الصاروخ “راشمي” والنضال من أجل ما هو صحيح!
سعيد رمضان علي – مصر
تبدو الرحلة الملهمة للفتاة راشمي مكررة في النصف الأول من فيلم “Rashmi Rocket” 2021 للمخرج الهندي “أكارش خورانا”، فمن قرية صغيرة غير معروفة إلى بطلة آسيوية. وهذه قصة تتكرر كثيرا في الثقافة والفنون والرياضة وكثير من نواحي الحياة الأخرى. في هذا النصف تكثر المشاكل، ويتصاعد العداء ضدها بسبب الغيرة… لكنها تتجاوزه بالتحمل وتحقق فوز مشرف في دورة الألعاب الآسيوية.
يتغير النمط في النصف الثاني من الفيلم عندما نعيش رحلتها المضطربة وصراعها في المحكمة لاستعادة حقوقها المسلوبة وكشفها الممارسات المهينة التي مورست ضدها.
في بداية الفيلم يواجهنا التصرف الدنيء لرجال الشرطة، تجاه راشمي بالصفع والإهانة وسحبها بوحشية من نزل الفتيات إلى قسم الشرطة وسط احتجاج عدد من الفتيات، تظهر راشمي في هذه اللحظات عاجزة ومقهورة. ورغم الرفض الذي يتصاعد بداخلنا من هذه الوحشية، تغمرنا قناعة بأن هناك من ارتكب شيئا ما… فسؤال الشرطة في النزل: “أين الرجل الذي يتظاهر بأنه فتاة؟”
تجيب واحدة بنفي وجود أي رجل، بينما تؤكد أخرى وجوده وتشير للمكان فعلا!
لكن هذه القناعة تتلاشى عندما يأخذنا الفيلم رجوعا إلى تفاصيل ماضية ابتداء من طفولتها وارتباطها القوي بوالدها الذي يشجعها باستمرار. وعلاقتها المضطربة بوالدتها بهانوبين (سوبريا باثاك) التي تخوض معركة لبناء مدرسة لتعليم الفتيات بالقرية.
راشمي من صغرها عداءة سريعة، فأطلقوا عليها لقب “روكيت” وتعنى بالعربية الصاروخ، وفي مرحلة ما توقفت عن السباقات لسنوات، بسبب زلزال قتل والدها في الملعب ولم تستطع إنقاذه، بعد سنوات وبسبب سرعتها في إنقاذ أحد الجنود في لحظة مروره على لغم أرضى تعودا للسباقات بمعرفة وبتشجيع القائد ثاكور الذي سيصبح زوجها وأكبر داعميها.
إن راسمي وتقوم بالدور الممثلة ” تلبسي بانو”، تفوز في عدد من السباقات المحلية وبالذهبية لسباق المائة متر، مما جذب أنظار الجمعية الرياضية الهندية فاستدعوها للتدريب مع الفريق الوطني، وفي دورة الألعاب الآسيوية تفوز بثلاث ميداليات، رافعة العلم الهندي عاليا، وفور عودتها للهند لا يتم استقبالها استقبال الأبطال، بل يتم إخضاعها لسلسلة من الاختبارات أجريت في ظروف مشكوك فيها، تبعها القبض عليها واهانتها بالضرب ووضعها في زنزانة مع عدد من المقبوض عليهم من الرجال، ثم إعلان عدم أهليتها للمشاركة في فئة الإناث وطردها من الفريق القومي وحظرها عن اللعب مجددا.. وفي أقل من يوم فقدت كل إنجازاتها.
وبعد فترة ضياع وعدم تصديق تحاول فيها استيعاب موقفها وألمها، وهي فترة تعبر عنها بقولها: ” تلاشى شيء بداخلي.. ولا حيلة لي في الأمر!”
لكنها تبدأ في قاعة المحكمة صراع من نوع آخر لاستعادة احترامها والحفاظ على هويتها ، صراع ضد النظام ويمثله الهيئة الرياضية، وأثناء قتالها ضد الهيئة ، والشرطة لانتهاكها خصوصيتها وحقوق الإنسان وحظرها من ممارسة الرياضة، تظهر المؤامرة ضدها منظمة بشكل غريب، وينكشف تلاعب قسم الشرطة، وتظهر محاباة الأقارب في مجلس إدارة الاتحاد الرياضي، وعندما تتكلل صراعاتها بالنجاح ، يتخبط مجلس الإدارة، ويخرج ديليب شوبرا من قاعة المحكمة ومجلس الادارة بوصمة عار اجتماعيةـ بسبب قيامه بتدبير المؤامرة ضد راشمي لمساعدة ابنته نيهاريكا ” ميلوني جونسا” التي فقدت مكانتها المتقدمة أمام أسرع رياضية في الهند.
وعندما يصر المحامي على جر الجمعية الرياضية إلى القضاء ويتغير موقف الدفاع ليدخل موضوع حمل راشمي إلى القضية ترفض هي، والحوار التالي يكشف الفروق بين تفكيرها وتفكير محاميها الخائف من خسارة القضية، فعندما يعرف أنها حامل ويتحمس بقوله إنها بداية قصة جديدة ويمكن استغلال حملها في المحكمة تسأله:
” تقصد، يمكنك الآن إثبات أنني امرأة؟ قلت إن هذا لا يتعلق بي فقط.. ماذا عن باقي الفتيات؟ بما أنهن لم يحملن فكل ما حدث لهن كان عن حق”؟
وفي النهاية تقول للمحامي “سنناضل من أجل ماهو صحيح” وهذا يعني أن قضية راشمي تحولت ابتداء من لحظة دخولها المحكمة، من قضية فردية إلى رمز، فالقضية لم تعد تتعلق بها وحدها، بل تمس أيضا الرياضيات الأخريات اللاتي اتهمن بأنهن لسن نساء يما فيه الكفاية ليمارسن رياضة تنافسية مع النساء، وكان المخرج ذكيا ليجعل هذه المعركة ضد النظام والقوانين التعسفية تتألق في وسائل الأعلام وبقاعة المحكمة وبها يختم المحامي مرافعته، ومع ذلك فوجه راشمي المعبر أغلب الوقت عن القوة الممزوجة بالانزعاج، لم تظهر عليه أي علامه من علامات ارتفاع هرمون الذكورة لديها، بالعكس كانت فتاة كاملة الأنوثة ذات جاذبية، بتكوينها الجسماني، ووجهها الأنثوي الناعم والمتناسق كأنه منحوتة فنية من الشرق، ومعرفتنا بارتفاع هرمون التستوستيرون لديها جاء عن طريق الحوار بدون أدلة مادية على الجسم.. ومن أشهر الأدلة ظهور شعر زائد على الوجه.
هناك أيضا تناقض في شخصية أمها” سوبريا بثاك” فهي رائدة نسوية في القرية تدعم الحرية وتعليم الفتيات، ولها سلطة إصدار أمر إضراب النساء عن العمل، وفي نفس الوقت نراها متحفظة ترفض من ابنتها ارتداء البنطلون بل الفستان التقليدي لأنها فتاة، ثم يتغير موقفها بالطلب منها دخول السباقات التي سترتدى فيها شورتا وفانلة رياضية .. ولم يظهر لنا الفيلم أي تفاعل حقيقي يكون سببا للتغير!
وعند العودة للقطات السباق نري التكوين الجسماني للممثلة تابسي بانو ساعدها على الحركة وممارسة الجري.. لكن لم يفلح المونتاج واللقطات من زوايا مختلفة في إقناعنا بسرعتها التي حطمت الأرقام القياسية، فإذا تركنا لقطات ركضها وحدها التي بدت فيها استدارات الرؤوس وأمارات الدهشة على الوجوه لسرعتها مقحمة وغير مقنعة، وركزنا على لقطاتها مع المتنافسات سنري بطئا واضحا، وتلكؤا مقصودا منهن على أرض السباق.. إنهن يضغطن على مكابحهن وخصوصا قبل خط النهاية لإفساح المجال لفوز راشمي!
هناك سنوات كثيرة تفصل بين توقف راشمي عن الركض بعد وفاة والدها، وركضها لإنقاذ الجندي من لغم أرضى بسرعة ثمانين مترا في عشر ثوان.. وهي سرعة هائلة بالنسبة لفتاة توقفت عن الركض سنوات ولم نشاهد لقطة واحدة تقوم فيها بالتدريب خلال فترة توقفها، ثم تفوز في دورة الألعاب الآسيوية بعد التدريبات في سباق مائة متر برقم قياسي 27، 11 و عندما نراجع الفرق قبل التدريب وبعد التدريب الشاق سنجده حوالي ثانية واحدة، ويظهر أن المخرج لم يركز كثيرا على الصراع بين المتنافسات في المضمار والجهد المبذول فيه، بل على النتيجة فقط، وهو ما فعله أيضا في قاعة المحكمة لكن بالقاعة جاء الصراع أفضل بإيقاعات مضطربة، تمنحنا موجة من المشاعر المختلطة بين الأمل بفوز راشمي والقلق من خسارتها، بالطبع الممثل أبهيشيك بانيرجي الذي قام بدور المحامي كان له الفضل الأكبر في منحنا تلك الموجة من المشاعر، وغطي بتمثيله الباهر على ضعف الحجج التي قيلت في المحكمة.
تظهر الأحقاد الموجهة ضد راشمي، كأنها مزروعة في غير أرضها، لننظر أولا إلى ديليب شوبرا” فارون بادولا” عضو مجلس الإدارة في أحد المشاهد مع ابنته” نيهاريكا” بعد تدريب سباق التتابع عندما لا تمرر العصا بسلاسة، يظهر بعدها في مشهد وهو يؤنبها على أفعالها مع راشمي ويؤكد لها ” ضعي في اعتبارك أن هذه الحيل الرخيصة لن تقودك إلى نصر عظيم.. لذا تغلبي على راشمي بسرعتك!”
ومع معرفتنا بأنه كان أول الرافضين لضم راشمي للفريق القومي، كان من المتوقع الوقوف بجوار ابنته لكنه خالف التوقع، وظهر هنا كرجل مستقيم، ثم مرة أخرى يخالف التوقع ونفاجئ بمؤامرته الحقيرة ضد راشمي من أجل ابنته، ولا تظهر حقارته كشيء طبيعي موجود في بعض البشر كجزء متلاحم مع الشخصية، فحركاته كلها من أجل دفع المسار الدرامي بالقوة ويذلك حقق غايته وانصرف!
ابنته نيهاريكا ” ميلوني جونسا” التي شعرت بأن مكانتها تتزعزع، يمكن تسميتها بالغيورة المتوارية.. فهي لا تفعل بنفسها شيئا ضد راشمي، مكتفية بتعبيرات وجهها التي تشي بغيرتها، وعندما كسبت راشمي القضية في المحكمة طلبت ” نيهاريكا” استقالة والدها من الجمعية الرياضية، فيوافق فورا رئيس مجلس الإدارة الذي شارك جزئيا في المؤامرة ضد راشمي، بموافقته على خضوعها للاختبارات دون رضاها، ثم موافقته على تكليف محامى بالترافع ضدها في المحكمة، وجاء طلب نيهاريكا وموافقة رئيس المجلس كتحصيل حاصل، فحكم المحكمة هو رفع الحظر عن راشمي والتحقيق في الإعمال المخالفة لأعضاء مجلس الإدارة وخصوصا “ديليب شوبرا” والتي اثبتها الأدلة داخل المحكمة، وهو ما يعنى إيقافه تلقائيا عن عمله.
على الوجه الآخر تظهر علاقة الأم بهانوبين بابنتها بشكل رائع، لها جاذبيتها وتقلباتها، لكنها علاقات مرت بشكل سريع ولم تتعمق بشكل كاف، ينطبق المرور السريع أيضا على علاقات الصداقة بين راشمي وبعض فتيات الفريق، لكن الرائد غاغان ثاكور “بريانشو بينيولي” الذي بدأ في الفيلم كمدرب ركض، ظهر مكتمل الأركان كرجل قوى متماسك ومسيطر سيطرة تامة على انفعالاته، يكتشف الموهبة في راشمي، ويدعمها وتتعمق العلاقة بينهما خارج المضمار، ويقف بجوارها في مسيرتها الرياضية ، ثم يسندها كزوجة ويدعمها في المحكمة.
القصة تتشابه في بعض النقاط مع قصة العداءة الهندية دوتي تشاند التي كسبت قضيتها أمام المحكمة الدولية للتحكيم الرياضي ” كاس” عام 2015 وكانت المحكمة قررت إلغاء اللوائح التي تحرم السيدات ذات معدل هرمون تستوستيرون أعلى من الطبيعي من منافسة السيدات الأخريات، الفرق أن تشاند رفضت الخضوع لعلاج تخفيض معدل الهرمون التستوستيرون معلنة إنها فخورة بجسدها كما هو وتؤكد أن الجسد الذي ولدت به جعلها ما هي عليه.. ورفعت قضيتها على هذا الأساس.. ومثلها تعتز راشمي بجسدها وشخصيتها وهي أيضا قادرة على العناية بنفسها.. لكنها رفعت قضيتها في محكمة هندية على أساس وجود مؤامرة ضدها وأهانتها بالقبض عليها ووضعها في الزنزانة، ورغم الأيجابيات والأخطاء، فالفيلم يعبر عن شجاعة الطرح، حيث المعركة ضد النظام لأجل استعادة الحقوق لها أهميتها!