“الشتا اللى فات”.. أن تثور لكى تستعيد الإحترام !
أحد أسرار سحر الفن، أنه يجعلك تنظر الى الصورة الواحدة من مائة زاوية، يعيد ترتيب التفاصيل التى شاهدتها وتشاهدها، فكأنك تراها لأول مرة، أحسب أن ذلك أيضاً هو سر وسحر فيلم “الشتا اللى فات” الذى كتبه وأخرجه “إبراهيم البطوط”،واشترك الفيلم فى قسم “آفاق” فى الدورة الأخيرة لمهرجان فينسيا.
لا يوجد فى الفيلم المؤثر والممتلئ صدقاً أشياءٌ لا نعرفها، كلنا عرف أو سمع او قرأ عن تعذيب المساجين السياسين فى عهد المخلوع “حسنى مبارك”، وصل الأمر الى قيام أمريكا بتسليمنا مساجين مصريين متهمين بالإرهاب، لتتولى أجهزتنا سيئة السمعة الحصول على اعترافاتهم بعد التعذيب.
المصريون يعرفون أيضا سطوة ضابط أمن الدولة، وسلطاته غير المحدودة، لم يعد الجهاز جزءاً من الشرطة، ولكنه اصبح تابعاً للديكتاتور وعنواناً على الدولة البوليسية التى لم تولد للأمانة فى عهد مبارك، ولكنه استخدم أدواتها بلا رحمة طوال ثلاثين عاماً، وتحت شعار لم يتغير هو حماية استقرار الوطن، حتى استقر بالفعل .. فى القاع.
كلنا يعرف أيضاً الدور السئ الذى لعبته أجهزة الإعلام فى تغييب الوعى قبل وأثناء وبعد الثورة، ومازالت فى الذاكرة صورة كاميرا التليفزيون وهى ثابتة على كوبرى الجلاء بينما الميدان يشتعل غضباً ويكتظ ثورة بآلاف المتظاهرين.
سرد متماسك
يقدم فيلم “الشتا اللى فات” كل ذلك ولكن من خلال سرد متماسك يعتمد أساساً على التفاصيل الصغيرة والإنسانية، وعن طريق ثلاث شخصيات فقط تقاطعت مصائرها فى شتاء 2011، بداية من تظاهرات 25 يناير، ووصولاً الى بيان التنحى فى 11 فبراير من نفس العام، هو إذن ليس فيلما عن أحداث الثورة كما قد تعتقد، ولكن بعض أحداث الثورة تشكل خلفية الحكاية، بمعنى آخر: إذا كانت أفلام الثورة تبدأ من اللقطة العامة للآلاف فى ميدان التحرير ثم تنتهى باللقطات القريبة لشخصيات ما، فإن فيلمنا يبدأ من اللقطة القريبة جداً ثم ينتهى الى اللقطة العامة احتفالاً بسقوط الديكتاتور.
لا ينتقى الفيلم من أحداث الثمانية عشر يوما سوى ما يرتبط بشخصياته الثلاث، أما الفكرة التى تدور فى فلكها الحكاية فهى بسيطة جداً وواضحة: هذه الثورة اندلعت بسبب انتهاك كرامة وآدمية المصريين، وهذا الإنتهاك لم يكن وليد ذلك الشتاء من العام الماضى، ولكنه نتيجة تراكم انتهاكات بعدد كل أيام الشتوية فى السنوات الماضية.
الإنتهاك هنا يتم بإذلال الإنسان، وتحويله الى فأر مذعور يعيش وسط أربع جدران، وإذا تمرد يتم انتهاك حريته وجسده وكرامته، تستطيع أن تقول أن “الشتا اللى فات” يركز على شعارى الثورة “الحرية والكرامة”، ولا أثر فيه لمحور “العيش” الذى يشكل العمود الفقرى لفيلم “بعد الموقعة”، لا أعتبر ذلك قصورا فنيا على الإطلاق،لأن الفن اختيار، وفكرة الكرامة الإنسانية هى الهاجس الذى شغل إبراهيم البطوط من “عين شمس” الى “حاوى” وصولاً الى “الشتا اللى فات”.
شخصيات الفيلم الثلاث لا تنتمى الى الطبقات المسحوقة التى راهن البعض على أنها هى التى ستقود ثورة الجياع، كانت المفاجأة فى أن الثورة كانت من اجل الكرامة وليس رغيف الخبز، أشعلها شباب الفيسبوك المتعلم، وفجرها حادث مقتل “خالد سعيد” على أيدى رجال الشرطة بالأسكندرية، واختار النشطاء لتظاهراتهم يوم عيد الشرطة المصرية بالذات فى 25 يناير2011.
الفيلم عن ثلاثة نماذج من نفس الطبقة التى لاتعانى البطالة أو الفقر أو قلة التعليم، ولكن وعيها بفكرة الإنتهاك للكرامة هو الذى سيشعل الصراع بينها وصولاً الى لحظة الإنفجار: الناشط السياسى عمرو (عمرو واكد) الذى تعرض للإعتقال والتعذيب عام 2009، إثر القبض عليه فى مظاهرات لإدانة العدوان الإسرائيلى على غزة.
هو أيضاً انتهاك إنسانى آخر يتم على مستوى إقليمى، يختفى عمرو عن أمه التى تبحث عنه بلا جدوى، يعذبونه ويعلقونه ويتركونه مغمى العينين فى مكان أقرب الى وكر اللصوص، يصرخ طالباً أن يسمعه أحد، يعرض أن يوقع على أى اعتراف، يتركونه بعد التأديب، يخرج فلا يجد أمه. ماتت.
يوم الخامس والعشرين من يناير، ينهمك عمرو فى تصوير المظاهرات، يسجل شهادة شاب ثائر انتهكت آدميته عام 1996، كان مصوّراً فى البوسنة، اعتقله أمن الدولة لمدة أسبوعين، يصف للكاميرا طريقة الحصول على الإعترافات باستخدم جلسات الكهرباء، ترتعش شفتاه، وتمتلئ عيناه بالدموع.
الشخصية الثانية هى فرح مذيعة التليفزيون (فرح يوسف)، يوم الخامس والعشرين من يناير تحاول أن تتساءل عن حقيقة مايحدث، صاحب القناة الدكتور “طارق” يطلب تلطيف الأجواء، زميلها المذيع “تامر” يعرض الموضوع باعتباره اعتداء على الشرطة أسفر عن إصابة 4 ضباط و36 عسكريا، ويعرض بطريقة مؤثرة وفاة أحد العساكر متأثراً بجراحة، فى يوم 28 يناير ستصبح “فرح” أكثر ثورة مع حضور جنرالات الشرطة وحديثهم عن “شوية العيال اللى فى التحرير”، تغادر الأستديو الى الشارع، عندما يطردها الثوار وهم يعالجون جرحاهم.
تقرر تسجيل شريط تعترف فيه بأخطائها: (أنا كنت جبانة، عاملة نفسى مش واخدة بالى ، كدبت وضللت عشان طموح شخصى غبى، أنا أخيراً قلت لا، ما فيش مكان للخوف، دى آخر فرصة، عشنا عمرنا اللى فات واحنا مكسورين، قررنا عشان نحمى أولادنا إننا ما نخلفهمش)، تطلب من الناس عدم تصديق الأخبار الرسمية الموجهة، والنزول مع الثوار الى الشارع، سيكون على حبيبها “عمرو” أن يبث هذا الشريط على الشبكة معرضا نفسه للإعتقال، لأنه من السهل التعرف على الأجهزة المحمولة التى تعمل عن طريق الأقمار الصناعية، بعد أن قُطعت الخدمة عن الأجهزة العادية.
الشخصية الثالثة هى عادل ضابط أمن الدولة (صلاح الحنفى) الذى قام بتعذيب وانتهاك آدمية عمرو عام 2009، ثم قبض عليه من جديد أثناء الثورة ، بعد تفتيش منزله وتحطيمه بحثاً عن تليفونه المحمول، أطلقوا سراحه وتركوه معصوب العينين فى الصحراء، عمرو يترجم بوضوح منطق الدولة البوليسية المباركية، يزعم أنه يحب بلده ويؤدى واجبه، يرى أن العدو هو الجهل وليس اسرائيل، يعتقد أن “عمرو” وزملاءه موجهين ومخدوعين، يطلب منه أن يسمع الكلام، يلمح لعمرو فى اعتقاله الأول أن “فرح” حصلت على الترقية بدعم أمنى، يلمح الفيلم من ناحيته الى أن “عادل” يستفيد ويتربّح من عمله، يسكن مع أسرته فى شقة فاخرة، يمتلك شاليهاً فى العين السخنة، لديه خادمة فلبينية لرعاية ابنه وابنته.
ينتقل السرد بين زمنين هما 2009 وشتاء 2001، رابطا انتهاك حرية وكرامة المصور العائد من البوسنة بانتهاك عمرو واعتقاله مرتين، كما ننتقل بالأساس بين ثلاثة أماكن هى: شقة “عمرو”، واستديو “فرح”، وأماكن الاعتقال والتعذيب قبل وأثناء الثورة، كلها اماكن مغلقة وبعضها محطم تماما مثل أحد أماكن تجميع المعتقلين واستجوابهم.
هناك حالة من الحصار تتسلل إليك لا يقطعها إلا مشاهد خارجية لشوارع جانبية تسيطر عليها اللجان الشعبية، ولا نشاهد الميدان أبداً إلا فى مشاهد النهاية، و”مبارك” فى خطاباته الثلاثة حاضر بالصوت فقط مع صوره الثابتة فى مكتب ضابط أمن الدولة، ولكن حضور المخلوع الأهم سيكون عبر كلام الضابط الذى يكاد يترجم رأى مبارك بأن كل الحكاية مجرد “مواجهات مؤسفة تحركها قوى سياسية مغرضة للقفز على الشرعيه الدستورية”!
سمات واقعية
اكتسبت ملامح “عمرو” و”فرح” و”عادل” سمات واقعية وإنسانية من خلال بعض التفاصيل الصغيرة: قبلة بين عمرو وفرح، بكاء “عمرو” عند دخوله الشقة الخاوية بعد وفاة أمه، علاقة “عمرو” بجارته العجوز” ملك” التى بدت كما لو أنها أما بديلة، علاقة الضابط بزوجته وطفليه على مائدة الطعام، ربما كانت علاقة “فرح” و”عمرو” فى حاجة الى مشاهد إضافية من الماضى مثل علاقة “عمر” بالضابط، ولكن الشخصيات عموماً، بأداء الممثلين الثلاثة المنضبط، كانت حية ونابضة، بل إنك تستطيع أن تربط بوضوح بين هيئة المذيع تامر وبين مذيع لزج معروف من مذيعى التوك شو، كما أن ثورة “فرح” على عملها أثناء الثورة تستلهم وقائع مماثلة بطلتها مذيعات معروفات مثل “شهيرة أمين” و”سها النقاش”.
“عمرو” الذى بدا مثل الفأر الخائف فى أول المشاهد، والذى يقول أنه لا يعرف ما إذا كان ما حدث سيغير شيئاً أم لا، يوافق أخيراً على بث شريط “فرح”، وعندما يطلقون سراحه يشارك فى اللجان الشعبية حتى بيان التنحى، ينزل الى التحرير للإحتفال، نراه من جديد مع “فرح” فوق كوبرى قصر النيل، فى العين السخنة يمرح “عادل” مع أطفاله على الشاطئ وكأنه يأخذ استراحة للعودة بعد الثورة، وعلى الشاشة السوداء تكتب أرقام الشهداء والجرحى والمعتقلين والمعتقلات اللاتى تعرضن لكشوف العذرية، و”مازال العدّ مستمراً”.
أعاد الفيلم ترتيب الصور والتفاصيل، أمسك فكرته ولم يفلتها أبداً، ورغم وجود مشاهد للتعذيب والبكاء إلا انها قدمت بصورة لا تبتز المشاعر، تتأثر وتتفاعل ولكنك أيضاً تفكر طوال الوقت، ومن خلال صورة “فيكتور كريدى” تكاد تشعر بالإختناق بسبب درجات الرمادى التى تطاردنا فى كل الأماكن المغلقة، مع مساحات كبيرة فى التكوين للون الأسود، بالإضافة الى الإستخدام الذكى لفتح وإغلاق النوافذ فى مشاهد كثيرة وكأنه يترجم بصرياً الجدل بين الثائرين والسلطة، حتى عند الخروج الى الشارع تصنع تكوينات “البطوط”، وحركة الكاميرا البطيئة الى الأمام ما يجسد فكرة مخاض الخروج من الظلام الى النور، كما ظهرت “فرح” و”عمرو” فى لقطات “سلويت” أكثر من مرة تعبيراً عن أزمتهما الداخلية والخراجية.
نجح “البطوط” أيضاً فى قيادة مملثيه: “عمرو واكد” الذى عبّر عن شخصية منتهكة وخائفة تهتز وترتعش، تتلفت حولها قبل أن ترفع المنديل عن عينيها، أحسست أنه ينقل عن خبرة انفعالية شاهدها أو اقترب منها، “فرح يوسف” كانت ايضا جيدة، دمعة سقطت من عينيها وهى تدين نفسها وجيلها كانت شديدة الصدق والتأثير، أما “صلاح الحنفى” فهو مفاجاة حقيقية، وجه جديد يؤدى برسوخ المحترفين، صنع باجتهاده، وبتوجيه المخرج، مزيجا ًمدهشاً بين صرامة وقسوة شخصية رجل أمن الدولة التى لعبها “عباس أبو الحسن” فى “عمارة يعقوبيان”، وتفصيلات الحياة الإنسانية فى شخصية ضابط أمن الدولة التى لعبها “أحمد زكى” فى فيلم “زوجة رجل مهم” ، هذا ممثل موهوب سيكون له مستقبل كبير لأنه يفهم ماذا يفعل.
بساطة ونضج
يبدو “البطوط “هنا أكثر بساطة ونضجاً، هو عموما لا يميل الى المبالغة، ولا ينزلق أبدا الى الميلودراما أو الفواجع، اختيار أماكن التصويركان أيضاً مميزاً، هناك إقتصاد واضح فى استخدام الموسيقى كما تم استخدام لحظات الصمت بصورة مؤثرة، حتى عنوان الفيلم وهو “الشتا اللى فات” بعيد عن الصخب، وأقرب ما يكون الى عناوين الأفلام الرومانسية، رغم أن ترجمة عنوان الفليم بالإنجليزية، وهو “شتاء السخط”، أكثر وضوحا ومباشرة.
مهارة هذا المخرج تجدها بوضوح فى أهم مشاهد الفيلم، وهو مشهد استجواب المعتقلين: مجموعة موائد متجاورة، على كل واحدة معتقل ومحقق، والكاميرا فى حركة متابعة طويلة تنتقل من معتقل الى آخر حتى تتوقف عند “عمرو”، ثم يدخل “عادل” الى الكادر للتحقيق معه.
يسألون “عادل”: لماذا قمت بتحميل شريط المذيعة؟ يقول: وليه لأ؟ انا حر، ويسألون المعتقل “وفيق وليم”: لماذا شاركت فى المظاهرات؟ يرد ببساطة: “عشان مراتى حامل، وانا عايز ابنى اللى جاى يحترمنى، لإنى ما كنتش باحترم أهلى”.
قبل عناوين النهاية نعرف أن “وفيق وليم” استشهد يوم التاسع من أكتوبر فى مذبحة ماسبيرو، بعد أن أنجب ابنته بشهر واحد، لا فرق بينه وبين الشاب الذى وضع العلم على تمثال عبد المنعم رياض، ومات برصاصة اثناء الثورة.
هذا هو ببساطة فيلم “الشتا اللى فات”: أن تثور لكى تعيش باحترام وكرامة، وألا تتردد فى أن تموت من أجل الإحترام والكرامة.