“السفير”: “أيام بيروت السينمائية”.. مأزق الفرد وقاع المدينة


كتب نديم جرجورة في جريدة “السفير” اللبنانية بتاريخ الثلاثاء 20 مارس يدعو محبي السينما إلى مشاهدة أربعة أفلام تعرض خلال مهرجان أيام بيروت السينمائية الذي يقام سنويا في العاصمة اللبنانية..

يُقدِّم اليوم الخامس من “أيام بيروت السينمائية”، التي تُقام دورتها السابعة بين 15 و24 آذار 2013 في صالتي سينما «متروبوليس» (الأشرفية)، أربعة أفلام حقّقها مخرجون منتمون إلى أجيال مختلفة. يُقدِّم ندوة بات عنوانها («معاً نحو إلغاء الرقابة المسبقة على الأعمال الفنية»، الرابعة بعد ظهر اليوم، في صالة سينما «متروبوليس» أيضاً) سؤالاً ملحّاً ينتمي إلى تلك الأسئلة الثقافية والأخلاقية والقانونية والحياتية الكثيرة، المطروحة في بلد يُعاني مأزق وجود، قبل أن يُعاني مآزق متعلّقة بهويته وبنائه الداخلي. بهذا، تبدو الـ”أيام”مستمرّة في منح المهتمّ فرصة مشاهدة أفلام ذات أسس سينمائية متينة، ومواضيع إنسانية مفتوحة على السياسي واليومي والانفعالي. بهذا، تبدو الدورة السابعة غنيّة بالمشوِّق والبديع، وثرية بحيوية طرح أفكار وسجالات يُفترض بها ألاّ تبقى أسيرة التنظير.


أربعة أفلام متمحورة حول بؤس الفرد في مواجهة الجماعة، أو ربما في العيش فيها ومعها. فيلمان وثائقيان قصيران هما: “أبي يُشبه عبد الناصر”للّبنانية فرح قاسم، و”تحت الضغط”للدانماركية جولي بزيرا مادسن (يُعرضان في حفلة واحدة، السادسة مساء). هناك فيلمان روائيان طويلان أيضاً: “بيع موت”للمغربي فوزي بنسعيدي (السابعة والنصف مساء)، و”التائب”للجزائري مرزاق علواش (العاشرة ليلاً). التنويع محرّض للمُشاهدة. التنويع حاضرٌ في المواضيع وأشكال التنفيذ. في الأسئلة المطروحة. في المعالجة الدرامية والبصرية. التنويع ضروريّ.

التشابه حاصلٌ في كون الأفلام الأربعة متمحورة حول مأزق الفرد، وإن بأنماط مختلفة من الاشتغال السينمائي. الفرد كمدخل إلى شأن حياتي، في السياسة والثقافة والمجتمع. فرح قاسم ذهبت إلى والدها لتدخل إلى عالم ذاتي مفتوح على ذاكرة بيئة وفضاءاتها. جولي بزيرا مادسن عاشت مع شابين سوريين مقيمين في بيروت بسبب الوضع الخطر في بلدهما، وملتزمين الموسيقى خلاصاً أو تحصيناً لهما من الخراب والخوف.

الفيلمان الوثائقيان مستندان إلى الفعل الوثائقي الروائي. أي أنهما لا يقفان داخل التقنية الوثائقية السينمائية البحتة، بل يستخدمان المتخيّل أحياناً في إعادة صوغ اللحظة. في إعادة إنتاج الذاكرة بالصورة السينمائية. الحميمي في “أبي يُشبه عبد الناصر”جعل النصّ والصورة ركيزتي حكاية ذاتية بحتة. الإنساني في “تحت الضغط”أطلّ على واقع راهن وتفاصيل خاصّة بهذين الشابين.


مع فوزي بنسعيدي ومرزاق علواش، يُصبح الذهاب إلى الأماكن الخطرة رحلة بحث عن وقائع العيش على جمر الخراب. أقول الأماكن الخطرة، ولا أكتفي بالجغرافيا أو الروح. الذهاب يحمل في ذاته متعة المُشاهدة السينمائية أيضاً. متعة اكتشاف مزيد من براعة الصورة في جعل الحكاية القاسية أخفّ وطأة. أو ربما أثقل وطأة لشدّة جمال هذه الصورة في محاكاة الواقع، وإن كان قاسياً. بنسعيدي يغوص في قاع المدينة. في قاع أفراد محطّمين ومحاصرين بين شتات داخلي وغربة خارجية. في قاع أرواح هائمة في أزقّة النهايات غير المكتملة. علواش مفتون بسؤال التطهّر ونتائجه. أصوليّ إسلاميّ يستجيب لنداء التوبة، فيبدأ واحدة من أقسى الرحلات العنيفة. شباب «بيع موت» محتاجون هم أيضاً إلى رحلة التطهّر. بل إنهم عاشوها، وانتهوا فيها من دون أن تكتمل نهاياتهم. التوبة بداية درب شائك ومعقّد. الماضي لا يرحم. مع هذا، لا يُمكن الخلاص منه إلاّ باستعادته ومواجهته. “التائب”محتاج إلى صفاء ذاتيّ كي يصنع توبته. كي تصنع توبتُه خلاصَه. الصفاء يعني الاغتسال. الاغتسال يطلب اعترافاً صريحاً بأفعال قديمة. يطلب بعدها مغفرة وتوبة.


فوزي بنسعيدي يُفكّك قاع مدينة تطوان. البداية؟ قصّة عادية جداً: ثلاثة أصدقاء يريدون سرقة محل للمجوهرات، بهدف الخلاص من بؤس وفقر وعتمة وقرف وخوف وراهن يُكبِّل. السياق؟ لحظة واحدة كفيلة بتبديل كل شيء. بفتح أبواب الجحيم. بدفع هؤلاء إلى خيارات غير واضحة، ونتائج ملتبسة.

مرزاق علواش يُفكّك مفردات العلاقة القائمة بين توبة وعجز عن بلوغ أمان منشود. البداية؟ أصوليّ إسلاميّ استجاب لنداء السلطة: توبوا، تُنقَذوا. السياق؟ لا يُمكن للتوبة أن تُقبل بسهولة. قتل ومجازر أبطالها مدّعو إيمان بإسلام يتلاءم وأفكارهم المعتمة. التوبة صعبة. الطريق إليها أيضاً. الطريق بعدها أصعب. الذهاب إلى المدينة أفضل. العمل في مقهى. لكن صدفة واحدة فجّرت الماضي كلّه، من دون أن تُرمِّم شيئاً.

لقاء الأصولي السابق بصيدليّ لحظة تحوّل دراماتيكي صعب ومُقلق. الأصولي السابق يعرف من خطف ابنة الصيدلي ومن قتلها ومن دفنها وأين دُفنت، قبل خمسة أعوام. محتاج هو إلى مال للهروب من تاريخه وخيباته. هناك رحلة طويلة يعيشها التائب والصيدلي والزوجة السابقة لهذا الأخير. رحلة محفوفة بجنون ودموع وصمت قاتل.


أربعة أفلام مرتبطة كلّها بهواجس وأسئلة. لكن الأهم كامنٌ في أنها تُقيم رحلات داخل الذات والروح، بحثاً عن منفذ ما من جحيم الأرض هذه.

Visited 5 times, 1 visit(s) today