السينما والروح: نرمين يسر تكشف أسرار علاقتها بالسينما

كلاكيت.. أول مرة

اعتقد انني اشاهد السينما قبل ان اولد، وكان امي أوصلت عيونها بكابلات خاصة لنقل الأحداث الخارجية الى الداخل على الهواء مباشرة.

شرائط أبي

اغلب شرائط الفيديو كانت تحمل أسلحة فى جعبتها! كان والدي مهوسا بأفلام الأكشن الدموية لستيفين سيجال وسلفستر ستالون وفان دام وغيرهم من ابناء المخابرات والعنف الهوليودي وذلك مع وجود طفلة لا تطيق الصوت العالي، فما بالك بشحنات من الصراخ المتتالية التى تصدرعن شرائط أبي؟ وحمدا لله اذ كنا نمتلك جهاز تلفزيون بديلا لمشاهدة القنوات العادية بعيدا عن حالة التوتر الأمريكية التى يتمسك بها أبي.

يوما ما من الماضي البعيد كنت فى السابعة من عمري، ولم أكن قد تعرفت على السينما بعد، كل معرفتي عما حولي كان من خلال الكتب التى أحصل عليها من دار المعارف، جاء والدي الى مدرستي الابتدائية واصطحبني فى سيارته الى مكان ما ساشعر فيه بالسعادة، وكان مبني قصيرا نوعا ما، وكان هناك زحام شديد بالقرب من بوابته التى يعلوها ملصق دعائي كبير، رسمت عليه شخصيات أسطورية كنت أقرأ عنها فى الكتب المصورة.

شحذت تفكيري قليلا لاستهجاء الحروف المكتوبة على البوسترJason and Argonauts  (جيسون وآلهة الحرب)، لا اتذكر بالطبع من لعب دور جيسون، كان الفيلم من انتاج  1963 الا أني لا أعرف سبب تأخر عرضه حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي، ربما كان الأمر له علاقة بالفترة الاشتراكية التى كانت تحياها مصر ورفضها للعروض الامريكية! لا يهم ولكن كل ما اهتميت به وقتها وترك أثره على نفسي حتى الآن ان الفيلم كسر حافة خوفي المرضي من الآلهة، لأنى رأيت آلهة تتحدث مع بعض البشر وآلهة أخرى تستجيب وتأتي مسرعة لنجدة ابن آدم، وهكذا تعرفت على ميولي  ورغبتي فى كسر حاجز الخوف.

بمناسبة الخوف اعترف انني شاهدت فيلم “ارض الخوف” للعبقري داود عبد السيد ثلاثا وخمسين مرة بلا ملل!

لقطة من فيلم “أرض الخوف”

“أرض الخوف” هو الفيلم الذى نبه حواسي لما يمكن أن يكون وراء الأفلام من دلالات رمزية يقدمها صناع السينما من أمثال عبد السيد عن عمد و إصرار- ربما لإثارة حفيظتنا أو تنشيط افكارنا “أرض الخوف” اسم المهمة التي كلف بها يحيي المنقبادي/ أحمد زكي ضابط المباحث الذي يلتقي مع مساعد وزير الداخلية والذي يكلفه بمهمة الاندساس بين تجار المخدرات والفاسدين والخارجين علي القانون على اعتبار انه جزء من هذا العالم فيتم فصله من عمله تحت دعوى انه مرتشي ثم حبسه حيث يلتقي مع تجار المخدرات الذين يلقبونه “بيحيي أبو دبورة”، نسبة لعمله السابق وهنا نلاحظ زرع يحيي المنقبادي وسط تجار المخدرات كجاسوس، اذن فهي مهمة رسمية لا يعلم بها سوي مساعد وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة. تلك المهمة تتسم بالسرية التامة، آدم كان الإسم الحركي له اى آدم أو يحيى يتقابل مع موسى/ عبد الرحمن أبو زهرة الذى يقول له الجملة الأشهر فى سيناريو الفيلم (انا معرفش حاجة ومش عايز أعرف، أنا مجرد رسول) ورنت الجملة فى عقلي.. إن موسى تقابل مع يحيى/ ادم فى مسجد السلطان حسن الذى يقابله فى التاريخ الديني ذلك الوادي المقدس ليتعرف على الحقيقة فازددت جرأة فى ابداء وجهات نظري فى القصص الدينية واسقاطها على المواقف الحياتية التى نمر بها يوميا.

من الكيت كات لهتشكوك

من أوائل الأفلام التى أثرت فى تكويني وتابعت مشاهدتها بشغف كبير كان فيلم “الكيت كات”، رغم عدم ادراكي التام لما بين السطور فى سيناريو الفيلم- نظرا لصغر سنى وقتها- ولكنى كمن وضعت الفيلم فى قائمة (المفضل) وذلك لمشاهدته فيما بعد، ولا أنكر ان أكثر ما استهواني وقتها هو كيف تم تصوير الفيلم أو بمعنى أدق كم كاميرا يحتاجها المخرج ليبدو المشهد طبيعيا وليس من خلال شاشة سينما؟ قرأت على التترات اسم المخرج وبما أن المخرج دائما على حق وأن الاجابة النموذجية عن أى سؤال للنهايات غير المرغوب فيها تكون عادة “المخرج عايز كده” فكان داوود عبد السيد، أعجبني الاسم، تخيلته رجلا طويل القامة قاسي الملامح يخاف منه الجميع، كنت استدعي خيالي فى كيفية معاملة عبد السيد لمحمود عبد العزيز مثلا أو عايدة رياض، كانت بدايتى مع الفلسفات المحرمة بين جدران منزلنا الكبير الذى كنت استغل مساحته فى التغلب على خوفي من رصاصات ستيفن سيجال.

فى مراحل تالية كانت افلام هيتشكوك البطل الدائم على مائدة خيالي الذى بدأ يتشكل على الدراما النفسية منذ أول مشاهدة لافلامه وكان فيلم “الطيور” ذلك الفيلم الذى ابدع هتشكوك فى المعالجة التخيلية الرائعة لقصة قصيرة كتبها دافني دو مورييه عام 1952، والتي تروي قصه مدينة ساحلية بأحد ضواحي سان فرانسيسكو، تجد نفسها مهددة من أسراب من الطيور، وتدخل في مطاردة مثيرة مع الطيور التي تهاجم البشر.

وجدتني حائرة بين التعاطف مع الطيور التى لا ترعبني بقدر ماتدفعني للتفكير فى انقاذها من هيستريا تلبستها جعلت البشر يدافعون عن أنفسهم ضدها، وعندما شاهدت الفيلم مرة أخرى بعد أن أصبحت جامعية ناضجة لم يتغير شعوري بالتعاطف!

ومن أفلام هتشكوك أيضا اتذكر ان فيلم”ريبيكا” Rebecca بمشهده الافتتاحي لمونولوج مسز دي وينتر وهي تَحكي عن القصرِ الغامض وأغرب أيام حياتها قد زرع في نفسي أهمية الأماكن وسطوتها على ذكريات الانسان، عرفت لماذا اتعلق بمكان دون آخر، أو أشعر بالراحة فى أحد البيوت وأنفر من بيت آخر. ويرجع ذلك الى فكرة أرددها فى مخيلتي تعليقا على خوفي من منزل صديقة الطفولة إذ ربما –على سبيل المثال- كانت روح ريبيكا زوجة ماكسيم دي وينتر تسكن هنا قبل عائلة صديقتي.. مثلا!

بعيدا عن أفلام الأكشن التى يبثها أبى من خلال ماكينة عرض وهمية يحتفظ بها فى جعبته المتنقلة تظهر عندما ما يفتح خزانة شرائط الفيديو، كنت لا اميل لابطال الكوميديا مثل اسماعيل يس الذى لم يضحكني يوما بل كنت أميل اكثر لعبد السلام النايلسي وبالطبع لم يعترض أي من الوالدين على ذوق وميول طفلة تبحث عمن يسليها ويرسم الضحكات على وجهها بغض النظر عن المستوى الفني والاداء التمثيلي وحبكة الدور وتقمصه، كل هذه المصطلحات لا تعني طفلة السابعة مثلما تعنيني الان عندما اكتب عن السينما.

هذه الطفلة التى كانت ميولها للنابلسي وليس لاسماعيل يس، وجدت ضالتها ذات يوم في عمر الشريف مفضلة إياه عن الجميع منذ الطفولة، وحتى  كتابة هذه السطور.

عمر الشريف في لقطة من فيلم “دكتور زيفاغو”

عمر

دعوني أبدأ من وفاة “عمر”، وقت أن نشرت بصفحتي الشخصية على الفيسبوك صورة التقطتها لأحد جوانب حائط غرفتي الذى يحمل عشرات الصور الفوتوغرافية لعمر الشريف باللونين الأبيض والأسود- الوان البهجة السينمائية بالنسبة لي- عمر/ الحلم.

وقتها كنت أنعيه بصورة له معلقة على الحائط بكل سنوات غرامي التى قضيتها فى عشق كل شخصية جسدها أو تجسدت فيه، منحازة اليه طوال الوقت، فى كل حالاته كدفاع مناضلة ثورية عن زعيم التنظيم الذي تنتمي اليه‍!

كنت ومازلت، أرفض التطاول عليه ونعته بالصفات الذكورية التى يطلقها متأخري العقول على رجل عاش حياة صاخبة يستحقها بعيدا عن الحاقدين. لا أتقبل له حبيبة غير فاتن حمامة، ولا اتخيل زوجة شقراء تشاركه حياته، حسين فى “اشاعة حب” سواء بشاربه الساذج أو بعد أن قام بتقبيل سميحة/ سعاد حسنى واعترف بحبه لها بدون شارب. (رجب) برجولته الطاغية التى من شأنها ان تطيح بغريمه المترف فى”صراع فى الميناء”، (خالد) الذى أتاكد انه اكثر جاذبية من الضابط (فرونسكي)عشيق انا كارنيننا/ فاتن حمامة فى”نهر الحب”، (دكتور زيفاجو) الذى تصارعت على حبه الشقراوتان اللتان أقسم أن فاتن أجمل منهما.

السينما والروح الثامنة  

كان الرأي الأكثر شيوعا بين القراء ونقاد الادب بخصوص روايتي الأولى التى تحمل عنوان “الروح الثامنة”، ان الرواية اقرب الى سيناريو فيلم سينمائي، وإن حدث وتحولت الرواية الى فيلم فلن يحتاج المخرج الى اكثر من هذا النص الروائي دون الاستعانة بكاتب سيناريو أو معالجة درامية نظرا لأن الرواية لم تُكتب ولكن تم تصويرها بواسطة القلم.

بالطبع سعدت بالإطراء، وامتلأت بالامتنان لكل فيلم شاهدته وتعلمت كيفية شرح الصورة قبل الإحساس ونقل الإحساس للقارئ كأنه يشاهده، تذكرت يوم تسلمي نسخة الكاتب واهديتها لأمي بجملة القيتها متعمدة على مسامعها:

(مش كان زماني مُخرجة دلوقتي لو ماكنتيش اعترضتي واحبطيني)!

Visited 25 times, 1 visit(s) today