وتكون خطوةً للاقتراب أكثر من العمل السينمائيّ، والفنّ السينمائيّ والأخير أُولى.