“الشقراء”: خبايا ما بين نورما جين ومارلين مونرو!
هدى جعفر
إنّ الخوضَ في سيرةِ مارلين مونرو يشبه كتابةَ نثرٍ عن الطبيعةِ، إنّها الممثلة التي قيل عنها كل شيء، من حلقاتِ شعرِها الملتوية في سحرٍ خاص وحتى علاقتها بآرثر ميلر، ومن طريقةِ نطقها للحروف حتى سبب “نجاتها” من شقراوات هيتشكوك، لذا فإنّ شجاعة المُخرج أندرو دومينيك وهو يقدّم هذا الفيلم الجريء حد التطاول وبالذات في زمن “أنا أيضًا” يجب أن توضع في الحسبان، بنى دومينيك فيلمه بوفاءٍ شبه تام على رواية بنفس الاسم للكاتبة جويس كارول أوتس التي اقتبس المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون إحدى رواياتها في فيلمه “العشيق المزدوج”، ويظهر في الفيلميْن بجلاءٍ ولعُ أوتس بالجهازِ التناسليّ الأنثويّ وتعقيدات الأرحام.
لقد أرسل “الشقراء” الجماهير إلى طرفي الحَلَبة، كعادةِ الأفلامِ التي تخوضُ في قصصِ النجومِ الحميمةِ، وقد لاقى الفيلمُ نصيبَه الوافرَ من الانتقاداتِ اللاذعةِ لأنّه يشوّه الأيقونة، ويلوكُ سيرتها ليبصق مشاهدَ جنسيّة فجة، وهذا يوقع المنتقدون المقرّون باستغلالِ هوليوود للنّجمة الذهبية في دائرةٍ لا تتوقف عن الدوران: هل الفيلم يكرس صورة النجمة/الجنس مستبعدًا مواهبها أم أنّه يعيد سرد ما حدث لها بالفعل بناء على شهادتها هي نفسها!
قصة خيالية
من الضروري أنْ يضعَ المشاهدُ في اعتباره أنّ “الشقراء” قصة مُختلقة إلى حدٍ كبيرٍ تمزجُ الحقيقةَ بالحلم، واللحمَ بالمشاعر، والجنسَ بالكآبة، لقد صرّحت الروائية بأنّ كتابها عمل خيالي تمامًا، والفيلم جاء ليعكس هذه الرؤية القائمةَ أصلًا على فكرةٍ معروفةٍ شديدةِ البساطة: اللذة، غير الواعية ربّما، التي يجدها الجمهور في رؤية امرأة جميلة تتلوّى من الألمِ.
لقد وُجد في “الشقراء” عددٌ من قطع الأثاث والمقتنيات التي تحضرُ عادةً في أفلامِ الشخصياتِ المخنوقةِ بأقدارها: المرايا، والخزائن، والأزهار، ومشهد صوت رنين الهاتف مع بكاءِ الرضيعِ المحبوسِ في أحد الأدراجِ مؤثرٌ ومقبضٌ بالفعلِ
الفيلمُ يستخدمُ، وليس يستغل، ماذا يعني أنْ يكن المرْءُ مارلين مونرو، بالمعنى الشهوانيّ للكلمة، وفي قُرابة الثلاث ساعات، رأينا، بأكبر عدسةٍ ممكنةٍ، مخاوف مارلين، وجسدها، ودموعها، والأنشطة الجنسية بكل أشكالها، من العلاقةِ الثلاثيّة مع الشابيْن الوسيميْن وحتى مشهدها مع الرئيس كينيدي الذي عُرض على شاشةٍ عملاقةٍ وهو يُجري مكالمةً سياسيّة بالغة الأهميّة!
إنّ لمارلين مونرو عدة وجوه تخصّها مهما تناقضت، وقد اختارَ المخرجُ ومن قبله الروائيةُ صورةَ الشقراءِ الغبيةِ المكرّسةِ للعبةٍ غير منتهية للجنسِ والإغواءِ، وهذا بالضبط مالم يرق للجماهيرِ العريضةِ، وهذا بالضبط أيضًا ما كان بإمكانه أن يصبح نقطةَ الفيلمِ القويةَ لولا أنّ المخرج لم يفلحْ في صنعِ فيلمٍ ممتع بأي درجة من الدرجات، حتى الخيال المُصرّح به جاء محدودًا ومُصطنعًا.
البحثُ عن الأبّ
إنّ الفكرة الحادّة التي يقوم عليها الفيلمُ هو بحث مونرو المُضني عن والدِها، إنّه خيط السرد الممسك بالقصة منذ تلك اللحظة التي أشارتْ فيه والدةُ الطفلة نورما جين، اسم مارلين الحقيقي، إلى صورةٍ فوق جدارٍ مشروخ لتقول لها أنّ هذا والدك.
والبحثُ عن صورةِ الأبِ، فكرة أخرى تم تطويعها لتخدمَ اللعبةَ الكبيرةَ التي استفرد بها الفيلم، مارلين مونرو والجنس: أيهما كان قدر الآخر!
وهذا الثقب العميق الذي ابتلع سعادة مارلين جعلها تنتظرُ زيارةَ الأب المجهول بضراوةٍ، وتخلقه من كل رجلٍ ارتبطت به، ورغم كآبة هذه الحقيقة فإنّ المُخرجَ لم يوفّق كثيرًا في أنْ يوقف فيلمَه على رجليه رغم تميّز الفكرة بكل ما فيها من فرصٍ واحتمالات للتفرّد.
مارلين: الصورةُ والصورةُ
هل الجماهير تريد أن ترى قصة مارلين مونرو الحقيقية فعلًا؟
لننحي هذا السؤالَ جانبًا، ونطرح آخرًا: هل انتبه الجمهورُ الغاضبُ والمقرُّ باستغلال مونرو على يد رجالِها بأنّ هذا ما يقوله الفيلمُ حتى إن كانت قصة خيالية؟ ما المشكلة إذن؟
الفيلم من إنتاج نتفلكس، ومن سواها يُمكن أن يتصيّد قصةً كهذه في العام الذي أثبت فيه الدي.إن.إيه، بعد 60 عامًا على رحيل مونرو، أنّ والدها الحقيقي رجلٌ يُدعى تشارلز ستانلي غيفورد نتيجة علاقة مع والدتها في 1925.
“الشقراء” فيلم الكليشيهات المعبأة بالـ”كيلو”، ولا مشكلة هنا، إذ يكاد من المستحيل تلافي ذلك في حضورِ قصةٍ معلّبة عن الجمال والعذاب والشهرة، ومهما كان رأي الجمهور والنقّاد فإنّ “الشقراء” دور العمر بالنسبة للمثلة آنا دي أرماس التي أوحتْ مشاهدُها بأنّها عطشى حدّ الشعور بالرغبةِ في إسعافِها بكأس ماء، الأداء التمثيليّ كان الأعلى من جميع الأبطال حتى أصغر الأدوار، مع إشادة مستحقة لجوليان نيكلسن في دور الأم، وللطفلة ليلي فيشر التي توسلت أمام دار الأيتام فكسرت كل القلوب، الموسيقى الباذخة لوارِن إيليس ونِك كايف، والتصوير اللافت لتشايس إِرفِن.
إنّ فكرة الفيلم جيّدة للغاية، إذ لا ضير في اختزالِ مارلين مونرو في صورةِ الجميلةِ المأزومة والبلهاء، فمن حقّ أي فنّان أن يقرأ الروح والجسد كما يُريد، المشكلة أنّ هذه الفكرة أخفقت في تحريكِ الفيلمِ إلى الأمامِ، كما أخفق الملايين في الانتباه إلى المفارقة في أنّ أكثر ما اشتُهرت به مونرو هو أكثر شيء غير حقيقي فيها: لون شعرِها الذي منحَ الفيلمَ اسمَه.
تقولُ مارلين في جملةٍ منسوبةٍ لها: “كلنا نجوم ولكن يجب علينا أنْ نتعلمَ كيف نسطع”، أما المخرج أندرو دومينيك فقد بذل جهدًا كبيرًا ليلحق بمن سبقوه في تناولِ الممثلةِ التي لم تمتْ سيرتُها حتى الآن، “الشقراء” فيلمٌ نجم، لكنّه لم يعرفْ كيف تلمعُ النجومُ كما يجب!