السينما وأشباحها: كراسات السينما تحاور جاك دريدا
ترجمة: يعقوب رائد
عندما يقر فيلسوف ما بخيال لا واعي يربطه بالسينماـ هل هي مجرد فرصة يتخذها الفكر لمواجهة الأشباح التي تملأ المسارح المظلمة ؟
كراسات السينما
لا يبدو من الطبيعي أن مجلة ككراسات السينما يمكن أن تحاور شخصا كجاك دريداـ لأنه ولزمن طويل أظهر اهتماما كبيرًا في فينومنولوجيا الكتابةـ في السياق في الخطاب، والصوت لكن وفي فترة معينة أصدر مجموعة من المؤلفات، «مذكرات العمى » حول معارض اللوفرـ «أصداء التلفاز » حوارات مع برنارد ستيجلر حول الكتلة الضخمة للميديا والتي عكست اهتمامًا جديدًا بالصورةـ
وهناك أيضا فيلم «دريدا في مكان آخر» لصفاء فتحي، بالإضافة إلى كتاب « تدوير الكلمات» الذي كتب بالشراكة مع مخرج الفيلم والذي سمح له أخيرًا أن يعيش تجربة السينما وهذا بالضبط ما احتجناه لكي نذهب ونحاور هذا الفيلسوف الذي اعترف أيضًا بأنه ليس سينفيليًا، رغم أنه فكر بجدية حول أجهزة السينماتوغراف، الإسقاطات، حول الأشباح التي تشكل مشاعر المشاهد بطريقة لا يمكن مواجتها أو التملص منهاـ إن الحوار مع دريدا والذي يسير وفق منطق معين في تتبع المحاورـ يقع في منطقة بين الاختصاص وبين كونه فيلسوفًا متحدثًا من أعالي المعرفة الراسخةـ لكن بطريقة بسيطة لرجل يفكر ويعود دائمًا إلى أنطولوجيا السينما ليسقط عليها ضوءًا جديدًا .
كراسات السينما
كراسات السينما: كيف دخلت السينما إلى حياتك؟
جاك دريدا: مبكرًا جدًاـ عندما كنت في العاشرة أو الثانية عشرة من عمري وكنا في الجزائر آنذاكـ وبعد نهاية الحرب مباشرةـ كانت طريقة حيوية للخروجـ كنت أسكن في ضاحية المدينة في الأبيار (ضاحية مدينة بو زريعة) فالذهاب إلى السينما كان نوعا من التحرر.
الابتعاد عن العائلة
أتذكر جيدًا كل أسماء دور العرض في الجزائر لازلت أستطيع رؤيتهم the vox ,the cameo ,the noon midnight ,the olympiaـ لا شك أن ذهابي للسينما كان غير انتقائي بالمرة ، كنت أشاهد كل شيء، الأفلام الفرنسية المنتجة خلال الاحتلال مثلًاـ وبالأخص الأفلام الأمريكية المنتجة بعد عام 1942، بالطبع لا أستطيع كتابة قائمة للأفلام التي شاهدتها لكن يمكنني على الأقل تذكر نوعية تلك الأفلام «tom sawyer» مثلً مشهد معين عاد إلي فجأة قبل مد، كهف ما حيث يحتجز توم مع فتاة صغيرة، مشاعر جنسية تدور في المكان.
لقد رأيت أن ولدًا في الثانية عشرة من عمره يمكنه أن يرعى فتاة صغيرةـ لقد كنت في نفس عمره تقريبا.
بالتأكيد فإن الجزء الأكبر من عاطفة الشخص وأحاسيسه يتم تلقينها من خلال الأفلام، تعرف ما هي القبلة من خلال الأفلام قبل أن تراها في الحياة الواقعية، يمكنني الآن تذكر شعور الإثارة الإيروتيكية للمراهقة، بينما لا يمكنني الإشارة إلى شيء آخر .
لدي شغف تجاه السينما. إنه نوع من الخيال المنوم أو اللاواعي حيث يمكنني البقاء لساعات وساعات في دار العرض حتى ولو لمشاهدة فيلمميديوكر عادي ـ لكنني لا أملك أي نوع من الذاكرة السينمائية, إنها ثقافة لا تترك أثرًا فيـ خيال مسجّلـ حيث لم أنسَ شيئاـ لكنني أحتفظ بقائمة للأفلام التي لا أتذكر منها ولو صورة واحدةـ فأنا لست سينيفيليًا بالمعنى الكلاسيكي للمفردة، بدلًا من ذلك انا حالة مرضية فخلال الفترة التي كنت أذهب فيها كثيرًا إلى السينماـ خاصة عندما أذهب للولايات المتحدة حيث أقضي الكثير من الوقت هناكـ نوع من الكبت يعمل على محو الصور من ذاكرتي تلك التي بالكاد تجذبني .
في عام 1949 وصلت إلى باريس لدراسة الإعدادية، والإيقاع بقي على حاله أكثر من عرض في اليوم وفي دور مختلفة أذكر منها«the latin quarter » الحي اللاتيني وبالأخص the champo
كراسات السينما: ما هو التأثير الأول الذي تركته السينما عليك في فترة الطفولةـ فقد ذكرت البعد الإيروتيكي لكن ما هو حجر الأساس في علاقتك بالصورة، هل هي علاقتك بالعلامات، الزمن، الجسد، الفضاء.. الخ؟
دريدا: إن لم تكن أسماء الأفلام أو القصص أو الممثلين الذين يتركون في داخلي الانفعالات العاطفية فهو بالتأكيد نوع من العاطفة التي تتجذر داخل التأويلات المختلفةـ الميكانيكية الدقيقة للإسقاطات. إنها عاطفة مختلفة تماما عن تلك المتولدة عن القراءةـ والتي تخلق ذاكرة أكثر حضورًا ونشاطًا في داخلي .
لنقل إنني كنت كالمتلصص في ظلام الصالةـ أعيش حالة لا تقارن من الحريةـ قادر على انتهاك كل أنواع المحظورات، أنت هناك قبل الشاشةـ متلصص غير مرئي، لك الحرية المطلقة في التأويل دون أدنى عقاب أو أي نوع من الجهد، ربما هذا ما جذبني إلى السينما كطريقة للتحرر من المحظور وبالأخص لنسيان العملـ لهذا السبب أيضًا وبلا شك أرى أن تلك الانفعالات العاطفية لا يمكن أن تكون نوعًا من المعرفة أو ذاكرة حقيقيةـ لأن هذه الانفعالات تنتمي إلى خانة مختلفة تمامًا .
أريد أن أسلط الضوء أكثر أيضًا على الجانب السيكولوجي والتاريخي .لطفل قليل الحركة من الجزائر، كانت السينما هبة خارقة للسفرـ يمكنك السفر من خلالها كالمجانين، لنترك جانبًا الأفلام الهوليودية التي تبدو غريبة ومتشابهة في الوقت ذاته، فالأفلام الفرنسية كانت تتحدث بصوت خاص منشئة مشهدًا يمكن تمييزه بسهولة والتي عرضت الخارج والداخل بطريقة يمكنها أن تأثر بشاب مثلي يتجاوز البحر الأبيض المتوسط – لذلك فالسينما كانت نوعًا من الإحساس اللحظي بالتجربة في ذلك الوقتـ بينما لم تفعل الكتب ذلك معيـ الذهاب إلى السينما كانت رحلة مخططًا لها لحظيًا .
بالنسبة للأفلام الأمريكية لشاب ولد في الثلاثينات كانت تعكس لي نوعًا معينًا من الحس، بعثة حرة ومتعطشة لغزو الفضاء والزمن، وصلت الأفلام الأمريكية إلى الجزائر في سنة 1942 صحبة ما جعلهم أقوياء لاحقًا ( بما في ذلك الحلم ) كالموسيقى والرقص والسجائرـ
فقد كانت السينما تعني قبل كل شيء أمريكا. بعد ذلك صاحبتني السينما طوال فترة دراستي الأمر الذي كان صعبًاـ مقلقًا وموترا للأعصاب، أحيانًا يبدو تأثيره علي كالمخدر .ترفيهـ نوع من الامتياز، نوع من الهرب إلى البداءةـ والعودة الى البرية .
كراسات السينما: أليست السينما تسمح على النقيض من الفنون الأخرى بنوع من ” العلاقة اللاثقافية ” بين المشاهد والصورة؟
دريدا: بلا شك. ربما يقال إنها الفن الذي يقاوم ليبقى شعبياـ حتى وإن كان ذلك غير منصف بالنسبة للمخرجين والمنتجين والنقاد الذين يمارسونه بخبرة وانتقائية. لكنها بالتأكيد الفن الشعبي الأعظم والوحيد فبالنسبة لي كمشاهد نهم، أظل أو ربما أغرس نفسي في الجانب الشعبي من السينماـ فالسينما فن ضخم مبني على الترفيه وعلى المرء أن يسمح لها بالبقاء هكذا.. من الأفلام العديدة التي شاهدتها وأنا طالب أتذكر منها فقط فيلم L’Espoir
لذلك وكما ترى فعلاقتي بالأفلام القديمة ليست كما يجب ان تكون . منذ ذلك الحين بدأت حياتي تأخذ منحى آخر يبعدني عن السينما فتصبح علاقتنا مرتبطة بأوقات محددة بالأخص تلك التي يكون فيها الذهاب إلى السينما شعورًا حقيقيًا بالهرب .
عندما أكون في نيويورك أو كاليفورنيا أشاهد الكثير من الأفلام الأمريكية، أشاهد كل شيء الأفلام العادية وتلك الأفلام التي تحدث الضجيج لأنني ببساطة شخص يسهل رضاهـ فهذا الوقت هو الوقت الذي يمنحني الفرصة لأكون حرًا وكذلك خوض التجربة الشعبية من خلال السينما هذا ما لا يمكن أن أستغني عنه أبدًا.
كراسات السينما: قد يتخيل المرء أنك عندما تكون في إحدى صالات السينما في نيويورك أو كاليفورنياـ في فضاء معزول عن حياتك الأكاديمية والمعرفيةـ فأن الشاشة تستمر بتوليد صور قادمة من الطفولة أو الفتوة في داخلك ..
دريدا: إنه أمر مميز وأصيل يتعلق بالصورة والذي يجعلني ممتنًا للسينما دائما عليهـ أعلم أن هناك نوع من الوجود بداخلي قائم على الربط بين العاطفة والصورةـ
والذي يأتي من بعيدـ نازعًا عنه احتمالية النشوء من التربية أو الثقافة الفلسفية .
بالنسبة لي فالأفلام متعة خفيةـ سرية وغير قابلة للإشباع
بعبارة أخرى لذة طفولية وهذا ما يجب أن تظل عليهـ لذلك وبلا شك هذا ما جعلني أنزعج قليلًا بالتحدث إليكم لأن فضاء كراسات السينما يعطي انطباعًا ثقافيًا ونظريًا عن العلاقة بالسينما .
كراسات السينما: لكن ما يثير الإعجاب هو أن هذه العلاقة بالسينما المغايرة تمامًاـ غالبا ما تنشأ بتأثير نوعية محددة من الأفلامـ أفلام تقليدية تتذيل كراسات السينماـ أفلام أمريكية ليست حتى من الأفلام المرموقة وإنما أفلام الدرجة الثانيةـ أفلام صغيرة ومخرجين صغار .
دريدا: ربما وجب القول أن كراسات السينما تبحث عن انتقائية أنيقةـ نوع من المطابقة الثقافية باحثة عن اتفاقات معينة يتم على أساسها الذهاب لمشاهدة الأفلام بينما يبدو الأمر بالنسبة لي اقرب لمتعة طفوليةـ كل شيء مباح في الأفلامـ حتى هذه الأنواع اللامتجانسة من الجماهير وعلاقتها المختلفة بالسينما والتي أحيانًا تجتمع في شخص واحد، علاوة على ذلك يوجد في داخلي نوع من التنافس بين طريقتين مختلفتين بالنظر إلى الأفلام أو التلفزيون حتى .
إحداهما قادمة من الطفولة نقية ومفعمة بالعاطفة والمتعة أما الأخرى فهي أكاديمية أكثرـ صارمةـ تحاول فك الشفرات الموجودة في الصور أو الخيال الذي يرتبط بالأسئلة والاهتمامات الفلسفية .
كراسات السينما: في كتاب «أصداء التلفاز » تحدثت عن السينما بطريقة مباشرةـ عن الصور بالعموم وبالأخص عن التلفزيون ولكن عن السينما أيضًا آخذًا بنظر الاعتبار الفيلمالذي لعبت فيه دورًاـ لقد ربطت السينما بنوع من التجربة الخاصة كنوع من الشبحية بالأحرى.
دريدا: إنّ التجربة السينمائية بالكامل تنتمي إلى الأطياف، الأمر الذي أستطيع ربطه كاملًا بما قيل عن الطيف في التحليل النفسي أو للبداية القصوى للأثر أو العلامة .
الطيف والذي لا هو بحي ولا بميت، يتمركز في محور اشتغالاتي الكتابيةـ وهنا بالضبط بسبب هذه العلاقة يمكن للتفكير بالسينما أن يكون ممكنًا .
كما أنّ الروابط بين السينما والطيفية أو الشبحية تنعكس في العديد من المناسباتـ فالسينما هي الأداة الوحيدة القادرة على تجسيد الشبحية بطريقة مباشرة .
فمثلا في أفلام الخيال العلمي التقليدية كأفلام مصاصي الدماء والأشباح أو أفلام معينة لهيتشكوكـ يتحتم ملاحظة أن البنية الطيفية الكاملة للصورة السينمائية تجعل المشاهد في كل فيلميشاهده على اتصال مع اللاوعي بطريقة معينة كالمطارد من قبل الأشباح فبحسب فرويد يمكن أن نسميه “uncanny” تجربة خارقة للطبيعة .
في الحقيقة إن التحليل النفسي وصناعة الأفلام كلاهما حديثا العهدـ فالعديد من الظواهر السينمائية يتم ربطها بالإسقاطـ بالمشهديةـ أو إدراك المشهد وكل هذا يمتلك مرادفا في التحليل النفسيـ أما فالتر بنيامين فقد أدرك مباشرة أن تحليل الأفلام والتحليل النفسي متشابهانـ ربما حتى عملية مشاهدة فيلممعين والسعي لفهم التفاصيل والاسقاطات لها علاقة مباشرة بعملية التحليل النفسي .
فالتوسعة لا تعني التكبير دائمًاـ في السينما دائمًا ما تقود التفاصيل إلى مشهد مختلفـ غير متجانس فالسينما خالية من التكافؤ .
إنها الوحيدة القادرة على إنشاء تجربة كاملة لما يقوم به التحليل النفسيـ التنويم المغناطيسيـ التخيلـ التطابق كل هذه المصطلحات شائعة في السينما كما في التحليل النفسي .وهذه هي الإشارة المباشرة على ما أسميه ” التفكير بالمعية ” والذي أعتبره اساسيًا بالنسبة لي .
إنّ الفرق بين التجربة السينمائية وعملية التحليل النفسي ربما تكون التجربة السينمائية أطول قليلًاـ فعندما تذهب إلى السينما فأنت تسمح بأن يتم تحليلك، تسمح لكل الأشباح أن تظهر وتتحدث إليكـ بطريقة اقتصادية ربما (وبالمقارنة بالتحليل النفسي ) تسمح للأشباح أن تصطادك من خلال الشاشة.
كراسات السينما: لقد قلتَ أنك تستطيع الكتابة عن جانب خاص ومحدد جدًا من السينما ما الذي قصدته بذلك ؟
دريدا: إذا تحتم علي أن أكتب في السينما فما سيثيرني فوق كل شيء هو أنماط وطبيعة الإيمانـ فهناك نوعان فريدان ومتوازيان بالوقت نفسه من الإيمان فيما يخص السينما.
منذ قرن مضى تم اختراع تجربة غير مسبوقة من الإيمان والذي سيكون مدهشًا في كيفية تحليل منظومة الجزاء في كل أنواع الفن .
ما الذي يؤمن به الشخص بالنسبة إلى الروايةـ لحظات معينة من العمل المسرحي، ما ينقش في اللوحات وبالتأكيد كل ذلك معًا عندما يتعلق الأمر بالأفلام ما الذي يؤمن به الشخص في الأفلام ؟
في السينما أنت مؤمن بدون إيمانـ لكنك رغم ذلك تظل مؤمًناـ على الشاشة سواء كانت صامتة أم لاـ أنت تتعامل مع تمظهرات وكما في كهف أفلاطون هذا ما يشكل “عقيدة المشاهد “ـ أحيانًا يكون هذه التمظهرات مثالية
لأن البعد الذي يتواجد فيه المشاهد ليس بالحي ولا بالميت كما لا يمكن اعتباره هلوسة ولا إدراكا حقيقيًاـ إن طريقة الإيمان يجب أن يتم تحليلها بأسلوب أساسي وأصيل، هذه الظاهرة لم تكن ممكنة قبل السينما أو الأفلام لأن هذا النوع من الإيمان يتطلب تقنية محددة والتي توفرها السينما .إنها ظاهرة تاريخية تتجدد محاطة بنوع من الهالة التكميلية، نوع من الذاكرة الذي يسمح لنا لفحص أنفسنا في أفلام الماضيـ لذلك فمشاهدة فيلم تجربة غنية دائمًا فهي تسمح للمشاهد أن يرى أطيافًا جديدة بينما يتذكر (ثم يشاهدها وهي تتجسد على الشاشة) وبهذه الطريقة تستحوذ الأشباح على الشاشة .
كراسات السينما: هل تقصد أن هناك مستويات مختلفة من الطيفية أو الشبحية ؟
دريدا: بالتأكيدـ وهناك صناع أفلام معينين حاولوا أن يتلاعبوا بهذه المستويات الطيفية .
مثلا كين ماكملين مخرج فيلم”رقصة الشبح” والذي لعبت فيه دورًا أيضًاـ هناك عنصر من الشبحية مرتبط بالتعريف التقني للسينما وأثناء التخيل أيضًاـ لقد وضع مكملين على المسرح شخصيات مطاردة بتاريخ من الثورية، وبواسطة هذه الشخصيات التي تنهض من التاريخ ومن النصوص، السينما تسمح بثقافة التطعيم الشبحي، ناقشةً آثار الأشباح على إطارات الصورـ فالفيلم الذي يعرض والذي هو شبح بدوره هو ظاهرة مستحوذةـ على المستوى النظري هذا ما يجذبني إلى السينما كنموذج للتحليل، الذاكرة الشبحية .
السينما حِداد مهيب وهي تسمح دائما أن تطبع بكل ذكريات الحدادـ تلك اللحظات التراجيدية أو الملحمية من التاريخ، هذه اللحظات المتتالية من الحداد مرتبطة بالتاريخ وبالسينماـ هذا ما يجعل السينما اليوم مليئة بالشخصيات المثيرةـ الأجساد المطعمة- من التطعيم – لتلك الأشباح هي المادة الخام للحبكة السردية للأفلام.
لكن ما يستمر بالعودة دائمًا سواء في الأفلام الأوربية أو الأمريكية هي الذاكرة الشبحية لتلك الحقبة من الزمن حيث لم يكن هناك سينما بعدـ كأفلام القرن التاسع عشر مثلاً .
السينما مستمرة بالتطور يوما بعد يوم كي تصبح مرجعًا تتردد عليه مختلف المجالات كالكتابةـ الرسم، الفوتوغراف، حيث لا فن أو رواية يمكنه تجاهل السينما اليوم حتى الفلسفة .
علاوة على ذلك فالسينما تكون ثقيلة بإضافة الأشباح اليهاـ وهذه الأشباح من خلال طرق متعددة ومبتكرة غالبا ما تنجح في أن تتحد مع السينما.
كراسات السينما: لماذا تعتبر السينما الفن الأكثر شعبية وهل ما تزال كذلك ؟
دريدا: للإجابة على هذا السؤال المهم على المرء أن يستخدم أكثر من طريقة للتحليل، أولها سيكون التحليل الداخلي للوسط السينمائي مع الأخذ بعين الاعتبار العاطفة المباشرة والأشكال التي تطبع على الشاشة وفي ذهن المشاهد وذاكرتهـ في جسدهـ ورغباته .
أما الطريقة الثانية فهي أديولوجية كيف لهذه التقنية الطيفية أن ترتبط بهذه السرعة بسوق ضخمة من النظرات والتي تسمح لأي بكرة أن يتم إعادة إنتاجها بآلاف النسخ التي يمكنها أن تترك الأثر في ملايين المشاهدين حول العالمـ وأن تفعل ذلك بطريقة متواترة ومكثفةـ ولو فرضنا أن السينما هي فن فردي صارم أو ذو استهلاك محلي فقط لما نجح كل ذلك .
هذا التواطؤ هو عمل غير مسبوق، ففي فترة قصيرة فقط نجحت السينما في أن تجعل الاشباح التي تظهر مباشرة والعاطفة المتولدة لدى المشاهدين تندمج بالاستثمارات المادية الضخمة والذي يعجز أي فن آخر أن ينجح فيه، لفهم السينما بشكل جيد على المرء أن يرى أن الشبح مع رأس المال يجعل الثاني نفسه يصبح شبحًا .
كراسات السينما: لماذا تعمل السينما فقط- الشكر كله لمجتمع الفرجة، في غرف العرض، لماذا يجب على المشاهدين أن يكونوا مجموعات وليس أفرادًا ؟
دريدا: حسنا لنحاول فهم ذلك انطلاقًا من وجهة نظر المشاهدينـ الإدراك والمعالجة كل شخص يدرك شيئا خاصًا أثناء المشاهدةـ لكن هذه الأشباح المنفردة تعود لتجتمع سوية في كتلة واحدة وعلى المرء أن يتقدم بحذر شديد مع فكرة مجتمع الفرجة أو العرض السينمائي، فهي انطلاقا من تعريفها قائمة على نوع من المسرح، تجميعية وايضًا اشتراكية فيما يخص المشاهدين وتفسيراتهم لكن في الوقت نفسه يكون وجودهم منفصلًا بالكامل في صالة العرض كل مشاهد معزول عن الآخر هذا هو الفرق الأساسي عن المسرح الحيـ والذي يسلب المشاهد عزلته بسبب نوعية المشاهدة التي ينشدها وكذلك التصميم الداخلي للعرض، هذا هو العمق للسياسي الحقيقي للمسرح، فالمشاهدون هم واحد يعبر عن الآراء بكفاحـ وجود مجمع.
أما إذا أصبح الجمهور منقسمًا فهذا سببه نوع من المعارك والصراعات المتولدة من تسلل الآخر إلى قلب الشعبـ هذا ما يجعلني أحيانًا غير سعيد في المسرح وسعيد في السينماـ القدرة على أن تكون وحيدًا قبالة العرض والانفصال الذي تفرضه عملية المشاهدة عليك .
كراسات السينما: هل لديك مشكلة مع الاتصال؟
دريدا: أنا لا أرغب في معرفة أن هنالك مشاهدًا بقربي وأنا أحلم دائمًا بأن أجد نفسي وحيدًا أو على الأقل في صالة السينماـ لذلك لا أفضل أن تستخدم كلمة “مجتمع” في صالة العرض كذلك مفردة “فردانية” تدل على العزلة أكثر من اللازم .أما التعبير الأنسب فهو “الفرادة “والذي يسمح بإزاحة وإلغاء الروابط الاجتماعية ليعيد هيكلتها مرة أخرىـ ولهذا السبب ربما يوجد في صالة العرض نوع من التحليل النفسي المحايد .
أنا وحيد برفقة نفسي لكنني أيضًا مستعد للعب كل أنواع التحولات وبلا شك هذا هو السبب الذي يشدني إلى السينما رغم أنني لا أذهب كثيرًا إلى هناك، بطريقة أو بأخرى فالسينما لا غنى عنها لدي .
يوجد كذلك في جذور السينما الدفينة نوع من الاقتران العجيب الذي يدمج بين الكتل الضخمة – فالسينما فن الكتلة – والفرادةـ هذه الكتلة السينمائية معزولةـ منفصلة ومحايدة كذلكـ في السينما أنا أتفاعل بالشراكة لكنني في الوقت ذاته أتعلم كيف أكون وحيدًا .
نوع من العزلة الاجتماعية والتي ربما تدين بالكثير للطريقة الامريكية في العيش هذه العزلة التي تقاوم الأشباح هي الاختبار الأهم في التجربة السينمائية، لقد تم توقع هذه التجربة والحلم بها وكذلك التأمل في حصولها لبقية الفنون كالأدبـ، الرسم، المسرح، الشعر ، وحتى الفلسفة حتى قبل اختراع السينماـ لنقل ربما تم اختراع السينما لسد فراغ الرغبة في إقامة علاقة مع الأشباحـ فالحلم دائمًا ما يسبق الاختراع .
كراسات السينما: في كتابك الجديد حول موريس بلانشو عدت إلى سؤال مقرب إلى نفسك وقد سبق أن ذكرته من خلال الاهتمام بالصورة في كتابك ” أصداء التلفزيون” كنوع من الشهادةـ يبدو كنوع من أسئلة السينما المركزية.
ما هو الاستخدام الممكن للسينماـ ما الذي تؤمن به السينما ـ هل يمكن للشهادات السينمائية أن تكون دليلاً معتبرًا ؟
دريدا: في العرف الغربيـ لا تملك الوثيقة الفلمية القدرة على أن تكون دليلًاـ فالصورة بشكل عام في منظومة الاعتقاد الغربي قائمة على كونها تفتقر إلى الوثوقية وهذا ما لا يمكن اختزاله والسينما على وجه الخصوص تعامل هكذاـ يمكن ترجمة هذا الأمر على أنه سلوك قديم ورجعي .لكن الفكرة التي يمكن إدراكها بشكل تام هي أن الكتابة والخطاب في تشكلهم الخام والواضح هو ما يمكن الإيمان به فقط وهذه فكرة عقلانيةـ هذه الشفرة القانونية لم تتم محاكاتها أبدًا عندما يتعلق الأمر بالشهادات المستنبطة من الفيلمبالمقابل يمكن للمرء أن يرى أيضًا أن هذه اللاوثوقية القانونية تعود ربما إلى حداثة العهد الذي ظهرت فيه الصورة السينمائية، القابلية اللانهائية على إعادة الإنتاج والخلق بالإضافة إلى المونتاج كذلك القدرة على التركيب وجمع النقائضـ هذا ما يقود الإيمان بالفيلم ليكون وهمًاـ صورةـ وهذا ما يجعل الفيلمدائما منساقًا وراء التأويلات .
الشبح لغز دائم والأشباح التي استعرضت سابقًا في الأفلام مخلوقات غامضة، ربما يمكن للمرء أن يؤمن بهاـ لكنها لا تملك أية قيمة ثبوتيةـ فكر بما حدث لرودني كينغ (مواطن أمريكي أسود تعرض للضرب من قبل الشرطة حيث تم تصوير المشهد من قبل أحد شهود العيان بالصدفة) في لوس أنجلوسـ كان يمكن للشاهد أن يذكر فقط تلك الصور التي رآها من خلال عدسة الكاميراـ لكن الشريط ظهر لكي يكون مصدرًا للنقاشات المحتدمة والتأويلات لكن لو أن الشاهد ظهر فقط وذكر ما قد رآه لكانت شهادته أكثر ثبوتية من الفيديو .
أما صور الحقيقة رغم أنها تقابل دائمًا حالة اجتماعية معينة خالقة نوعًا من الثورة لكنها بطريقة عملية في مثالنا هذا في مجتمع السود كانت أقل وثوقية بشكل متناقض مقارنة مع نظام العدالة السائد أو سلطة البيض .
بشكل أساسي أكثر فإن السؤال هو سؤال العلامة أو الأثر الذي تعرضه هذه اللاوثوقية الصوريةـ فالأثر الأصيل أكثر عقلانية وأكثر اعتمادًا بكثير من الأثر السينمائي .
كراسات السينما: بالحديث عن الفيلم كأثرـ ما رأيك بفيلم كلود لانزمان «المحرقة»؟
دريدا: إنه شهادة فيلميةـ لكنه في الوقت ذاته يمنح الشهادة دورًا مهما حقًا لأنه يرفض وفق منهجية معينة استخدام صور الذاكرة لغرض اكمال حلقة الشهادة أو خطابات الشهودـ أجسادهمـ ايماءاتهم في الزمن الحاضر، ولذلك السبب ايضًا هو فيلمذاكرة عظيم لأنه يستعيد الذاكرة قبال المشهد وبالتأكيد ضد إعادة الخلق .
إن الحاضر يمنع إعادة المشهد وبهذا المنطق أعتقد ان لانزمان أوضح بأفضل طريقة كيف يمكن للأثر أن يكون داخل الفيلمفيلم «المحرقة» هو بحث دائم عن العلامات عن الآثار فقوة الفيلموعاطفته كلها متمركزة حول تلك الآثار الشبحية دون الحاجة لإعادة تشكيلها، إن الأثر الموجود داخل الفيلمهو ما أسميه ” المتبقي”.
فكل أولئك الشهود هم ناجون عاشوا ذلك كله وعاشوا ليحكوه فالسينما هي السيمولاكر (المحاكاة) المطلقة للمتبقي المطلق، تروي لنا ما لا يمكننا تجاوزهـ تروي لنا الموتـ من خلال معجزتها الشبحية الخاصةـ إنها تنبهنا إلى ما لا يجب أن يترك وراءه أي أثرـ إنها الأثر المضاعفـ أثر الشهادة نفسهاـ أثر النسيانـ أثر الموت المطلق أثر اللاأثرـ أثر الفناء إن صح القول .
إنها المنقذـ من خلال الفيلمللذي يبقى دون خلاصـ خلاص من لا خلاص له، تجربة المتبقي المحض، وهذا ما يتلقاه المشاهد بوجهه ويستولي عليهـ هذا الشكل الذي تم إيجاده “للمتبقي ” لا جدال فيهـ هو بالتأكيد الشكل الأصح للصورة السينمائية الناطقة .
كراسات السينما: ما الذي يوجد في فيلم«المحرقة» والذي يبدو لك سينماتوغرافيا بشكل خاص ؟
دريدا: العرض دون الحاجة لإعادة التجسيد لخطابية الشهادة هو شيء مدهش لأنك تتحدث عن الأفلام فيلم «المحرقة» كان ليكون أقل قوة بكثير وأكثر عقلانية لو كان وثيقة صوتية فقطـ فعملية عرض الأثر ليست عرضًا سهلا أبدًا كما لا يمكن أن يكون مجرد إعادة تجسيد أو صورة لأن الأثر يلتصق بالأجسادـ يدمج الإيماءات بالخطاب يروي ويموضع نفسه داخل المنظر.
لقد نجت الأشباح! إنها تتجسد من جديد تتجسد في خطاب أولئك الشهود، إنها ظاهرة عجيبة بحقـ هذه هي الشبحية “عودة المتبقي “
قبل أن يكون تاريخيًاـ أساسيا أو أرشيفا فإن قوة فيلم «المحرقة» هي قوة سينماتوغرافية بالأساس، لأن الصورة السينمائية سمحت للشيء ذاته (الشهود الذين تحدثواـ يومًا ماـ في مكان معين) لا أن يتم خلقه من جديد بل أن يكونوا أنفسهم مرة أخرى .هذه المباشرة في كونهم أنفسهم مرة أخرى مع وجود ظاهري متمثل للعيان مع كل مشاهدة جديدة هو جوهر السينما وفيلم لانزمان .
كراسات السينما: هذه القدرة في تقديم ما لا يقبل التجسد أو إعادة العرض في فيلم «المحرقة»، تؤدي بطريقة معينة إلى التخلص من كل محاولة لإعادة هيكلة الإبادة أو عرضهاـ كيف تفسر هذا؟
دريدا: إنه ما يتجسد من خلال الاختفاءـ الغياب المباشر لإعادة هيكلة الصورة كما كانت كما حكي عنهاـ كل هذا يؤسس لعلاقة بيننا وبين أحداث الفيلمهذا هو ما أسميه غير القابل للتجسد بينما في أفلام أخرى مهما كانت نقاط قوتها أو أخطائِها والتي أعادت تجسيد الإبادة تضعنا في علاقة مع نسخة، إعادة تجسيد فقطـ وهذا ما لم يقم به فيلم «المحرقة».
هذا التناسخ يؤسس لضعف رهيب في حدة الذاكرةـ على فيلم «المحرقة» أن يظل دائمًا في صيغة ” لقد حدث ذات مرة ” وأن يستحيل عليه أن يكون في صيغة ” لقد حدث ذات مرة هكذا.”
كراسات السينما: إن قوة فيلم «المحرقة» قائمة بشكل أساسي على عملية تسجيل الأصوات، وهو الأمر الذي تملك حساسية شديدة تجاهه فقد قمت على سبيل المثال بتسجيل قراءاتك لنصوصك حيث ذبت تمامًا في صوتك ما هو تعليقك؟
دريدا: إن فيلم «المحرقة» أكثر من مجرد عملية تسجيل للأصوات لكن للإجابة على سؤالك نعم فعملية تسجيل الأصوات هي من الظواهر الأساسية للقرن العشرين. إنها تمنح الوجود الحي فرصة لا يملكها وغير مسبوقة في أن يكون ” هناك مرة أخرى”. من الأشياء العظيمة في السينما هي إدخالها للأصوات في مرحلة معينة من تاريخهاـ هذا الأمر لم يكن مجرد إضافة أو عنصر معززـ وإنما عودة إلى جذور السينما لتعزيز كونها أداة للأرشفة .
الصوت في السينما لا يضيف شيئًاـ إنها السينما التي تشارك الصوت الطبيعة نفسها في رصد حركة العالمـ أنا لا أؤمن مطلقًا بفكرة فصل السينما – pure cinema – عن الكلام .فهما ينحدران من الجوهر ذاته، عملية تجسيد “الهو هناك” في عالم يوجد لكي يكون ماضيًا للأبدـ غائبًا بشكل جدلي وغير قابل للتجسد الحي مرة أخرى .
كراسات السينما: هناك أمر سينمائي آخر يثير القلق ألا وهو المونتاج ما هو رأيك بهذه التقنية التي تسمح للمرء أن يجمع ويركب ويفكك في الوقت ذاته ؟ إنها مسألة مهمةـ فالسينما بلا شك قد ذهبت بعيدًا استخدام ادواتها على السردـ هل يمكن للشخص ان يجد رابطا بين مفهوم «التفكيك» الذي صغته وبين المونتاج في السينما؟
دريدا: ليس هناك أي تزامن حقيقي لكن هذه المقارنة مهمة بالنسبة لي بين طبيعة الكتابة التفكيكية التي شغلتني وبين السينما، ربما هناك رابط جوهري ألا وهو استغلال الكتابةـ سواء كان أفلاطونـ دانتي أو بلانشو من بين كل احتماليات المونتاج التي تحمل ايقاعها الداخلي، التطعيمات الاقتباسية، المدخلات التغيير في النبرةـ التغيير في اللغةـ التناوب بين الاختصاص وقواعد الفن، الفنون بشكل عام والسينما بالأخص لا تملك أي نوع من التكافؤ في هذا النطاق ما عدا الموسيقى ربما.
لكن الكتابة كانت مُلْهَمة وطامحة دائما لفكرة المونتاجـ بالإضافة إلى أن الكتابة – او لنقل الخطابية- والسينما مسحوبتان إلى التقنية نفسها والتطور الجمالي نفسه الذي يعاد صقله باستمرار، احتمالات معجلة وسريعة تمنحها الحداثة التقنية (الحواسيب الأنترنت الصور الاصطناعية) السائدة الآن .
والذي يشكل بطريقة معينة عرض فريد أو حاجة ملحة إلى «التفكيك» سواء في الكتابة أو في الأفلام .
الأمر مقتصر على كيف تقوم بذلك القص واللصق إعادة هيكلة النص، الإدخال المتسارع لعملية الاقتباس كل شيء ممكن مع الحاسوب كل هذا جعل الكتابة تقترب أكثر فأكثر من المونتاج السينمائي، وكتحصيل حاصل، فالنتيجة هي أن كل زيادة للتقنية تجعل الفيلمبشكل مفارق أقرب للأدبـ كما هو من الواضح الآن أن الكتابة تعكس نوعًا من الصورة السينمائية لرؤية العالم سواء كانت تفكيكية أو لا لذلك فالكاتب مونتير (المسؤول عن المونتاج) دائم وربما اليوم هو أكثر من ذلك .
كراسات السينما: هل تحس وأنت تكتب أنك أشبه بصانع أفلام؟
دريدا: أنا لا أحس بأي نوع من المبالغة في قول ذلكـ فبشكل واعٍ عندما أكتب شيئا فأنا كمن يعالج فلماً ما يثير اهتمامي فيما يخص الكتابة هو المحتوى أولاً ثم الشكل لاحقًا، التراكيبـ الإيقاعـ ترتيب التفاصيل والسرد موكب القوى الشبحية التي تشكل تأثيرًا خاصًا يشبه بطريقة سحرية ما تفعله الأفلام، صحيح إنها مصحوبة بالخطاب والذي يمكن أن أصفه كسياق منفصل لكن على أية حال وبشكل مفارق يبدو أن هذه العملية هي السينماـ وهي غير قابلة للتساؤل .
أيضًا وعندما أشعر بنشوة الكتابة فتلك النشوة ليست مبنية على أنني “أقول الحقيقة ” أو “معنى الحقيقة ” بل على تركيبية المشهد، سواء كان ذلك في كتابة المؤلفات أو في التدريس الأكاديميـ كما أنني أحسد أولئك المخرجين الذين يعملون على المونتاج بآلات شديدة الحساسية ليخلقوا فلمًا بطريقة عالية في الدقة .فهذا هو ما أبحث عنه دائما سواء في الكتابة أو الحديث، رغم أنه في حالتي أنا أرى أن الأمر يبدو أكثر حرفية هكذا وأيضا حتى وإن كنت أؤمن أن تأثير “الحقيقة” و”المعنى” تشكل نقاط ضعف فهي حتما تؤسس لسينما أعلى .
كراسات السينما: أود الحديث عن فيلم «دريدا في مكان آخر» لصفاء فتحي، والذي لعبت فيه دورًا مزدوجًا كموضوع مرة وكممثل مرة أخرىـ يبدو الأمر بالنسبة لي أن هذه التجربة قادتك إلى التفكير في السيطرة على الآلة السينمائية (هواجس الفيلم والمونتاج) والسينما بشكل عام أيضًا؟
دريدا: كان هناك فترات عديدة في هذه التجربة، كنت منجذبًا لاعتبار نفسي في فترة معايشة لصنع الأفلام كما في ورش كتابة الرواية ربماـ لكن بعيدًا عن كل شيء لقد تعلمت، فهمت أو ربما لامست بطريقة غير مباشرة أن لا شيء يوازي هذه التجربة الصلبة التي تترك فراغًا ضئيلاً للجسد كي يسحب منهـ لقد تمكنت من فهم عديد الأشياء حول السينماـ التقنيةـ السوق… الخـ من ناحية أخرى فالأمر يبدو أقرب ل “تدوير الكلمات ” (كتاب لجاك دريدا كتبه على ضوء تجربته في الفيلم أعلاه )ـ لقد كنت أمثل نفسي كممثل .
في أثناء كتابة النص تلاعبت بمفردات ممثل ومؤلف بكتابتها بأحرف كبيرةـ لقد كانت لعبة لكنها جادة نوعا ماـ لقد كان علي أن ألعب دورًا هو في النهاية شخصيتي أناـ من عساه يكون شخصية واحدة ! كلنا لدينا شخصيات اجتماعية عديدة )ـ لذا فقد كان أمرًا مهما بالنسبة لي أن ألعب دور نفسي مرات عديدة والتي اختارها المؤلف بعد أن اقترح علي خيارات متعددة تحتم علي أن آخذها بالحسبان على سبيل المثال فقد اختارت المؤلفة صفاء فتحي أن تزيلني من الفضاء الفرنسي. لقد اختارت عن عمد أن تضعني في ” مكان آخر ” من خلال إعادة هيكلة جينالوجيا خيالية لتضعني في الجزائرـ في إسبانياـ في الولايات المتحدةـ كان علي أن أتغلب على هواجسي الداخلية في فضح نفسي أمام الكاميرا أو اتباع خيارات المؤلف .
في الفترة الأخيرةـ بعد التصوير والمونتاج (والذي لم أفعل أي شيء بخصوصه) كل منا على حدة كتب مجموعة من النصوص والتي جمعت لاحقًا في كتاب ” تدوير الكلمات “ـ الأمر الذي سمح لي بقول عددًا من الأشياء التي لا يمكنها تعويض الفيلملكنها تشاركه هدفه.
كراسات السينما: يبدو أن النصوص أعادت هيكلة الفيلم لتأخذه إلى بعد آخر ووضعه في ترتيب مختلفـ هناك رابط واضح نظرًا لكون العملين يتشاركان الهموم نفسها وأحدهما مكمل للآخر ما تعليقك؟
دريدا: إن الكتاب والفيلممرتبطان ببعضها لكنهما منفصلان في الوقت ذاته بطريقة جدليةـ سأحاول أن أشرح ذلكـ في عدد معين من صوره المتتابعةـ اعتمد الفيلمعلى بعض التعابير الفرنسيةـ تعابير غير قابلة للترجمةـ على سبيل المثال كلمة ” ail-leurs” أو في مكان في آخر في النص، لقد لاحظت أن اللغة الفرنسية بقدر معين تحطم تدفق الصورة من الداخل كما أن عليها أن تكون عابرةً للحدود لأن الفيلم سيتم توزيعه في بلدان أوربية غير ناطقة بالفرنسيةـ فماذا سيحدث مع الترجمة؟
الكلمات قابلة للترجمة (رغم أن العملية مجهدة عند كل خطوة) لكن ما يربط الصورة والكلمة لا يمكن ترجمته .
وهذا يتضمن بعض الدعامات التي يمكن اعتبارها أصلية بطريقة ماـ على المرء أن يتقبل ذلك. في الفضاء السينمائي كان الفيلم يحوي تعابيرًا غير قابلة للترجمة كما أن الترجمة يجب عليها أن لا تفقد الصورة تعبيرها، بالنهاية علاقة الصورة بالكلمة.
كراسات السينما: هل هناك مشكلة أخرى قد تكون شعرت بها تخص الانفصال بين الصورة والكلمة؟
دريدا: نعم هناك واحدة من أكبر مخاطر الفيلموالتي يشير إليها عنوان كتاب ” تدوير الكلمات ” والذي يلزم أن تتجنب الكلمةـ أن تدور حولها وأن تسمح للسينما بمقاومة سلطة الحوار في الوقت نفسه لقد كانت عملية صعبة في تحويل الكلمات لتكوين جملاً هي ليست جملًا مخصصة للحوار، للمقابلاتـ للتدريس وإنما جمل مجهزة مسبقًا لتناسب السينماـ في النهاية يتحتم على المرء أن يسمع ال ” تدوير ” وأن يفهم الـ”تدوير” في سياق الكلمات السينمائيةـ كيف تتأفيلمالكلمة لتصبح صورًا غير قابلة للانفصال عن الجسدـ ليس الجسد المتحدث فقط ولكن عن الجسد الأيقوني أيضًاـ والذي يظل رغم كل شيء محض كلمات حاملاً بداخله أصواتهاـ نغماتهاـ وايقاعها لكن هذه الكلمات يمكن أن تنتزع أحيانًا من خلال ارتجال معين أو قراءة أخرى لأن هناك بعض المارة يقرأون كما تُقرأ لافتات الشوارع .
لم يتم تعريف الأماكن مطلقًاـ لقد كانوا يذوبون أحدهم في الآخر لأنهم كانوا يحملون الطابع نفسه لجنوب كاليفورنياـ إسبانياـ الجزائرـ مناطق ساحلية أو مناطق البحر المتوسط واللحظة الوحيدة التي يمكن أن تتعرف فيها على تلك الأماكن هي من خلال ظهور إحدى لافتات الشوارع التي تدل على تلك الاماكن .
إنها تجربة تدفعك لكي تكون سينمائيًا حقيقيًا وأن لا تضحي بالحوار الذي يتبع قوانين الفيلمهناك أحيانًا سؤال في الفيلميحمل ثيمة العنوان الوجهةـ ضياع البوصلة، من الذي يدل الآخر؟
ما يجب اعتباره في الصورة ليس فقط ما يمكن رؤيته مباشرة وإنما تلك الكلمات التي تقطن داخل الصورـ اللامرئي الذي يكشف منطق الصورةـ تلك هي المقاطعة، الانتزاعـ الفضاء الكامل للامرئي الذي يمر فوق المرئي إن تقنية القطع التي استخدمت في الفيلمهي غاية في الدهاء، أحيانًا كنت أتحدث وكذلك تتحدث صفاء فتحي معي لكن بصيغة الغائب هذه المقاطعة لتدفق الصور لا تقطع التأثير الذي تولده الصور، إنها تعزز القوة التي يملكها الزخم المرئي إن تتالي القطع هذا سواء استمر أو لم يستمر فهذا يعود إلى الوجهة والتي تعود إلى المشاهد في هذه الحالةـ ليوجه نفسه بترك الأشياء لترسم طريقها الخاص سواء تتبعت الغُرَزَ أو لم تفعل بالتالي.
فأن هذا الجسد المؤلف من الصور قد خيط بالكامل باللامرئي ليس بالضرورة أن يكون اللامرئي هو الأصوات الناشئة من الكلمات بل هي لا مرئية أخرى، أنا مؤمن أن أشكال ضمير الغائـ الانتزاع أو المقاطعة هي ربما الأنسب لهذا الفيلمما يمكن رؤيته في هذا الفيلمهو بلا شك أقل قيمة مما لم يقلـ اللامرئي الذي يجسد رمية النرد .
إنه فيلمعن الحداد (موت القططـ موت أمي) وهو فيلم في حداد على نفسهـ ففي كل عمل هناك نوع من التضحيات، حتى أثناء كتابة نص أو كتاب على المرء أن يقوم بنوع من التضحيات رغم أن القيود أقل إنها أقل خارجية فعندما يكتب المرء كتابًا ليست هناك حاجة لكي يطيع كما هي الحالة هنا أكثر صرامة وخاضعة للمعايير الترويجية ولقوانين وسائل الإعلام لذلك أعتبر الكتاب هو نوعًا من المتنفس أو الراحة .
كراسات السينما: ما الذي تراه بخصوص تجربتك في هذا الفيلم تجاه المفاهيم العامة للسينما والتلفزيون كسؤال الأشباح مثلاً؟
دريدا: إن ثيمة الأشباح المعروضة في هذا الفيلمذات طبيعة متعددةـ إنها تقارب الحدادـ الفروق الجنسيةـ العنونة، الميراث، إن الشبحية تستمر بالعودة بطريقة منظمة حتى ولو كصورةـ قد يرى أحدهم صورة لأمي شبح قطة، النسخة المتطابقة لقطة ميتة تحاول تقليد ذلك الموتـ إن هذه الثيمة قد تعالج بشكل استطرادي أو تتم معالجتها من خلال الصورةـ في مؤلف ” أصداء التلفزيون” كنت قد قاربت سؤال البعد الشبحي هذا للصورة التلفزيونية أو السينمائيةـ إن السؤال هو سؤال ” الافتراضي” وهو يحمل مسارات سياسية والتي تظهر في مؤلف ” أطياف ماركس” أيضًاـ إن كل هذه الأشكال تشكل شبكة لا تنفصل من الأنماط التي تتأفلم الطريقة التي تتأفلم بها السينما نفسها من خلالهاـ بما أن السينما هي مثالنا في هذا السؤال المطروح بكلمات أخرى إن الأمر كما لو أن تلك الصور الشبحية قد أتت إليك لتخبرك إنها صور شبحيةـ كيف يمكن تصوير فيلم لشبح يقول إنه شبح ؟ بالتزامن مع الطبيعة القلقة ووجهة نظر الضحية الي تحكم عالم ما بعد الحياةـ بالنسبة لشخص يعرف إن الصور لا تفنى كما النصوص سيتحتم على المرء أن يشاهد صورة أخي الصغيرـ أمي، قطتي.. الخ ليس بعد موتهم فقط وإنما بعد موتي أنا حتىـ هذه العملية قد تسلك السلوك نفسه الذي تسلكه في التعامل مع الجوهر “الافتراضي” الذي يطبع كل تقنيات إعادة الخلق أو التجسدـ يمكن للمرء أن يرى في هذه الحالة كلا الطبيعتين في ذروة توحشهماـ المد والجزر في كاليفورنياـ إسبانياـ الجزائر وكذلك القادم لإعادة الخلق والتسجيل والأرشفة .
كراسات السينما: لقد تم التفكير في الشبح في لحظة معينة من تاريخ نظرية الفيلم لكن الآن هذه الفكرة تنحو تجاه المعاكس للمفهوم السائد للصورةـ افتراض ربما يحتم على كل شيء مرئي أن يتسم بالتناسق كي يمكن الإيمان به ؟
دريدا: في الأديولوجيا العفوية للصورةـ قد ينسى المرء قضيتين مهمتين ألا وهما التقنية والإيمانـ حيث الصورة (سواء كانت فلمًا أو نشرة أخبار) من المفترض أن تضعنا وجهًا لوجه مع الأشياء كما هي بدون خدع، أما الناس فيحاولون نسيان أن التقنية يمكنها بشكل محتوم أن تحولـ تعيد صياغةـ تضع لمساتها على الأشياء، وعند ذلك تتولد ظاهرة غريبة جدًا وهي الإيمانـ حتى ولو في فيلم خيالي، فظاهرة الإيمان تظهر على سبيل المثال في الاعتقاد أن الفيلم يملك خصوصية تجعله غير قابل للتحليل، يؤمن المرء بالأفلام أكثر مما يؤمن بالكتب، أما الموسيقى فهي شيء مختلف إنها لا تتطلب أي نوع من الإيمان كما في إعادة الخلق الروائي أو الخيال السينمائي. إن ظاهرة الإيمان تعتمد بشكل أساسي على إعادة الخلقـ الشبحية هي العنصر الذي لا يشكل الإيمان به أي نوع من الإثبات أو النفي، لذلك أرى أن على المرء أن يربط دائمًا بين سؤالي التقنية والإيمان، في المنطق الديني كل الامتنان مبني على الصورةـ على التوهمـ بينما لدى الإغريق وليس الإغريق فحسبـ فإن التخيل يميز بين الصورة والعائد، تلك هي الشبحية .
كراسات السينما: ما هو رأيك بالأفلام التي تناولت مخيمات التحرير النازية في علاقتها مع النصوص المكتوبة ؟
دريدا: إن فيلم «المحرقة» مثلًا هو لغة مكتوبة بقدر ما هو مؤلف من الصورـ إنها ” كلمات مؤفلمة” بطريقة معينة. إن الخطاب المتأفيلمليس مجرد كلام مطبوع على شريط الفيلم إنه خطاب يتعرض للترجمة فهو على سبيل المثال عرضة للمقاطعةـ للتكرارـ عندما تكون في موقف لصنع عمل منفتح يمكن الوصول إليه أشبه بأن تجعل الترجمة قابلة للترجمة.
كراسات السينما:هل تعتقد إن قوة الصورة على حساب النص هي ما جعل كتابًا ككتاب روبرت التمان ” العرق الإنساني ” لا يترك ذلك الأثر الكبير وقتها؟
دريدا: ربما حتى هذه اللحظةـ إنها شهادة مهمة لكنني لا أملك أي قدرة في السيطرة على عملية توزيع الأفلام ، أنا حقًا لا أرغب في أن أختار بين الاثنين، فأنا لا أرى أن أحدهما يستطيع أن يأخذ مكان الآخرـ بالإضافة إلى ذلك هناك الكثير من الصور في كتاب “العرق الإنساني ” هو ربما يكون كتابًا مُتأفلمًا بطريقة ماـ بينما فيلمالمحرقة هو نص مُتأفلم جسد من الكلمات وكلام متجسدـ الوقت الذي استغرقه لكي يجمع تلك الشهاداتـ الطريق اللاواعي الذي أوصله لتلك الأراشيف هو أمر يستحق الثناءـ هناك وقت (فيزيائي أو تقني) لإزالة القمع السياسي لقد كنت أقرأ مؤخرًا (لسبب قد أذكره في مكان آخر) كتاب سارتر” معاداة السامية واليهود” والذي كتب بعد الحرب كما إن بعض صفحاته كتبت في عام 1944ـ الطريقة التي تحدث بها عن المعسكرات النازية كانت مختصرة جدًاـ غريبة ربما الأمر الذي يجعلني أتساءل هل عرف عنهم حقًا أم لا ؟ فبعد الحرب لم يكن هناك أي جدال حول أوشفيتزـ اسم أوشفيتز كان اسمًا غير مسموع مجهول أظن إننا نحتاج إلى التحليل النفسي بشدة في الحقل السياسيـ للحداد المستحيل للقمع .
فالتر بنيامين مهم هنا أيضًاـ فقد ربط بين السؤال التقني للسينما بسؤال التحليل النفسي يكشف التفاصيل هو أمر يقوم به كل من السينما والتحليل النفسي بكشف التفاصيل فإن المرء يقوم بأكثر من مجرد تكبيرها وإنما تغيير عملية إدراكها نفسهاـ إن المرء ينتمي إلى فضاء مختلف وزمن غير متجانس في كلا الأمرين بخصوص الأرشفة والشهادة .
كراسات السينما: هل تعتقد إن الصور هي نحت للذاكرة أو مصادرة لها ؟
دريدا: كلاهما. إنه نحت بطريقة مباشرة، حفظ لكل من الصورة في لحظة التقاطها أو أفعال الذاكرة التي تتحدث بها الصورةـ في فيلم “دريدا في مكان آخر ” كنت قد استدعيت الماضي كان هناك لحظتان لحظة الحديث واللحظة التي أتحدث فيها هذا الأمر يمهد تلقائيًا لدمج نوعين من الذاكرة في بعضهماـ لكن في اللحظة التي يتعرض فيها هذا النحت إلى القطع، التعديل، الاختيار يتحول الأمر إلى كونه مصادرة من جانب وفرصة من جانب آخرـ عملية استحواذ عنيف من قبلي ومن قبل المؤلف، عندما أتحدث عن الماضي الخاص بي بطريقة طوعية أو لا فأنا أنتقيـ أنحتـ وأنحي فأنا لا اؤمن أن هنالك أرشيف يحفظ فقطـ وهو أمر حاولت أن أشير له في مؤلف قصير بعنوان “حمى الأرشيف”.
الأرشيف هو مبادرة عنيفة تولدها سلطة أعلى قوة معينةـ تنقل نفسها إلى المستقبلـ لتستحوذ عليه بطريقة قبليةـ إنها تصادر الماضي الحاضر والمستقبلـ فالكل يعرف أنه لا يوجد شيء اسمه أرشيف أمين.